عادت منطقة إيسيكيبو في غويانا، الحدودية مع فنزويلا والبرازيل، إلى قلب الحدث في أميركا اللاتينية، وسط خشية من أن تقوم كاراكاس بخطوة إضافية في اتجاه إشعال الأوضاع على الحدود، لما تقول إنه حقّها في استعادة هذه المنطقة من غويانا، والتي تشكّل حوالي ثلثي مساحة هذا البلد، وتعدّها فنزويلا جزءاً من أراضيها، وسط خلاف حدودي يعود إلى قرون.
وإذا كان البلدان قد اتفقا على عقد قمّة، غداً الخميس، في محاولة لنزع فتيل الأزمة، وتجنب التصعيد العسكري، بوساطة برازيلية، فذلك ربما لأن البلدين لا يقويان على الحرب، بينما قد تضع كاراكاس شروطاً تصعّب مهمة الوساطة، في أزمة تحمل أبعاداً استراتيجية واقتصادية مستجدة. وتجد الولايات المتحدة نفسها اليوم في خضمّ هذه الأزمة لمواجهة سيناريو تلّوح به كاراكاس، ويشبّهه البعض بالغزو الروسي لأوكرانيا، ويهدّد مصالح واشنطن في حديقتها الخلفية.
شدّ حبال بين كاراكاس وواشنطن حول إيسيكيبو
ووصلت لعبة شدّ الحبال بين نظام الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، المختنق بالعقوبات الأميركية، والولايات المتحدة، إلى إيسيكيبو، حيث سال لعاب كاراكاس مجدداً على هذه المنطقة، التي تبلغ حوالي 160 ألف كيلومتر مربع، والغنية بالمعادن، بعدما أزاحتها كاراكاس، لفترة طويلة من عهد الرئيس الراحل هوغو شافيز، عن أجندتها، وغضّت البصر عن مطالباتها باستعادتها كأحد موروثات عهود الاستعمار التي من نصيبها. مع العلم أن النزاع بين فنزويلا وغويانا موضوع على طاولة محكمة العدل الدولية منذ 2018 بعدما رفعت غويانا الدعوى، وقد يحتاج البتّ فيه لسنوات طويلة أخرى.
يعقد الاجتماع بحضور الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا
وإذا كان من أسباب لهذه "الصحوة" الفنزويلية تجاه المنطقة، فإنها تتضمن 3 أبعاد: وطني قومي واقتصادي وعسكري. ومع الاكتشافات الجديدة النفطية في إيسيكيبو، التي أعلنت عنها شركة "إيكسون موبايل" الأميركية، منذ 2015، والتي بإمكانها نقل غويانا من مرتبة الفقر إلى مصاف الدول الاقتصادية الغنية في المنطقة، والأعلى نمواً ودخلاً، فإن مادورو، الذي يقف على أعتاب انتخابات رئاسية صعبة في العام المقبل، والذي تفاوضه واشنطن من تحت الطاولة لرفع الحظر مقابل "انتخابات حرّة"، قد وجد في مفتاح هذه المنطقة ضالته للضغط على الإدارة الأميركية من جهة، وشدّ العصب القومي الوطني من جهة أخرى، في وجه المعارضة، فضلاً عن إيجاد مخرج لأزمة البلاد الاقتصادية التي تتخبط فيها منذ أكثر من عقد.
كما أن تصريحات مادورو، الإثنين الماضي، قبل الاجتماع المرتقب غداً الخميس، بينه وبين رئيس غويانا عرفان علي، في سان فنسنت وغرينادين (في سلسلة جزر الأنتيل الصغرى)، لحل الخلاف الحدودي بين البلدين حول إيسيكيبو الخاضعة لإدارة غويانا، بمثابة تمهيد لشروطه التي سيضعها على الطاولة، مقابل سحب التهديد باللجوء إلى القوة.
مادورو يطرح شروطه
وأعلن الرئيس الفنزويلي في منشور على منصّة "إكس" أنه يعتزم بحث "التهديدات" الناجمة عن "ضلوع" واشنطن في النزاع بين البلدين حول المنطقة. وقال: "آمل أن نتمكّن خلال هذا الاجتماع الرفيع المستوى من معالجة التهديدات الرئيسية للسلام والاستقرار في بلدينا، بما في ذلك ضلوع القيادة العسكرية الأميركية الجنوبية التي بدأت عملياتها في المنطقة المتنازع عليها". واعتبر أن الوجود الأميركي في غويانا يتعارض مع "تطلّعنا إلى إبقاء أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي منطقة سلام، بلا صراع وبلا تدخّل لمصالح أجنبية". مع العلم أن كاراكاس هاجمت بشدّة حكومة عرفان علي، بعدما قالت إنها أعطت "الضوء الأخضر" لإقامة قواعد عسكرية أميركية في غويانا، الأمر الذي نفته الأخيرة، وإن كان قد تم في الأسبوع الماضي الإعلان من قبل الولايات المتحدة عن مناورات عسكرية جوية "روتينية" في غويانا.
