المقاومة... امتياز البيض

10 مارس 2022
يتمتع الجنود الأوكرانيون بروح قتالية عالية (Getty)
+ الخط -

تواجه روسيا مقاومةً غير متوقعة في أوكرانيا، من شأنها الإضرار بصورة جيشها وطموحاتها على الساحة الدولية. يجعل الغرب من الشعب الأوكراني نموذجاً للبطولة، بينما توصف حركات المقاومة الوطنية في الشرق الأوسط بالإرهابية. وقد يعطي تدخّل مسلح في إيران مرة أخرى مقياساً لهذه الفجوة.

إن القومية الغربية المفرطة التي ظهرت خلال الأزمة الأوكرانية لدى المحللين والمعلقين العسكريين ووسائل الإعلام والسكّان، جديرة بأن تُلاحظ وأن تُتابع على وسائل التواصل الاجتماعي. هناك عدة نقاط في هذا الخطاب الأوروبي تستحق أن تؤخذ بعين الاعتبار، ويمكن أن نستخلص منها بعض الدروس للشرق الأوسط.

الغرب مفهوم عنيد

أولاً، لا تزال أوروبا والغرب حاضرين بقوة في التاريخ. بعد نهاية الحرب الباردة، كتب المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما أن الرأسمالية الغربية الليبرالية انتصرت في معركتها ضد الشيوعية وضد الماركسية كأيديولوجيا.

قد لا تكون أطروحته خاطئة، لكنها كانت سابقة لأوانها: لقد واجهت الرأسمالية الليبرالية الغربية التهديد المتمثل في الرأسمالية الاستبدادية المقترنة بالقومية المفرطة في شكل قوتين: روسيا فلاديمير بوتين، وجمهورية الصين الشعبية لشي جين بينغ.

عجز روسيا عن تحقيق انتصارات كبيرة وسريعة نسف طموحاتها في أن تتمتع بمكانة القوة العظمى

قد تكون أخطاء روسيا السياسية والعسكرية في أوكرانيا دلالة على هزيمة وسقوط قريب لإحدى هاتين القوتين واحتواء للأخرى. إن عجز روسيا عن تحقيق انتصارات كبيرة وسريعة بأقل عدد من الضحايا في كلا الجانبين نسف طموحاتها في أن تتمتع بمكانة القوة العظمى.

تُعد القوة العسكرية عاملاً رئيسياً في السياسة الدولية، غير أن استعمالها ينطوي على مخاطر تتراوح بين الأداء السيئ والهزيمة الكاملة، وإذا حدث واحد منهما، فذلك يؤدي إلى تضاؤل سمعة ومكانة الأمة المعنية في نظر الآخرين. إن عدم الكفاءة التي تظهر بها روسيا منذ بداية الهجوم على أوكرانيا لم تصل ربما إلى مستوى حرب الشتاء مع فنلندا سنة 1939[1]. واليوم لم تتمكن موسكو في مواجهة الأوكرانيين من مراعاة الأبعاد المجتمعية واللوجستية للوضع. وقد ظهر أن نيران الاستطلاع غير فعّالة لدعم تقدم مشاتها ومدرعاتها أمام وحدات النخبة الأوكرانية المتنقلة ذات الروح العالية. هذه الإخفاقات ليست محرجة على الأرض فقط، بل جعلت العالم يعترف بأن قوة روسيا كان مبالغاً في تقديرها.

يمكن القول إنه لم يتبق سوى قوتين عظميين، هما الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية. لا يزال الجيش الأميركي يتمتع بالهيمنة الناجمة عن أدائه في عملية عاصفة الصحراء سنة 1991 (رداً على الاجتياح العراقي للكويت) والغزو السريع للعراق في 2003، ولم تنل النتائج النهائية لهاتين الحربين، والفشل الذريع في أفغانستان في منتصف 2021، من بريق قوته.

ثانياً، يكذب تمجيد المقاومة البطولية لأوكرانيا فكرة انحدار الغرب، ويُظهر بأن كل الحديث عن تراجع الروح والحماسة القتالية لديه مبالغ فيه. إذا كان الفيلسوف الألماني أوزفالد شبنغلر[2] هو أول من كتب في هذا، فإن الموضوع قد تمّ تبنّيه من طرف الروس والصينيين خلال السنوات الأخيرة، وبحسب رأيي، بمبالغة كبيرة.

