تعزيزات عسكرية سودانية إلى الحدود مع إثيوبيا
مباحثات بين البلدين لحل الخلافات شهدت توتراً وشدّاً وجذباً
منذ الأسبوع الماضي، يواصل الجيش السوداني إرسال تعزيزات عسكرية إلى الحدود مع إثيوبيا، بغرض المضي في استعادة أراضٍ سودانية، يقول إنها ظلّت محتلة من إثيوبيا منذ 25 عاماً. ويدور النزاع بين البلدين الجارين حول منطقة الفشقة الحدودية، التي تنقسم إلى الفشقة الكبرى والفشقة الصغرى، وهو خلاف قديم بدأ منذ القرن الماضي، وتجلى أكثر خلال الستينيات بدخول مزارعين إثيوبيين إلى المنطقة، التي تعتقد إثيوبيا بأنها جزء من أراضيها، لكنها عادت وقبلت في العام 1972 بالحدود الموروثة من عهد المستعمر البريطاني، وبمبدأ ترسيم الحدود على أساس اتفاقية موقعة في العام 1902.
لكن ذلك الترسيم الذي يأمله السودان، لم يحدث طوال نحو 50 عاماً، وتواصل معه التغول الإثيوبي في الأراضي السودانية، خصوصاً في العام 1995، حيث بلغ ما بين 25 و30 كيلومتراً في العمق السوداني، طبقاً للتقديرات السودانية، منها أكثر من مليون فدان زراعي يستخدمها ما يربو على 1600 مزارع إثيوبي. كما عمدت أديس أبابا إلى بناء قرى ومدن في المنطقة، وتأسيس عدد من المؤسسات الحكومية، خصوصاً الخدمية، مع تقييد تحرك الجيش والمواطنين السودانيين في المنطقة. واستفادت أديس أبابا في كلّ ذلك من انشغال السودان بملفاته الداخلية، ومعارك جيشه في جنوب وغرب وشرق البلاد.
وفد دبلوماسي إثيوبي رفيع المستوى في الخرطوم لبحث الأزمة
وبمجرد سقوط نظام الرئيس المعزول عمر البشير في إبريل/ نيسان الماضي، وتوقف الحرب في عدد من الجبهات بين الجيش السوداني وحركات التمرد، وتوقيع الحكومة لاتفاقيات سلام في هذا الصدد، بدأ الجيش السوداني، في يونيو/ حزيران الماضي، بإعادة تمركزه على الحدود مع إثيوبيا. وجاء ذلك وسط استمرار شكاوى أهالي المناطق المتنازع عليها ومطالبتهم باسترداد الأرض، ووقف اعتداءات عصابة "الشفتة" الإثيوبية بالقتل والنهب والاختطاف. ودخلت الخرطوم في مفاوضات مباشرة مع أديس أبابا، من أجل استكمال عملية ترسيم الحدود والانسحاب من الأراضي السودانية، من دون إحراز تقدم يذكر. وغالباً ما يأتي الرد الإثيوبي باتهام المليشيات الإثيوبية في إقليم أمهرة الحدودي بالتورط في توتير العلاقة بين البلدين.
ومع بداية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، انفجرت الحرب في إثيوبيا بين قوات الحكومة الفيدرالية وقوات "جبهة تحرير شعب تيغراي"، ليستغلها الجيش السوداني لمحاولة استعادة كامل الأراضي. وطوال الأسبوع الماضي ومع بداية الأسبوع الحالي، ظلّت تتوارد الأنباء عن تقدم للجيش في الخطوط الأمامية، فيما وصلت المزيد من التعزيزات العسكرية بغرض الوصول إلى الحدود الدولية المعتمدة منذ العام 1902. كما قضى رئيس مجلس السيادة، القائد العام للجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، ثلاثة أيام في المنطقة، للإشراف على العمليات العسكرية التي وصلت إلى مواجهات مباشرة مع عصابات "الشفتة" الإثيوبية، لتعلن الخرطوم عن استعادة مواقع استراتيجية، منها جبل أبو طيور وغيره.
وتقابل حكومة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد تلك التحركات ببرود شديد وإدانات شفاهية واتهام السودان بالاعتداء على الأراضي الإثيوبية، والتأكيد أن النزاع الحدودي لن يؤثر على العلاقات التاريخية بين البلدين، كما غرّد آبي أحمد بذلك أكثر من مرة.
