المقاومة وتفكيك الحاضنة الشعبية

24 فبراير 2018
تم خلق ثقافة استهلاكية جديدة بالضفة الغربية(عباس موماني/فرانس برس)
+ الخط -

شكلت المقاومة في وجه الاستبداد والاستعمار أداة القوة التي أعلنت الشعوب المستضعفة امتلاكها في سبيل تحقيق مستقبل أفضل لها ولأجيالها، فانطلقت نخبتها لتكوين التشكيلات المقاومة التي لم تكن يوماً بمعزل عن الجماهير التي كانت حاضنتها ورافدها بالطاقات.
فلسطينياً، أدركت الحركة الثورية منذ بدايتها مدى أهمية وجود حاضنة شعبية لفصائل المقاومة، فكانت مخيمات الأردن ولبنان تحديداً ذلك الحاضن الشعبي والخزان الذي لا ينضب لرفد العمل الكفاحي بالطاقات والموارد البشرية. وكون الحاضنة الشعبية بكل تلك الأهمية فقد حاول الاحتلال، وكل من يتضرر من وجود المقاومة وقوتها، أن يجهض هذه الحاضنة والبيئة الشعبية عبر مخططات كبرى استهدفت كل أشكال الالتفاف حول المقاومة ودعمها، إذ أدرك المحتل أن ثقافة المقاومة نفسها التي تعتنقها الجماهير الفلسطينية هي الكفيلة بإبقاء الكفاح المسلح حياً ومتوارثاً من جيل إلى جيل، الأمر الذي دفعه إلى أن يعيد قواعد الاشتباك إلى الأساس الشعبي، باستهداف الفلسطينيين، ليس فقط جسدياً عبر الهدم والقتل والتهجير، بل أيضا عبر محاولات إعادة الهندسة الاجتماعية والثقافية للمجتمع الفلسطيني ككل. وأدت السلطة الفلسطينية في هذه الهندسة الجديدة دورا كبيرا بفعل ارتهانها المستمر لبنود اتفاقية أوسلو، وما يترتب عليها، وبفعل الابتزاز المالي الدائم الذي جعلها ترضخ للطلبات الصهيونية، وأشدها فتكا هو التنسيق الأمني، الأمر الذي أفقد الجماهير ثقتها بقيادتها المفترضة.
وشكلت انتفاضة عام 2000 نقلة نوعية في الصراع الفلسطيني الصهيوني، فقد استوعب المحتل جيداً درس الانفجار الشعبي في كامل فلسطين التاريخية، والذي أعاد اللحمة وأسقط كل مشاريع التقسيم التي حاول الاحتلال فرضها، بل أسقط مشاريع إجهاض الحاضنة الشعبية العربية. ومع تصاعد الانتفاضة ومقاومتها عمل الاحتلال على ضرب الحاضنة الشعبية بالعقاب الجماعي الذي فاق كل أشكال القمع السابقة التي مورست بحق الشعب الفلسطيني، من إغلاقات واقتحامات وحواجز ومصادرة أراض للاستيطان والجدار إلى الإعدامات الميدانية والجماعية بحق العوائل المدنية. مثل هذه العملية الإجرامية، كان استهداف المدنيين فيها عنواناً بارزاً بهدف خلق حالة رعب تدفع الجماهير لرفض المقاومة بدلاً من رفدها وإنكارها بدلاً من حمايتها. ولكن التجارب أسقطت مخططات الاحتلال، فكان الالتفاف والاقتناع بخيار المقاومة يزداد مع كل مجزرة.
التحول الأهم كان عندما بدأت تخبو جذوة الانتفاضة في عام 2005، وبعد تنصيب محمود عباس رئيسا للسلطة واستجلاب سلام فياض للحكومة وماليتها كمنتدب من البنك الدولي، فعندما لم تفلح العصا بسلخ الجماهير عن المقاومة، تم اللجوء إلى أسلوب الجزرة. فضخت المليارات من الدولارات في الساحة الفلسطينية وبدأ العمل على كيّ الوعي الوطني عموما واستهداف ثقافة المقاومة نفسها لدى الحاضنة الشعبية عبر إعادة تشكيل الوعي الجمعي الرافض للاحتلال، بكل ما يحمل ذلك من قيم مقاومة وتضحية وعمل جماعي تطوعي وإنكار للذات في سبيل الجماعة، وتم العمل على استبدالها بقيم الليبرالية والاستهلاك والذاتية التي يسعى فيها الفرد لذاته على حساب الجماعة.
