بعد عشرة سنواتٍ من الثورة؛ تبدو سورية كلّها بما فيها المخيّمات الفلسطينية ضحيّة وحشية نظام بشار الأسد وتبنّيه المنهجي للخيار العسكري والأمني العنيف، في مواجهة الثورة السلمية، والمطالب المحقّة للسوريين بالحرية والكرامة والعدالة، وحقّهم الأصيل في تقرير مصيرهم، وحكم أنفسهم بأنفسهم. عند اندلاع الثورة؛ عبرت المخيّمات الفلسطينية بمزاجها العامّ عن تأييدها مطالب الأشقاء السوريين المحقّة، فيما بدا ردًّا للجميل، غير أنّ هذا لم يعجب النظام، الذي تصرف مع المخيّمات؛ منذ البداية، بمعادلة معي أو ضدّي، وبذهنيةٍ متغطرسةٍ ومنفصمهٍ، طالبًا منهم الانحياز إلى النظام، ظنًا منه أنّه قد أحسن إلى اللاجئين الفلسطينيين، وأكرم مثواهم، علمًا أنّ من فعل ذلك هو الشعب العظيم في سورية التاريخية، لا تلك الطائفية المتجانسة، حسب التعبير الحرفي لبشار الأسد.
بتفصيلٍ أكثر، كانت سورية عند استقلالها مدنيةً وديموقراطيةً، حتّى قبل نيل الاستقلال الكامل والناجز عن الانتداب الفرنسي. أرسلت إلى فلسطين الشيخ عز الدين القسام، والجنرال فوزي قاوقجي، كما ساهمت في تأسيس الجامعة العربية، من أجل الدفاع عن القضية الفلسطينية، ضمن أسبابٍ وحيثيات وخلفيات تاريخية وسياسية واقتصادية عديدةٍ بالطبع.
إذن، استقبلت سورية المدنية الديمقراطية الناهضة والمزدهرة اللاجئين الفلسطينيين عام 1948 كما ينبغي، مع إعطائهم كامل حقوقهم المدنية والاقتصادية والاجتماعية؛ التعليم والطبابة والتملك والتنقل، تماماً كإخوانهم السوريين، ما عدا الحقوق السياسية، وعوضتهم عن ذلك بتأسيس جيش التحرير الفلسطيني، لحشد طاقات اللاجئين، وتسهيل قيامهم بواجباتهم في مواجهة الاحتلال الصهيوني، وتحرير فلسطين.
لا بدّ من قول شيءٍ ما عن التنظيمات والفصائل الفلسطينية، التي صمتت بمعظمها عن ممارسات وجرائم النظام ضدّ المخيّمات واللاجئين
حصل كلّ هذا قبل أن يصل نظام الاستبداد البعثي؛ نظام "آل الأسد" الأب والابن، إلى السلطة بسنواتٍ، بل عقودٍ طويلةٍ، ما يعني ببساطةٍ أنّه؛ أيّ النظام، ليس في موقعٍ يسمح له طلب ردّ الجميل من اللاجئين، بعدما قامت سورية العظيمة بواجباتها التاريخية والأخلاقية تجاههم، وتجاه أمنها ومصالحها القومية، كذلك كون المشروع الصهيوني الاستعماري يمثّل خطرًا جديًا واستراتيجيًا على العالم العربي كلّه، وتحديداً على دول جوار فلسطين "دول الطوق"، كما يقر بذلك نظام الأسد نفسه.
لذلك كلّه، وعند اندلاع الثورة انحاز اللاجئون الفلسطينيون؛ بعقلهم الجمعي وذاكرتهم التاريخية ووعيهم السياسي العالي، إلى أشقائهم السوريين، ومطالبهم المحقّة في ما بدا ردّ جميلًا للشعب والناس، ولكن دون أن يشتركوا فعليًا في الثورة وفعالياتها الميدانية، غير أنّ هذا لم يعجب النظام، الذي سعى؛ متعمّدًا منذ البداية، إلى شيطنتهم، واتهامهم بالمسؤولية عن الثورة، ونفيها عن السوريين، في انفصامٍ موصوفٍ وترويجٍ لرواية وأكذوبة المؤامرة الخارجية، واعتبار الفلسطينيين ممن عاشوا وترعرعوا وولدوا في سورية، وتصرفوا كشعبٍ واحدٍ في بلاد الشام، وسورية التاريخية العظيمة، رعايا أجانب وجزءًا من المؤامرة الخارجية المزعومة ضدّ النظام.