مقاوم أبيض وإرهابي داكن البشرة

ثالثاً، يولّد العدوان المفتوح مقاومة وطنية. ولا يمكن سوى الإعجاب بردود الفعل البطولية للأوكرانيين في مواجهة فعل عدواني واضح. غير أن هذا التمجيد للمقاومة من جانب الغرب يلقي الضوء على عقلية استعمارية. لا يمكن إلا ملاحظة أن المقاومة الوطنية في الشرق الأوسط لا تلقى نفس النوع من الإشادة.

وتبرز تصريحات المسؤولين الغربيين والتعليقات الغبية أحياناً من وسائل الإعلام هذه الفجوة. لقد حظي البحار الأوكراني الذي ضحّى بنفسه على جسر بالقرب من مدينة خيرسون في ما يبدو أنها مهمة انتحارية، بثناء واسع النطاق؛ ولكن إذا وقع عمل مماثل في الشرق الأوسط، فإن وسائل الإعلام ستتحدث عن تعصّب لا يمكن تفسيره إلا من خلال الثقافة!

بل وصل الأمر إلى أن تحول المعلقون إلى مستشارين عسكريين يشرحون للأوكرانيين، المدنيين والعسكريين، كيفية استعمال تكتيكات حرب المدن بوحدات صغيرة، بينما يصرح مسؤولون من دول أوروبا الغربية بأنه ليس لديهم اعتراض على ذهاب مواطنيهم إلى أوكرانيا للقتال هناك. ويُرحب باللاجئين الأوكرانيين في أوروبا الغربية، لأنهم مهاجرون "مهرة" يجلبون كفاءات، ولكن أيضاً لأنهم "شقر بعيون زرقاء مثلنا"، كما قال ذلك مراقب على وسائل التواصل الاجتماعي، الذي لم يكن أشقر ولم تكن عيناه زرقاوين.

وأكثر من أي شيء آخر، نجحت هذه الحرب في أن تجعل من أوكرانيا دولة أوروبية بالكامل. قبل ثمانين عاماً، كان العديد من أجداد الأوروبيين الغربيين يعتبرون الأوكرانيين مجرد أنصاف سلافيين، من درجة أدنى، موجودين على حافة أوروبا. واليوم، أصبح أبناؤهم وأحفادهم يرحبون بهؤلاء بوصفهم أوروبيين يشبهوننا بالكامل، ويحتضنونهم كلاجئين؛ كما يتطوعون للخدمة في الجيش الأوكراني أو في الجماعات شبه العسكرية، وتوفر لهم الحكومات الأسلحة الفتاكة. كان يجب لتحقيق هذا التحول السريع أن تكون هناك حرب بدلاً من أن يحصل تطور في القيم والمعايير المشتركة.

إن هَبَّة التعاطف والدعم الأوروبي لحرب مقاومة وطنية يشنها "شعب أبيض" تذكّرنا بأيام الحروب النابليونية في أوائل القرن التاسع عشر، عندما أشادت الحكومات والشعوب الأوروبية بالمقاومة الوطنية للشعب الإسباني الذي كان يقود حرب عصابات شرسة ضد فرنسيي نابليون، وكذلك لشعب كالابريا الذي كان يحارب نفس العدو.

وقد اتسمت هذه الحروب باقتراف فظائع من كلا الجانبين. كما تمّ بعد نهاية الحروب النابليونية عام 1815، قمع الحروب الداخلية من دون شفقة في أوروبا، لأنها كانت مرتبطة بانتفاضات البروليتاريا في القطاع الصناعي.

التمجيد للمقاومة الأوكرانية من جانب الغرب يلقي الضوء على عقلية استعمارية

بطبيعة الحال كانت هناك استثناءات: مثل التعاطف الكبير مع حرب التحرير الوطني في إيطاليا تحت قيادة زعيم حرب العصابات القومي، جوزيبي غاريبالدي، والتجنيد الجماعي المجهض للفرنسيين بعد هزيمة القوات المسلحة التقليدية في الحرب الفرنسية - البروسية (1870-1871).

ولكن خارج العالم الأوروبي، حيث كانت تعمل القوى الاستعمارية على إخضاع شعوب ذات البشرة السمراء والسوداء والصفراء، وصفت حروب المقاومة الوطنية بـ"الخارجة عن القانون". وكان ينظر إلى تجرؤ الشعوب "المتوحشة" و"شبه المتحضرة" معارضة "مزايا الحضارة" التي تجلبها أوروبا إلى هذه المناطق "المتخلفة"، على أنها فكرة غير مفهومة.

