بعد انتظار دام 70 عاماً، كأكثر فترة لولي عهد بريطاني، بدأت حقبة الملك تشارلز الثالث على عرش بريطانيا، مساء أول من أمس الخميس، خلفاً لوالدته الراحلة، الملكة إليزابيث الثانية، على أن يجري تنصيبه رسمياً، صباح اليوم السبت في كنيسة القديس جيمس في العاصمة لندن.
وأمام الملك الجديد جملة تحدّيات، ترتبط أبرزها بمهمة الحفاظ على الملكية البريطانية، وتحسين الصورة الشخصية أمام المواطنين، بفعل تراجع شعبيته على وقع فضائح عدة وتدخلات في الشؤون السياسية، وهو أمر غير مستحبّ في بريطانيا.
آراء سياسية للملك الجديد
وبدا تدخل الملك الجديد واضحاً، إذ اختلف مع حكومة بوريس جونسون، في يونيو/حزيران الماضي، بشأن سياستها الخاصة بإرسال طالبي اللجوء إلى رواندا، وهو أمر قيل إن تشارلز وصفه "بالمروع"، مما أدى إلى انتقادات من وزراء وصحف.
وفي يناير/كانون الثاني 2020، زار تشارلز بصفته أميراً، الأراضي الفلسطينية المحتلة. وعند زيارته بيت لحم قال تشارلز: "استمرارنا في رؤية الكثير من المعاناة والانقسام يكسر قلبي. لا يمكن لأي شخص يصل إلى بيت لحم أن يغيب عن علامات المشقة المستمرة والوضع الذي تواجهونه".
وكشف أنه شعر بحزن شديد عندما شاهد المعاناة والمصاعب التي يعاني منها الفلسطينيون. ووصفت قناة "سكاي نيوز" البريطانية تصريحاته بأنها "أكبر عرض دعم أبداه أحد أفراد الأسرة الملكية للفلسطينيين على الإطلاق".
أبدى تشارلز مراراً رأيه في الشؤون السياسية وتصادم مع بلير
وفي يناير 2010، نقلت صحيفة "ديلي ميل" البريطانية عن مصدر ملكي رفيع المستوى قوله إن تشارلز، الذي كان على علم بتقارير استخباراتية سرية، كان مقتنعاً بأنه من الخطأ شن الحرب على العراق في عام 2003.
وكشف المصدر أن الأمير (في حينه) كسر التقليد الملكي وعارض الحرب خلف الأبواب المغلقة، وكان قاسياً على رئيس الوزراء آنذاك توني بلير ووصفه ساخراً بأنه "قائدنا المجيد".
وأكد المصدر أن تشارلز حذّر من أن حرب عام 2003 ستحرك نزاعات إضافية في المنطقة، واتهم القادة الغربيين بالفشل في التعامل مع السبب الحقيقي للاضطراب هنا، أي النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. وتساءل تشارلز عما إذا كانت المعلومات الاستخباراتية تعتبر دليلاً كافياً لشن الحرب، وبذل قصارى جهده لمعارضتها.
ويواجه تشارلز الثالث مهمة شاقة، فوالدته الراحلة كانت تحظى بشعبية جارفة واحترام كبير، لكنها تركت عائلة ملكية تمزقها الفضائح والخلافات الأسرية، بجانب المزاعم المتكررة عن عنصرية مسؤولي قصر باكنغهام.
شعبية تشارلز الثالث
وأظهر استطلاع للرأي أجراه معهد "يوغوف" في أغسطس/آب 2021 أنه يتمتع بشعبية نسبتها 54 في المائة بعيداً وراء الملكة الراحلة (80 في المائة) والأمير ويليام (78 في المائة) وزوجة الأخير كيت ميدلتون (75 في المائة) وشقيقته الأميرة آن (65 في المائة). أما شعبية كاميلا دوقة كورنويل فبلغت 43 في المائة.