أما رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك، فيبدو هو الآخر أكثر حرصاً من المكون العسكري في السلطة الانتقالية على عدم التصعيد، والرغبة في تجاوز الخلاف عبر الأطر الدبلوماسية، لذا سارع، الأسبوع الماضي، للتوجه إلى أديس أبابا للقاء نظيره الإثيوبي، واتفق معه على دعوة اللجنة المشتركة بين البلدين لمناقشة قضايا الحدود. وبالفعل وصل إلى الخرطوم، أمس الثلاثاء، وفد إثيوبي رفيع المستوى، برئاسة نائب رئيس الوزراء، وزير الخارجية ديميكي ميكونين، الذي دخل في مفاوضات مباشرة مع الوفد السوداني الذي ترأسه وزير رئاسة شؤون مجلس الوزراء عمر مانيس. وبحسب مصادر "العربي الجديد"، فإن بداية المباحثات شهدت توتراً وشدّاً وجذباً، واتهمت إثيوبيا خلالها السودان بالتورط في مقتل العشرات من الإثيوبيين وجرح آخرين، وإتلاف الأراضي الزراعية، وخلق حالة من عدم الاستقرار وانعدام الأمن في المناطق على الحدود المشتركة بين البلدين. من جهته، دعا رئيس الوفد السوداني إلى حلّ النزاعات بين الطرفين بصورة سلمية، مشيراً إلى ضرورة منح الضوء الأخضر لخبراء الحدود لبدء وضع العلامات الحدودية على الأرض، مشيراً إلى وجوب عدم تأثير أي فشل في ترسيم الحدود سلباً على علاقات البلدين الأزلية، على حدّ قوله.
وحول مستقبل النزاع على الحدود السودانية الإثيوبية، رأى المتحدث الأسبق باسم القوات المسلحة السودانية الفريق محمد بشير سليمان، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه يجب أن ينتهي إلى طريق وحيد، "هو إعادة الأراضي المغتصبة إلى السودان، سواء في الفشقة الكبرى أو الصغرى، بموجب اتفاقية 1902، وتأكيد سيادة السودان على المنطقتين". وأوضح سليمان أن "الجيش السوداني، وبعد توقف الحروب الداخلية، كان بحاجة لإعادة بناء نفسه وتطوير قدراته، لكنه وجد نفسه مضطراً لخوض تلك المعركة، نتيجة تزايد الاعتداءات الإثيوبية على أراضيه، وآخرها الكمين الذي تعرض له قبل أيام، وأدى إلى استشهاد عدد من الجنود". وأشار إلى أن "حرب التحرير تلك تأخذ بعداً سياسياً، وفيها رسائل إلى أحزاب داخلية ناشطة في المشهد السياسي، ظلّت تهاجم الجيش وتقلل من شأنه، على الرغم من أن الواقع الحالي يؤكد أهمية الحفاظ على الجيش كمصدر للسيادة ومدافع عن حدود البلاد وفارض لهيبة الدولة".
يطالب السودان ببدء وضع العلامات الحدودية على الأرض
ولم يستبعد سليمان أن ينتهي النزاع عبر الطرق الدبلوماسية، كما لم يستبعد احتمال تطوره إلى حرب شاملة، لكنه أشار إلى أن إثيوبيا ستخسر كثيراً في الحالة الثانية، لأنها تستضيف مقر الاتحاد الأفريقي، ما يستوجب عليها أن تكون أكثر حرصاً على الاعتراف بالاتفاقيات الدولية.
من جهته، رأى الرشيد عبد القادر، رئيس لجنة متضرري أراضي الفشقة، أن تحركات الجيش السوداني، وبعد اكتمالها، سيكون لها مردود معيشي إيجابي وكبير على الأهالي والمزارعين، وعلى الاقتصاد السوداني ككل. ولفت عبد القادر، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن العمليات العسكرية للجيش في المنطقة حدّت من عمليات القتل والنهب والاختطاف التي تقوم بها عصابات "الشفتة" الإثيوبية في المنطقة، وستحد كذلك من عملية الاتجار بالسلاح وتهريب البشر.
وحول مدى إمكانية نجاح المفاوضات بين الطرفين، التي بدأت أمس، اعتبر السفير السابق في وزارة الخارجية السودانية، خالد موسى دفع الله، أنه يجب توفر إرادة سياسية صادقة وقوية من الجانبين، موضحاً في حديث لـ"العربي الجديد"، أن تجربة التفاوض في السابق لا تدعو للتفاؤل، وهي دائماً ما تعطي نتائج صفرية، لا سيما من جانب أديس أبابا التي ظلّت تماطل في تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه على الورق. وتوقع دفع الله توصل الطرفين إلى اتفاق على التهدئة وليس لاتفاق كامل يلملم كل الخلافات، على الرغم من أن المتبقي فقط هو وضع العلامات على الأرض، مضيفاً أن حرب إقليم تيغراي في إثيوبيا، شكلت عاملاً جديداً كان بإمكان السودان التأثير فيه بشكل أو بآخر، غير أنه حرص على النأي بنفسه عنه، معتبراً أن الرد المناسب على هذا التعاطي الإيجابي، يفرض على إثيوبيا الجدية أكثر. واستبعد دفع الله أخيراً وجود فرصة أمام أي طرف ثالث للاستفادة من تصاعد وتيرة النزاع، لا سيما في ملف سدّ النهضة.