اهتز العالم بأسره منذ سنوات أثناء تأمله عشرات آلاف الصور لضحايا التعذيب من المدنيين السوريين في معتقلات النظام السوري، التي سرّبها مصور لدى النظام أُطلق عليه لاحقاً اسم "قيصر"، كان مكلفاً بتصوير جثث المدنيين من ضحايا التعذيب والقتل. وانتشرت أكثر من 55 ألف صورة لقتلى داخل معتقلات نظام بشار الأسد، تبدو على جثثهم آثار التعذيب بالكهرباء والضرب المبرح، وتكسير العظام، والأمراض المختلفة، ومن بينها الجرب، إلى جانب الغرغرينا والخنق. وبين القتلى فتيان تتراوح أعمارهم بين 12 و14 عاماً، ونساء وشيوخ يتجاوز عمر بعضهم 70 عاماً.
فضحت هذه الصور ما يجري في معتقلات النظام منذ بدء الثورة السورية في ربيع عام 2011. وكان تسريبها سبباً مباشراً وراء قانون أميركي حمل اسم "قيصر"، بوشر تنفيذه منتصف العام الماضي، ويفرض عقوبات مشددة على النظام السوري والمتعاونين معه. وشُكلت عقب عرض الصور في الكونغرس الأميركي، لجنة تحقيق دولية لبحث جرائم الحرب المرتكبة في سورية، كشفت في تقرير لها من 30 صفحة صدر مطلع الشهر الحالي، أن "الإخفاء والاحتجاز لقمع المعارضة سمة مميزة لعقد من الصراع في سورية". وبيّنت أن "الرقم الفعلي للمعتقلين الذين ماتوا في المعتقلات ليس معروفاً، لكن التقديرات المتحفظة تشير إلى أن عشرات الآلاف قُتلوا في عهدة الحكومة منذ عام 2011".
الرقم الفعلي للمعتقلين الذين ماتوا في المعتقلات ليس معروفاً
وخلال سنوات الثورة، ظهرت إلى العلن مئات الشهادات من معتقلين خرجوا من السجون، تبيّن أن ما يجري فيها من عمليات تعذيب وتصفية، دفعت منظمة "العفو الدولية" إلى وصف سجن صيدنايا الشهير في ريف دمشق الشمالي الشرقي بـ"المسلخ البشري". وفي تقرير لها صدر في بداية عام 2017، ذكرت المنظمة أن إعدامات جماعية شنقاً نفّذها النظام بحق 13 ألف معتقل، أغلبهم من المدنيين المعارضين، بين عامي 2011 و2015. ووصفت المنظمة سجن صيدنايا العسكري بأنه "المكان الذي تذبح فيه الدولة السورية شعبها بهدوء". وكانت منظمة العفو قد وثقت، في منتصف عام 2016، مقتل 17723 معتقلاً، في أثناء احتجازهم في سجون النظام السوري، ما بين مارس/آذار 2011 وديسمبر/كانون الأول 2015، أي بمعدل 300 معتقل كل شهر.
اعتمد النظام السوري سياسة القبضة الأمنية للاستمرار في السلطة منذ عام 1970، تاريخ استلام حافظ الأسد للحكم في البلاد، وبرزت سجون مثل صيدنايا وتدمر ومطار المزة العسكري وسواها، امتلأت بالمعتقلين من مختلف التيارات السياسية. واستمر بشار الأسد في نهج أبيه في سياسة الاعتقال مع توليه السلطة في عام 2000، والتي تفاقمت مع بدء الثورة، فامتلأت السجون والمعتقلات، وبات لكل جهاز أمني سجونه، بل إن المليشيات المحلية والإيرانية أنشأت معتقلات خارج إطار النظام، لا أحد يملك معلومات عن عدد الموجودين داخلها، أو من قُتل تحت التعذيب فيها.
وعن ذلك، يقول عضو لجنة المعتقلين في هيئة التفاوض التابعة للمعارضة السورية، طارق الكردي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن عدد المعتقلين في سجون النظام الموثقين أقل من الرقم الحقيقي، مشيراً إلى أن قدرة الوصول إلى عائلات المعتقلين في مناطق النظام تبقى محدودة. ويلفت إلى أن "أغلب توثيقات المنظمات المختصة تتحدث عن 125 ألفاً إلى 140 ألف معتقل"، لافتاً إلى أن صور "قيصر" وثقت آلاف القتلى تحت التعذيب "ولكن الرقم الحقيقي أكبر من ذلك". ويضيف أن "صور الأقمار الصناعية تؤكد وجود مقابر جماعية، ما يشير إلى ارتكاب نظام الأسد جرائم تقشعر لها الأبدان بحق السوريات والسوريين في المعتقلات".
وينوّه الكردي إلى أن "حزب الله لديه سجون تُرتكب فيها كل الانتهاكات بحق السوريين"، كما أن "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) تمارس الاعتقال والإخفاء القسري في منطقة شرقي الفرات. ويشير إلى أن "الجيش الوطني السوري" التابع للمعارضة، لديه أيضاً سجناء وأشخاص موقوفون على ذمة التحقيق في قضايا إرهابية. ولا ينكر وجود أبرياء في سجون "الجيش الوطني السوري"، وأن هناك تجاوزات بحق المعتقلين، مضيفاً: "لكن هذه التجاوزات إن وجدت ليست ممنهجة ولا تمارس نتيجة أوامر". ويشدد على أنه "لا يمكن تحقيق سلام مستدام من دون عدالة"، مشدّداً على ضرورة أن يتضمن الدستور الجديد لسورية ضمانات تحقيق وتفعيل آليات العدالة الانتقالية وجبر الضرر للناجيات والناجين وعائلات الضحايا.