وحول مستقبل الملكية البريطانية، اعتبرت صحيفة "ديلي ميل" في افتتاحيتها، أمس الجمعة، أنه "إذا لم يكن (تشارلز) حذراً للغاية، فإن أولئك الذين يختلفون مع تدخلاته السياسية الاستفزازية قد يخلصون أيضاً إلى أن الملكية الدستورية في بريطانيا لم تعد تستحق الإبقاء عليها".
وبات وضع الملكية في بريطانيا، موضع شكّ لدى الأجيال الجديدة، إذ أظهر استطلاع للرأي نشر في 21 مايو/أيار 2021 لمؤسسة "يوغوف" أيضاً، أن 41 في المائة ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً، يعتقدون أنه يجب أن يكون هناك الآن رئيس دولة منتخب في مقابل 31 في المائة يريدون ملكاً أو ملكة.
وفي 2019، كان 46 في المائة يفضلون النظام الملكي في مقابل 26 في المائة يريدون استبداله. ووجد الاستطلاع الذي شمل 4870 بالغاً أن 53 في المائة ممن تتراوح أعمارهم بين 25 و49 عاماً يؤيدون استمرار الملكية، بانخفاض خمس نقاط مئوية عن استطلاع مماثل في عام 2019، بينما ارتفع التأييد لوجود رئيس منتخب أربع نقاط. وبين أولئك الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً، أيد 81 في المائة النظام الملكي، من دون تغيير تقريباً عما كان عليه الأمر في 2019.
ويبدو تشارلز الثالث، أكبر ملك يتولى العرش البريطاني في عائلة ملكية يعود حكمها إلى ألف عام، "ضعيفاً" بالنسبة لمعارضيه من أنصار الجمهورية في بريطانيا، ويحب التدخل في السياسة وغير مؤهل لهذا المنصب.
مع ذلك فإن عناصر قوته تبدأ بكونه أول ولي عهد بريطاني يحصل على شهادة جامعية، وانضم إلى القوات المسلحة، تحديداً إلى سلاح الجو الملكي في عام 1971 ثم البحرية، وترقى في الرتب حتى أصبح قائد كاسحة الألغام "إتش.إم.إس بروننغتون" قبل أن ينهي الخدمة الفعلية في عام 1976.
وعندما ترك البحرية في عام 1976، بحث عن دور في الحياة العامة في وقت لم تكن هناك فيه وظيفة دستورية واضحة لوريث العرش، فُعّين "مكلفاً بمساندة الملكة لضمان إشعاع الملكية".
وفي فترة شبابه، رسم حول شخصيته صورة الأمير الرياضي الذي يحب التزلج وركوب الأمواج والغوص. كما كان شغوفاً بلعب البولو وامتطى الخيل في العديد من السباقات التنافسية.
وفي عام 1979، قُتل عمه الأكبر اللورد مونتباتن، في تفجير نفذه "الجيش الجمهوري الأيرلندي"، وهي خسارة أثرت عليه بشدة. وقال في وقت لاحق: "بدا كما لو أن أساس كل ما نعتز به في الحياة قد انهار بشكل لا يمكن إصلاحه".
وطيلة حياته، كان تشارلز محاصراً في نظام ملكي يسعى لتحديث نفسه ويحاول التكيف في مجتمع سريع التغير وقائم على المساواة مع الحفاظ على التقاليد التي تمنح المؤسسة الهالة المحيطة بها.ويمكن بسهولة رؤية هذا التوتر من خلال حياة ابنيه. فالأكبر ويليام (40 عاماً)، ولي العهد العتيد، يعيش حياة مقيدة بالواجبات التقليدية، ويخصص كثيراً من وقته للأعمال الخيرية والظهور بالمراسم العسكرية. وويليام هو المرشح الأبرز ليكون ولياً للعهد.
