لعقودٍ شكل رفض الشعوب العربية التطبيع مع الكيان الصهيوني إحدى المسلمات الرئيسة في الصراع. وليس أدل على ذلك مما أبداه الشعبان المصري والأردني من رفض كل أشكال التطبيع، على الرغم من الالتزامات المترتبة على اتفاقيتي السلام اللتين وقعتهما كل من مصر (1979) والأردن (1994) مع هذا الكيان. بيد أن نجاح هذا الأخير في استدراج دول عربية أخرى، خارج ما كان يعرف بدول الطوق، لتوقيع اتفاقاتِ تطبيعٍ معه، يفرض إعادة مساءلة هذه المسلمة في ضوء ما استجد في المنطقة بعد الارتجاج الذي أحدثته ثورات الربيع العربي على أكثر من صعيد.
وبمجرد الإعلان عن اتفاق التطبيع بين المغرب وإسرائيل، الذي أشرفت عليه إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، عبَّر قطاع واسع من المغاربة عن رفضهم هذا الاتفاق، معتبرين ذلك تزكية لجرائم الاحتلال الصهيوني واعترافا بشرعية احتلاله فلسطين. بيد أن مقايضة التطبيع مع إسرائيل بالاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء خلط الأوراق، بعد نجاح النظام المغربي، نسبيا، في إحداث تصدع داخل الرأي العام بشأن ذلك، من خلال تبرير قراره بالتطبيع مع إسرائيل بالعائد السياسي والاستراتيجي الذي سيستخلصه المغرب من الاعتراف الأميركي. وقد أفضى ذلك إلى انقسام داخل الرأي العام، وتحول التطبيعُ إلى حقل صراع فكري وسياسي. فقد رفض طيف عريض هذا القرار، انطلاقا من أن ذلك يعدُّ خيانة لمكانة القضية الفلسطينية في وجدان المغاربة. ويتوزع هذا الطيف على تنظيمات حزبية ونقابية ومدنية، إسلامية ويسارية، عرفت بمناصرتها القضية الفلسطينية، ومن أبرزها الجبهة المغربية لدعم فلسطين وضد التطبيع، والهيئة المغربية لنصرة قضايا الأمة اللتان أطلقتا حملة إعلامية رفضا لزيارة وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس إلى المغرب في نوفمبر/ تشرين الثاني الفائت. وبالموازاة مع ذلك، حاول البعض تبرير هذا القرار المُرِّ بالمصلحة الوطنية العليا للمغرب، مع التأكيد على أن التطبيع مع إسرائيل لن يؤثر على تشبث المغرب، حكومة وشعبا، بثوابت القضية الفلسطينية، في مسعى، على ما يبدو، لإزاحة شعور دفين بالخطيئة. وبين هذين الطيْفين كان هناك طيف ثالث أيد القرار واعتبره إنجازا دبلوماسيا واستراتيجيا يحسب للنظام في إدارته منعرجات قضية الصحراء.
عبر 88 % من المغاربة عن رفضهم اعتراف الرباط بإسرائيل
ويُعدُّ التيار الأمازيغي الراديكالي أهم مكونات هذا الطيف، على اعتبار أنه يرى في التطبيع مع الدولة العبرية موردا في صراعه الفكري والسياسي مع القوى العروبية والإسلامية والدولة المغربية المحافظة، ودعما لتطلعاته التي يقع عزل المغرب عن محيطه العربي ضمن أولوياته الرئيسة. ولم يكن انقسام الرأي العام بشأن التطبيع بعيدا عن الصراع الفكري والإيديولوجي الذي احتدم في الجامعات المغربية بين الفصائل الطلابية اليسارية والإسلامية، خلال العقود الماضية، خاصة بعد أن تورط حزب العدالة والتنمية الإسلامي، الذي قاد الحكومة لولايتين، في توقيع أمينه العام السابق سعد الدين العثماني على اتفاق التطبيع.
بالطبع، من الصعب معرفة الحجم الحقيقي لكل طيف وثقله بالنظر لغياب استطلاعات رأي موضوعية ومحايدة بعد قرار التطبيع، وإن كان ما أورده المؤشر العربي (2019-2020)، الذي ينجزه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يقدم صورة عما يمكن أن تكون عليه نسبة الرافضين قرار التطبيع مع إسرائيل، إذ اعتبر 70 % من الذين شملهم الاستطلاع أن القضية الفلسطينية تظل ''قضية جميع العرب، وليست قضية الفلسطينيين وحدهم''، كما عبر 88 % عن رفضهم اعتراف المغرب بإسرائيل. وهو ما يعني أن جبهة الرافضين للتطبيع لا تزال واسعة في المغرب. وقد شهدت مدن وبلداتٌ مغربية مسيرات ووقفات منددة بالتطبيع والمخرجات الأمنية والعسكرية التي ترتبت عنه، كما ضجّت منصات التواصل الاجتماعي بتدوينات وتغريدات وهاشتاغات مختلفة صبت، في معظمها، في تأكيد الانتصار لفلسطين والوقوف إلى جانب شعبها في محنته مع الاحتلال. وكانت أحداث حي الشيخ جراح في القدس والعدوان الإسرائيلي على غزة في مايو/ أيار المنصرم، حسب كثيرين، بمثابة اختبار للشعب المغربي الذي أكد على مركزية فلسطين بالنسبة له.