من جهته، يلفت المشرف على ملف المعتقلين في الائتلاف الوطني السوري المعارض، ياسر الفرحان، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن الجهات الدولية "لم تستطع طيلة عشر سنوات اتخاذ إجراءات فعلية لإلزام النظام بالإفراج عن المعتقلين وتغيير سلوكه"، مضيفاً أن "هذا النظام مجرم بطبيعته، ولا بد من تغييره وتحقيق انتقال سياسي ينهي عذابات السوريين".
عدد المعتقلين في سجون النظام الموثقين أقل من الرقم الحقيقي
ويكشف الفرحان عن تحرك دولي "نشط" لمحاسبة النظام السوري على جرائمه، لافتاً إلى أن المجتمع الدولي ينتقل من مرحلة التوثيق والرصد والتقصي إلى مرحلة المحاسبة والمحاكمة لرموز هذا النظام. ويتحدث عن تحرك في هولندا وفي كندا لمحاسبة النظام، لإخلاله بالمواثيق الدولية، إضافة إلى "قانون قيصر"، وإجراءات في مجلس حقوق الإنسان، لكنه يستدرك أن المعتقلين في سجون النظام ما زالوا يتعرضون للتعذيب والتصفية الجسدية.
ويؤكد الفرحان أن "الهيئة الوطنية للدفاع عن المعتقلين والمفقودين" التابعة للمعارضة السورية تعمل على أن يبقى هذا الملف أولوية في كل اللقاءات والاجتماعات الإقليمية والدولية، وبناء الأدلة التي تدين النظام، والعمل على إنصاف المعتقلين، فالناجون والناجيات من معتقلات نظام بشار الأسد لم ينصفوا حتى اللحظة. ويطالب بتشكيل "تحالف دولي تكون المعارضة السورية جزءاً منه لفتح السجون أمام المنظمات الدولية والمراقبين لإنقاذ من بقي من المعتقلين ومحاسبة المسؤولين عن المأساة المستمرة منذ 10 سنوات".
وفيما يتعلق بأرقام المعتقلين والمفقودين والقتلى تحت التعذيب في سجون النظام السوري، يوضح الفرحان أن هناك تكاملاً مع جمعيات المجتمع المدني التي ترصد وتجمع، لكن الأرقام لا تزال غير دقيقة، لأن هذه الجمعيات وثقت أسماء من استطاعت الوصول إليهم وجمع بياناتهم، فيما هناك عدد كبير من السوريين لم يسجلوا بيانات أبنائهم المعتقلين أو المختفين قسراً خوفاً عليهم من أعمال انتقامية من قبل النظام.
وكانت "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، وهي جهة مستقلة معنية بتوثيق الانتهاكات من مختلف أطراف الصراع بحق المدنيين في سورية، قد أكدت أن هناك ما لا يقل عن 99479 شخصاً لا يزالون قيد الاختفاء القسري على يد أطراف الصراع والقوى المسيطرة منذ مارس/آذار 2011، وحتى أغسطس/آب من عام 2020، أكثر من 82 في المائة منهم لدى النظام السوري. كما بيّنت الشبكة أن 149391 شخصاً لا يزالون قيد الاعتقال منذ مارس 2011 وحتى مارس الحالي، أكثر من 87 في المائة منهم لدى النظام السوري.
ووثقت الشبكة مقتل 14506 معتقلاً تحت التعذيب من قبل مختلف القوى المسيطرة في سورية منذ عام 2011، أكثر من 98 في المائة منهم قضوا في معتقلات النظام. وأوضحت الشبكة أن أطرافاً عدة لجأت إلى سياسة الاعتقال والإخفاء القسري والقتل تحت التعذيب في سورية إضافة إلى النظام، منها "قسد"، وتنظيم "داعش"، و"هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً)، وفصائل المعارضة السورية، وجهات أخرى. وأشارت إلى أن هناك آلاف الأشخاص اعتقلوا من قبل الجهات المذكورة منذ بدء الثورة السورية وحتى اليوم، يأتي في مقدمتها تنظيم "داعش".
وفي السياق، أوضحت الشبكة في تقرير صدر منذ أيام أن قرابة 9264 امرأة ما زلن قيد الاعتقال أو الإخفاء القسري، 8029 لدى قوات النظام، و255 لدى "داعش"، 43 لدى "هيئة تحرير الشام"، و761 لدى قوات "الجيش الوطني السوري" وفصائل المعارضة المسلحة، و176 لدى "قسد". ويوضح مدير الشبكة فضل عبد الغني، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن المعتقلين في سورية "هم مخطوفون، لأن الاعتقال يتم من دون مذكرة اعتقال قضائية ومن دون تهم، ويتحول معظم المعتقلين إلى مختفين قسرياً". ويشير إلى أن على المجتمع الدولي "محاربة الجرائم ضد الإنسانية التي يقوم بها النظام السوري"، معتبراً أن المجتمع فشل في أداء هذه المهمة، بل لم ينجح في كشف مصير معتقل واحد.