هنا لا بدّ من التذكير بتصريح بثينة شعبان؛ مستشارة بشار الأسد، حول مسؤولية الفلسطينيين، ومخيم الرمل في اللاذقية عن إطلاق شرارة، أو إحدى شرارات الثورة، واقتحام جيش النظام، وأجهزته الأمنية المتعددة الباكر جدًا للمخيم، ونهب وتدمير محتوياته، وهو ما حصل في درعا؛ مهد الثورة، ومخيمها الشهير أيضًا. كان الهدف دومًا إنكار ثورة السوريين، ومطالبهم العادلة والمحقّة، وتصوير الفلسطينيين كأعداءٍ وأجانب، رغم أنهم تصرفوا وتعاطوا مع أنفسهم، وتعاطى معهم السوريون، بعكس ذلك طوال سنواتٍ وعقود طويلةٍ.
في الحقيقة وبنظرةٍ إلى الوراء، حصل ردّ الجميل الفعلي والحقيقي باستضافة المخيمات واللاجئين لإخوانهم المهجرين والنازحين السوريين، بعدما شرّدهم النظام، وهدم قراهم وبلداتهم الثائرة. وهنا يكاد مخيّم اليرموك يختصر قصة المخيّمات كلّها برمزيته التاريخية، وصفته كعاصمة اللجوء والشتات الفلسطيني، ليس في سورية فقط، إنّما في الدول العربية كلّها، واعتباره خزان الثورة الفلسطينية، مع انخراط الآلاف من أسره وشيبته وشبابه في الكفاح المسلّح ضدّ الاحتلال، منذ مطلع السبعينيات حتّى منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
في تلك الفترة اصطدم النظام مع منظّمة التحرير، كونها المرجعية والقيادة العليا للاجئين، والشعب الفلسطيني، ومع حركة فتح باعتبارها الفصيل القائد، وشن حروبًا متعددةً سياسيةً وأمنيةً وعسكريةً ضدّها، ثم طرد قادة المنظّمة والحركة من دمشق، وصادر ممتلكاتهم ومقراتهم، ضمن أهدافٍ عدةٍ أهمّها الإمساك بورقة القضية الفلسطينية، والمساومة عليها مع إسرائيل، والقوى الأجنبية الداعمة لها.
آنذاك دفعت المخيّمات كلّها؛ وعاصمتها اليرموك، الثمن مع اعتقال الآلاف من أبنائهم، والتضييق لسنواتٍ طويلةٍ على نشاطاتهم السياسية والوطنية عامةً، مع إطلاق يد التنظيمات والفصائل الهامشية الصغيرة، التي تصرفت كأذرع وأدواتٍ لأجهزة مخابرات نظام الأسد.
استقبلت سورية المدنية الديمقراطية الناهضة والمزدهرة اللاجئين الفلسطينيين عام 1948 كما ينبغي، مع إعطائهم كامل حقوقهم المدنية والاقتصادية والاجتماعية
بعد اندلاع الثورة قام اليرموك بواجبه أيضًا، باستقبال واستضافة ومساعدة المهجرين والنازحين السوريين، وهذا لم يعجب النظام بالطبع، فباشر حملة ضغطٍ وابتزازٍ وتنكيلٍ بالمخيّم وأهله، لدرجة قصفه بالطائرات الحربية المقاتلة ميغ 21، ثم سلّح فصائل وتنظيماتٍ ومجموعاتٍ مرتزقةً تابعةً له، وحرضهم على الاشتباك مع الثوار السوريين في محيط المخيّم، وصولاً إلى تسليم المخيّم لتنظيم داعش، وتشريد وتهجير أهله، وتدميرهٍ؛ بنسبة 80% وفق منظّمة الأونروا، ثم إبقائه مدمّرًا مع خططٍ ومشاريع مشبوهةٍ لإزالة خصوصيته ورمزيته، وشطب تاريخه النضالي بالكامل.