وإذا جاء دور إيران غداً، هي ليست دولة مسيحية، بل دولة مسلمة، وهذا يدينها في نظر الغرب. صحيح أن الإيرانيين هم بالتأكيد هندو - أوروبيون (indo européen)، لكن إيران ليست بلداً "أبيض". هم ليسوا أوروبيين "مثلنا"، على عكس ما أصبح عليه الأوكرانيون. والحقيقة هي أن النظام الدولي مشبع بوجود تمييز هرمي، لا يمكن إنكاره، مبني على لون البشرة و"الامتياز الأبيض"، والذي أسماه أحد المراقبين على "تويتر" بـ"جواز سفر اللون".

قد يقول البعض إن هناك سبباً آخر يجعل بلداً غير مرغوب فيه: إنها ليست دولة ديمقراطية، ولكنني لا أعتقد بأن غياب الديمقراطية هو الأصل والسبب الذي يستمر في تبرير العداء الغربي. سيتم إضفاء الشرعية والقانونية على الاعتداء على إيران من خلال عدد لا يحصى من المبررات التي ستقدم للأمم المتحدة قبل شن الهجوم.

خارج العالم الأوروبي، حيث كانت تعمل القوى الاستعمارية على إخضاع الشعوب، وصفت حروب المقاومة الوطنية بالخارجة عن القانون

ليس لإيران حلفاء ولا كثير من المتعاطفين في العالم. في حين يعد ذلك بعداً مهماً للقوة غالباً ما يتجاهله المراقبون. أن تتحدى الغرب عمل مكلف، كما اكتشفت روسيا ذلك، وكما ستكتشف ذلك الصين إن قررت ضمّ تايوان. وإيران أضعف بكثير من هاتين القوتين، حتى وإن كانت قدرتها على التسبب في أضرار في الشرق الأوسط لا يستهان بها. خصوصاً وأن للغرب سلطة هائلة على الاقتصاد ويمكنه القيام بأعمال انتقامية لها آثار مدمرة على المستهدف بغضبه. 

أما إيران فلن تكون قادرة على شنّ حرب مقاومة وطنية فعّالة في حال المواجهة. فالمقاومة الوطنية ضد هجوم عدواني يقتصر على الهجمات الجوية والبحرية يتطلب لحمة قوية بين الدولة والمجتمع. وإيران، مهما أكد قادتها، تعاني من عائق كبير في حشد مجتمعها لمواجهة هذا النوع من العدوان الخارجي.

ويتمثل هذا العائق في الهوة العميقة بين المجتمع والدولة والذي يؤثر على تماسكها وصمودها. في المقابل، إذا ارتكبت قوة أجنبية الخطأ القاتل المتمثل في القيام بشن غزو بري واحتلال واسع النطاق، سنرى آنذاك القومية الإيرانية تحيا من جديد وبقوة، كما حصل ذلك خلال الحرب العراقية - الإيرانية (1980 ـ 1988).

يرجع جزء كبير من هذه الهوة إلى النظام نفسه. أما رد فعل العالم الخارجي على عدوان محتمل، فمن المؤكد أننا لن نقرأ نصائح على "تويتر" حول كيفية القيام بحرب المدن، كما لن نسمع أي ثناء على المقاومة الإيرانية. بل على العكس، ستتم إدانة الإيرانيين لاستعمالهم ممارسات "بغيضة" وأساليب مقاومة "غير عقلانية"، وهي نفس الأساليب التي يشاد بها في أوكرانيا. إن المقاومة الوطنية امتياز أبيض!

يُنشر بالتعاون مع موقع "أوريان 21"

[1] في نوفمبر/تشرين الثاني من تلك السنة، وبعد فشل المفاوضات بين الاتحاد السوفييتي وفنلندا، كانت موسكو تطالب بإنشاء منطقة عازلة لحماية لينينغراد. شنّ الجيش الأحمر هجوماً ولكن استغرق أكثر من أربعة أشهر للتغلب على مقاومة الجيش الفنلندي الصغير.

[2] أوزفالد شبنغلر (1880-1936) معروف بكتابه "انحدار الغرب"

المساهمون