شهدت تلك الفترة بداية جديدة لقلب المفاهيم والمعايير الوطنية والأخلاقية وإعادة الهندسة الاجتماعية والثقافية عموماً، قادتها قوى كبرى، بداية من السلطة وأجهزتها، مروراً بالاحتلال ووصولاً للقوى الدولية التي شكلت فريقاً أمنياً يقوده الجنرال الأميركي كيث دايتون، والذي بدأ العمل بشراسة لإعادة تشكيل الوعي الوطني الفلسطيني وصياغته بما يتناسب مع مصالح الاحتلال عبر جعل الضفة سوقاً استهلاكية كبيرة تخدم البرجوازية الناشئة وتقدم الأمن لمشروع الاحتلال بمستوطنيه واقتصاده وسياسته. فقد أعلن دايتون في عام 2009، في محاضرة ألقاها في
واشنطن، أن ميزانية فريقه الأمني وحدها بلغت 161 مليون دولار هدفت
لـ "إعادة بناء" الأجهزة الأمنية الفلسطينية بما يخدم مصالح "السلام" مع إسرائيل. ويستطرد دايتون في ذات المحاضرة أن فريقه الأمني اعتمد "منهاج تدريب أميركي مطور يركز على حقوق الإنسان والاستخدام الخاص للقوة، والسيطرة على تظاهرات الشغب، وكيفية التعامل مع الاضطرابات والقلاقل المدنية". في لمحة سريعة على مثل هذا الخطاب يستطيع الفرد أن يدرك هدف إعادة تشكيل الأجهزة الأمنية هو إعادة صياغة عقيدتها لتحويلها إلى أجهزة لمكافحة الشغب والعصيان المدني، أي أن يتم توجيهها نحو الشارع الفلسطيني لقمعه ومنعه من الخروج مطالباً بحريته الوطنية والديمقراطية، وذلك بعدما أثبتت تجربة الانتفاضة الثانية انحياز هذه الأجهزة إلى الجماهير المنتفضة واشتراك عناصرها في الاشتباكات بشكل فعال.
يقول دايتون في خطابه سابق الذكر: "دعوني أقتبس لكم، على سبيل المثال، مقاطع من كلمة لضابط فلسطيني كبير خلال حفل تخرج لعناصر بالأجهزة الأمنية، فقد قال: أنتم يا رجال فلسطين قد تعلمتم هنا كيف تحققون أمن وسلامة الشعب الفلسطيني. أنتم تتحملون المسؤولية عن الشعب ومسؤولية أنفسكم. لم تأتوا إلى هنا لتتعلموا كيف تقاتلون إسرائيل بل جئتم إلى هنا لتتعلموا كيف تحفظون النظام وتصونون القانون، وتحترمون حقوق جميع مواطنيكم، وتطبقون حكم القانون من أجل أن نتمكن من العيش بأمن وسلام مع إسرائيل". ويتابع دايتون "الآن لدى عودة شباب فلسطين الجدد هؤلاء، أظهروا حوافز وانضباطاً ومهنية، فقد جعل هذا التغيير ضباطاً في الجيش الإسرائيلي يسألونني في أغلب الأحيان: كم من هؤلاء الرجال الجدد تستطيع أن تصنع، وبأية سرعة، لأنهم الوسيلة التي ستؤدي إلى رحيلنا عن الضفة الغربية".
بهذه النتائج اختتم الجنرال الأميركي مهمته التي استمر فيها قرابة الأربع سنوات لتثمر نهجاً وعقلية أمنية جديدة بمعاير "السلام" القائم على التنسيق الأمني وحماية المشروع الصهيوني.
وعلى الجانب الآخر، استمر العمل اقتصادياً لخلق حالة من الارتهان الشعبي على المستوى الفردي والجماعي لكل ما يكبل ويشتت الطاقات الشعبية عن إعادة تشكيل قوة مقاومة للاحتلال ومشروعه. فقد تدفقت الأموال للمشاريع التنموية شكلياً وسنت القوانين التي تسهل للمواطن الحصول على السلع الاستهلاكية عبر القروض البنكية والشيكات والتسهيلات المصرفية التي تعطيه الفرصة لعيش حياة رفاهية نسبية بامتلاكه، عبر البنوك، شققاً وسيارات وأراضي مرهونة لسنوات طويلة يسددها بدفعات، الأمر الذي يضمن بقاءه خانعاً لا يجرؤ على التصريح بضرورة مقاومة المحتل كي لا يفقد راتبه ويبقى قادراً على سداد دفعاته الشهرية، بما يترتب على هذا الواقع الجديد من أنانية وخضوع لقوانين المرحلة الجديدة. لقد بلغت على سبيل المثال قيمة الشيكات الراجعة في البنوك العاملة في الضفة الغربية في عام 2014 (969 مليون دولار أميركي)، بحسب إعلان سلطة النقد الفلسطينية، الأمر الذي يوضح الحالة الاقتصادية للموطن الفلسطيني الذي لا يملك المال وإنما دفاتر الشيكات التي تم تسهيل حصوله عليها من دون أن يكون لديه ما يكفي لسداد قيمتها، ما يجعله دوماً بين مطرقة الحاجة في المجتمع الاستهلاكي الوليد وسندان الرهن الطويل للمؤسسات المصرفية والسلطة. وفي حال كهذه تصبح المقاومة آخر همومه، بل ويتجنبها للحفاظ على ذاته وعائلته الصغيرة.
ويرى الدكتور في علم الاجتماع علاء العزة أن تلك المرحلة اتسمت باستهداف الحاضنة الشعبية للمقاومة في بعدين، "الأول بعد قصدي وهو الاستهداف المباشر من قبل الاحتلال، عبر استهداف عائلات وناشطين وتجمعات سكنية من ناحية، ومن ناحية أخرى تقديم تسهيلات وامتيازات لغير الفاعلين في العمل السياسي المقاوم (عقاب وثواب) بحسب القرب والبعد من المقاومة. والبعد الثاني، ولا يمكن رؤية قصديته، ولكن آثاره واضحة للباحث، وهو التركيز على تحسين الحياة الاقتصادية للفلسطينيين، وهذا التحسين خاضع للتساؤل بحكم كونه تحسيناً طبقي الطابع مستفيدة منه شريحة اجتماعية متوافقة مع السلطة ولها نزعة المحافظة على الواقع كما هو، لأن أي شكل مقاوم يضر بمصالحها".
المساهمون