أما الابن الأصغر هاري (37 عاماً) فيقيم بلوس أنجليس في الولايات المتحدة، مع زوجته الممثلة الأميركية السابقة ميغان ماركل وطفليه، مُتخذاً نمطاً جديداً لحياته يتناسب مع هوليوود أكثر من قصر باكنغهام.
وكان الأخوان مقرّبين جداً من بعضهما البعض، خصوصاً بعد وفاة والدتهما، لكنهما نادراً ما يتحدثان الآن، بعدما تخلى هاري عن واجباته الرسمية في العائلة المالكة.
كما يدافع عنه البعض بالقول إن تشارلز شخص رصين ودائماً ما يهتم برفاه البريطانيين من جميع الطبقات والمجتمعات. وساعدت مؤسسته الخيرية أكثر من مليون شاب فقير وعاطل عن العمل منذ إطلاقها قبل ما يقرب من 50 عاماً.
وقال تشارلز ذات مرة في فيلم وثائقي تلفزيوني: "المشكلة هي أنك محصور دائماً في موقف الخاسر. حتى لو لم تفعل شيئاً على الإطلاق، فسوف يشتكون من ذلك. إذا حاولت وتعثرت خلال محاولتك فعل شيء للمساعدة، فسوف يشتكون أيضاً".
لكن مؤيديه يعتبرون أن تشارلز الثالث رجل جاد ويهتم حقيقة بشعبه. ويرون أنه قادر على فعل الكثير، استناداً إلى قوله في مقابلة تلفزيونية في عام 2021 حول تغير المناخ: "لماذا تعتقدون أنني فعلت كل هذا طوال تلك السنوات؟ لأنني كنت أهتم بالجيل المستقبلي وسأظل أهتم به دائماً".
وفي سبعينيات القرن الماضي، في فترة تدهور للاقتصاد البريطاني، تبرع تشارلز بمكافأة نهاية الخدمة في البحرية البالغة 7400 جنيه إسترليني لتمويل مبادرات مجتمعية. وفي وقت لاحق، ومع انتشار أعمال الشغب والبطالة في العديد من المدن، بدأت جمعيته الخيرية في مساعدة الشباب المحرومين على بدء أعمالهم التجارية الخاصة.
وحول هذه الخطوات شدّد تشارلز على أنه "كنت سأبدو أحمق وأعمى إذا لم أكن قد أوليت بعض الاهتمام لهذه الأمور. أتذكر أنني قلت لنفسي إنني متأكد من أن هناك شيئاً يمكنني القيام به للمساعدة".
وفي الواقع يمكن لتشارلز الآن أن يشعر بالإنجاز بعدما استجاب قادة العالم لمطالبه بشأن ضرورة التصدي لأزمة تغير المناخ. ففي مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ (كوب 26) الذي عُقد في بريطانيا العام الماضي، أشاد الرئيس الأميركي جو بايدن بقيادة تشارلز. وقال ويليام ابن تشارلز: "لقد واجه صعوبات في ذلك، وأعتقد أنه أثبت أنه كان متقدماً على الجميع". ويرأس تشارلز أو يرعى أكثر من 420 منظمة خيرية.
نشأة مختلفة
وُلد الملك تشارلز فيليب آرثر جورج في قصر باكنغهام في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1948، وعُيّن ولياً للعهد في سن الثالثة وثلاثة أشهر عندما أصبحت والدته ملكة في فبراير/شباط 1952.
وفي سن الرابعة والنصف حضر تتويجها في كاتدرائية ويستمنستر جالساً بين جدته وخالته الأميرة مارغريت. وفي سن التاسعة منحته والدته لقب أمير ويلز. وعُرف بخجله وحبه للعزلة وهو النجل البكر للملكة، وله شقيقان وشقيقة.
وكانت تنشئة تشارلز مختلفة عن تلك التي خضع لها في الماضي ملوك بريطانيا، إذ عكس أسلافه الذين تلقوا تعليمهم على أيدي مدرسين خاصين، ذهب تشارلز إلى مدرسة هيل هاوس في غرب لندن، قبل أن يصبح طالباً في مدرسة تشيم في بيركشاير، التي درس فيها والده الأمير فيليب. ثم أُرسل إلى غوردونزتاون وهي مدرسة داخلية صارمة في اسكتلندا حيث درس فيليب أيضاً.