بيد أن ذلك لا يمنع من القول، إن التطبيع مع الكيان الصهيوني صار يمثل تحديا للالتزام التاريخي والأخلاقي والنضالي للمغاربة بعدالة القضية الفلسطينية، ليس فقط بسبب ربطه بقضية الصحراء التي تحظى بمكانة مركزية في وجدانهم الشعبي، بل أيضا لأنه يجعل إسرائيل أكثر تماديا في توحُّشها إزاء الشعب الفلسطيني، أمام التراجع المهول في مكانة هذه القضية بالنسبة للنظام العربي الرسمي.
ويأخذ هذا التحدي أبعادا أخرى في ضوء توظيف طرفي اتفاق التطبيع ورقة اليهود الإسرائيليين المنحدرين من أصل مغربي، باعتبارهم ''جسرا ثقافيا وسياسيا لوصل ما انقطع بينهم وبين موطنهم الأصلي''، ومن ذلك توظيف الموروث الثقافي والروحي والاجتماعي اليهودي في المغرب كمكونٍ من مكونات هؤلاء اليهود، في مسعى لاختراق جبهة الرفض المغربية، وبالتالي تعويم قضية اليهود المغاربة والعرب، وإعادة طرحها وفق مقتضيات السردية الصهيونية، هذا في وقت يشكل هؤلاء اليهود القاعدة الاجتماعية والسياسية لمختلف تشكيلات اليمين الصهيوني المتطرف، الذي يتوزع داخل مختلف المؤسسات السياسية والأمنية والعسكرية الإسرائيلية.
لا يمتلك خطاب ''الجالية اليهودية المغربية في إسرائيل'' القدرة على الذهاب بعيدا في بناء سردية مقنعة يتكئ عليها المدافعون عن تطبيع المغرب مع إسرائيل. ما يعني أن توظيف هذه الورقة ينطوي على تناقض بنيوي؛ فما يعتبر ''جالية يهودية مغربية'' في إسرائيل، ليست في الواقع إلا جزءا من المشروع الصهيوني الذي يستهدف اجتثاث الهوية الفلسطينية والعربية من المنطقة واستبدالها بهوية إسرائيلية هجينة. ومن نافل القول إن ولاء اليهود الصهاينة، الذين تركوا أوطانهم الأصلية وهاجروا إلى فلسطين، يبقى لإسرائيل أولا وأخيرا. وغير ذلك لا يعدو كونه تعويما للحقائق التاريخية والثقافية، وتوسّلاً بمبررات واهية لإضفاء الشرعية على التطبيع مع الكيان الصهيوني.
في السياق ذاته، تدرك إسرائيل جيدا أن قطاعا واسعا من المغاربة يرفض الاعتراف بشرعية الاحتلال الصهيوني لفلسطين. ولذلك تحاول جعل التطبيع مع المغرب مختلفا عن غيره من الاتفاقات التي أبرمتها مع دول عربية أخرى، وذلك بجعله يشمل مجالات حساسة من قبيل تعزيز التعاون في مجال التعليم العالي والبحث العلمي وتبادل البعثات الطلابية. وينذر ذلك بفتح مسالك جديدة أمامها لتشكيل رأي عام مغربي مؤيد للتطبيع معها، وأكثر استعدادا لقبول روايتها الملفقة بشأن الصراع، إذ يتعلق الأمر بتطبيعٍ يفتح الباب على مصراعيه أمام الأجيال الجديدة للمصالحة مع مقتضيات السياسة الإسرائيلية، القائمة على التهويد والاستيطان والتقتيل وتدمير البيوت، بما يضمن هيمنة الصهاينة على المنطقة ومقدراتها. ولعل ذلك ما يجعل الكرة الآن في مرمى معارضي التطبيع الذين باتوا مطالبين باجتراح وسائل عمل جديدة تأخذ بعين الاعتبار موازين القوى في المشهد السياسي المغربي من ناحية، والخبرة التي راكمتها إسرائيل في إدارة ملفات التطبيع من ناحية أخرى.
ويزداد الأمر صعوبة في ظل حالة التردي المُهول التي تقيم عليها مؤسسات الوساطة والتأطير، خاصة الأحزاب الوطنية واليسارية الكبرى والمركزيات النقابية والتنظيمات الطلابية ومنظمات المجتمع المدني، والتي شكلت، طوال العقود الماضية، منظومة مقاومة ضد كل محاولات استدراج المغرب إلى تطبيعٍ مكلفٍ مع الكيان الصهيوني.