تحركت الولايات المتحدة عسكرياً عبر مناورات مشتركة مع غويانا، الداعمة لها، وديبلوماسياً، لصدّ الطموحات الفنزويلية
وكان مادورو قد أجرى استفتاء في 3 ديسمبر/ كانون الأول الحالي (يرى مراقبون أنه شهد نسبة إقبال ضعيفة)، لاستعادة إيسيكيبو، قال نظامه إنه حصد 95 في المائة من التأييد. ولم يكتف مادورو بالاستفتاء، إذ أعلن أنه بصدد إقرار قانون لضمّ المنطقة، وعيّن حاكمية (عسكرية) في منطقة فنزويلية حدودية، لبدء العمل على إجراءات "الاستعادة". كما أعلن، وفق القانون، أنه أمهل كل الشركات الأجنبية العاملة في حقل التنقيب عن النفط في هذه المنطقة 3 أشهر لمغادرة غويانا.
من جهتها، وجدت البرازيل، ورئيسها لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، نفسها في قلب أزمة حدودية في أميركا اللاتينية، قد تدفعها إلى اتخاذ موقف "معارض" لدولة لاتينية أخرى، وقد يخدم الولايات المتحدة، التي تحركت عسكرياً عبر مناورات مشتركة مع غويانا، الداعمة لها، وديبلوماسياً، لصدّ الطموحات الفنزويلية.
وأعلن دا سيلفا أنه سيحضر غداً لقاء القمة "بناء على طلب الطرفين"، فيما كانت البرازيل قد دفعت بتعزيزات عسكرية حدودية على الحدود مع غويانا، تحسباً لأي تصعيد. وترفض برازيليا أي تحرك عسكري لكاراكاس لـ"استعادة" إيسيكيبو بالقوة، بل تشدّد على ضرورة اللجوء إلى الوسائل الدبلوماسية، ومنها تحريك دبلوماسية جميع المنظمات السياسية والاقتصادية التي تزخر بها أميركا اللاتينية لنزع فتيل الأزمة، التي قد تكون مشابهة لأزمات حدودية عديدة سابقة، في نصف القارة الجنوبي، جرى حلّها بالحوار.
واتفق مادورو وعلي على أن يعقد اجتماع الخميس تحت رعاية مجموعة دول أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، التي يتولى رئاستها الدورية رالف غونسالفيس، رئيس وزراء سان فنسنت وغرينادين، و"دول المجموعة الكاريبية (كاريكوم)"، بحسب بيان صادر عن جزر الأنتيل الصغرى. وقال غونسالفيس في بيان، إن "هناك حاجة ملحة لتهدئة النزاع وإقامة حوار مناسب ومباشر"، مضيفاً "لنحرص جميعاً بعزم على إنجاح هذا الاجتماع التاريخي".
من ناحيته، أكد رئيس غويانا عرفان علي، يوم السبت الماضي، مشاركته في الاجتماع، وموقفه الثابت من أن "النزاع تنظر فيه محكمة العدل الدولية، ولا مجال للتفاوض وأن الأمر لن يطرأ عليه تغيير". كذلك شدّد وزير الخارجية الفنزويلي إيفان جيل على أن النزاع "لن يتم حلّه إلا من خلال الحوار والاحترام المتبادل والالتزام بالحفاظ على المنطقة كمنطقة سلام وخالية من (أي) تدخل"، بينما دعا لولا، الأسبوع الماضي، نظيره الفنزويلي إلى عدم اتخاذ "إجراءات أحادية" من شأنها تصعيد النزاع الحدودي، موضحاً أنه "إذا كان هناك شيء لا نريده، فهو اندلاع حرب في أميركا الجنوبية".
غويانا وفنزويلا... وإيسيكيبو بينهما
وتعدّ إيسيكيبو 125 ألف نسمة من عدد سكان غويانا البالغ 800 ألف نسمة، لكن فنزويلا تطالب بها أيضاً، وتقول إن نهر إيسيكيبو الواقع شرق المنطقة يمثل حدوداً طبيعية تمّ الاعتراف بها منذ 1777 إبان الإمبراطورية الإسبانية.
من جهتها، تؤكد غويانا أن حدود إيسيكيبو رسمتها لجنة تحكيم في 1899، عندما كانت خاضعة للاستعمار البريطاني. وتحظى غويانا بدعم الولايات المتحدة، التي لا تملك وجوداً عسكرياً دائماً وكبيراً في هذا البلد الصغير، لكن لديها مستشارين عسكريين، بموجب اتفاق شراكة عسكرية، عنوانه العلني التعاون في الكوارث الطبيعية وصدّ ومحاربة شبكات التهريب.
لكن اللافت أنه بينما كان مادورو، ومنذ سنوات، يعلن من فينة لأخرى أن "شمس فنزويلا تشرق من إيسيكيبو"، في تذكير دائم بما تراه كاراكاس حقّها الطبيعي في استعادة المنطقة الحدودية الغنية مياهها بالنفط، بالإضافة إلى الذهب والنحاس، إلا أن ما استجد اليوم من تهديد عسكري، قد يكون مرّده إلى سعيه للتفاوض مع الأميركيين، قبيل الانتخابات، وتخفيف الحظر المفروض على تصدير النفط الفنزويلي، فضلاً عن محاولة ردّ على المناورات العسكرية المتزايدة للولايات المتحدة وحلفائها في غويانا، والتي يضعها مراقبون أيضاً في إطار منع تحول المنطقة إلى ممر لزيادة النفوذ الصيني والروسي.
(العربي الجديد، فرانس برس)