ووصف تشارلز فترته هناك بأنها كانت كالجحيم، وعانى من الوحدة والتنمر. ونُقل عنه قوله عن هذه الفترة إنها كانت "حكماً بالسجن". وخالف تشارلز التقاليد مرة أخرى عندما ذهب إلى كلية ترينيتي في كامبريدج لدراسة علم الآثار والأنثروبولوجيا، لكنه تحول لاحقاً إلى التاريخ.
وخلال دراسته جرى تنصيبه رسمياً أميراً لويلز، وهو اللقب الذي يحمله تقليدياً وريث العرش، في حفل كبير في عام 1969 بعد أن أمضى تسعة أسابيع في إحدى جامعات ويلز، حيث قال إنه واجه احتجاجات شبه يومية من القوميين هناك.
ومع ذلك، فبالنسبة للكثيرين في بريطانيا وخارجها، سيظل اسم تشارلز مقترناً دائماً بزواجه من ديانا سبنسر في عام 1981 في حفل تابعه على شاشات التلفزيون نحو 750 مليون شخص حول العالم، بدت عروسه الخيار الأمثل.
بلغت شعبية الملك الجديد في أغسطس 2021 نسبة 54%
وبدا كل شيء على ما يرام في البداية، ورزقا بابنين، وليام وهاري، في عامي 1982 و1984. لكن وراء الكواليس، واجه الزواج مشاكل عديدة، وألقت ديانا باللوم على كاميلا باركر بولز في انهياره بالكامل في عام 1992، قائلة في مقابلة تلفزيونية: "كان هناك ثلاثة أشخاص في هذا الزواج".
أما تشارلز فشدّد على أنه ظل مخلصاً لديانا "حتى انهار الزواج بشكل لا رجعة فيه". وانتهى الأمر بالطلاق في عام 1996. وعندما قُتلت ديانا في حادث سيارة في فرنسا في عام 1997، كانت هناك انتقادات لاذعة في الصحافة ضده وضد كاميلا، وتراجعت شعبيته.
العلاقة مع وسائل الإعلام
ومع تركيز الصحف على علاقاته، لم يكن من المستغرب أن يسود التوتر تعامله مع وسائل الإعلام، كما لم يحاول إخفاء ازدرائه للمصورين الذين يلاحقون المشاهير، حتى أنه كشف في عام 1994: "أنا لا أجيد لعب دور القرد الراقص حقاً. أعتقد أنني شخص يهتم بخصوصيته".
وخلال جلسة تصوير في أثناء عطلة تزلج عام 2005، سمع صوته وهو يصف وسائل الإعلام بالأشخاص "الملطخين بالدماء"، ويقول عن مراسل الشؤون الملكية في شبكة (بي.بي.سي) "لا يمكنني تحمّل هذا الرجل. إنه فظيع للغاية".
وتختلف طباع الملك الجديد كثيراً عن والدته إليزابيث الثانية، فهو لا يتمتع بشعبيتها الواسعة، وله مواقف ثابتة وشغوفة من مواضيع كثيرة أثارت الإعجاب أحياناً والانتقاد غالباً. لكنه تمرّس في مراسم التدشين وتقليد الأوسمة ومآدب العشاء الرسمية والرحلات وحفلات الاستقبال. وقد زار أكثر من مائة بلد والتقى كبار هذا العالم وصافح ملايين الأشخاص.
ويقول ميشال فور كاتب سيرة الأمير تشارلز "إنه يحترف العمل الملكي. سيكون ملكاً لطيفاً، لكنه مختلف كثيراً عن والدته". وهذا الاختلاف سيُحدد مستقبل الملكية البريطانية.