بناء عليه، يمكن الاستنتاج أنّ النظام تعمد تهجير اللاجئين الفلسطينيين من سورية، والتنكيل بهم يائسًا من دعمهم وتأييدهم، ومن القتال إلى جانبه ضدّ إخوانهم السوريين، أو قبولهم بالتحوّل إلى رعايا خانعين في سورية الأسد الطائفية المتجانسة، وعمد إلى تدمير مخيّماتهم، ومنع إعمارها وعودة اللاجئين إليها، إذ يبدو اليرموك عنوانًا وبرهانًا ساطعًا على ذلك.
بالمحصلة العامة؛ وأمام القبضة الأمنية، والاعتماد على فصائل فلسطينيةٍ هامشيةٍ عمل قادتها ومسؤوليها كمخبرين لأجهزة النظام، هُجر اللاجئون وتشتتوا، وأخرجوا من دائرة الصراع والمقاومة مع إسرائيل، في سياق إخراج النظام لسورية نفسها منه، واستقدام الغزاة الأجانب للبقاء في السلطة، ولو ظاهريًا على أنقاض البلد المدمّرة، ودون سيادةٍ وسلطةٍ حقيقيةٍ، حتّى في مناطق سيطرته.
إضافة الى ما سبق كلّه؛ يعنى شطب اليرموك كعاصمة اللجوء، والشتات الفلسطيني، والمخيّمات عامةً، وإخراجه من معادلة الصراع، تسهيلًا لإزالة حقّ عودة للاجئين الفلسطينيين من جدول الأعمال الإقليمي والدولي، باعتباره أحد أسس وثوابت القضية الفلسطينية.
ولا يقل عن ذلك بشاعةً وإجرامًا تدمير وتشويه فكرة وهدف جيش التحرير الفلسطيني السامي، وتحويله عبر الزمن إلى إحدى مؤسسات النظام الفاسدة الهرمة والمترهلة، ثم استخدامه في القتال والجرائم المرتكبة ضدّ الشعب السوري الثائر.
في السياق ذاته؛ لا بدّ من قول شيءٍ ما عن التنظيمات والفصائل الفلسطينية، التي صمتت بمعظمها عن ممارسات وجرائم النظام ضدّ المخيّمات واللاجئين، ورغم القطيعة التي سادت لسنواتٍ مع فتح أولاً، ثم حماس، إلّا أنّها استعادت جميعها العلاقات معه، خلال السنوات الماضية، دون أن تطرح قضية اللاجئين والمخيّمات على جدول الأعمال رسميًّا، بل يبدو صمتها؛ وموقفها الشائن هذا، وكأنّه تغطيةٌ وتأييدٌ للنظام، وتبيضٌ لسياساته الدموية في سورية والمنطقة عامةً، وضدّ المخيمات واللاجئين الفلسطينيين خاصّةً.
في الختام؛ وبتركيزٍ واختصارٍ، ورغم ما سبق كلّه، ووفق القواعد والسنن التاريخية والاستراتيجية، فقد ارتبط مصير الفلسطينيين دومًا بمصير إخوانهم العرب، خاصّة في دول الجوار، وحواضرها الكبرى والمؤثرة، ما يعنى أنّ عودةً ظافرةً وآمنةً وكريمةً للاجئين والمهجرين السوريين إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم التي دمّرها الأسد، تؤكد أنّ عودةً مماثلةً للاجئين الفلسطينيين إلى مخيّماتهم، ومن ثم إلى بلادهم، ستكون مسألة وقتٍ فقط، علمًا أنّها حتميةً بكلّ الأحوال، وفق سنن وتجارب ووقائع التاريخ القديمة والمعاصرة أيضًا.