المال السياسي ودوره في استدامة الخراب

31 يوليو 2022
تفرض إسرائيل على الفلسطينين معادلة "الاقتصاد مقابل الأمن" (Getty)
+ الخط -

تتعثر جهود المصالحة مراراً وتكراراً، نتيجة المصالح التي تكونت خلال السنوات الخمس عشرة لسيطرة حركة حماس على غزة، وبسبب تغير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مناطق الحكم الذاتي المحدود، وكذلك التغييرات التي شهدتها المنطقة الإقليمية والدولية، كلّ ذلك جعل المصالحة الفلسطينية مسألة في غاية التعقيد. هذا ما يبدو جليا في كل محاولات المصالحة والاتفاقيات والوساطات المختلفة، التي تنتهي إلى لا شيء، وكان أخرها الوساطة الجزائرية في صيف هذا العام.

خلال العدوان الأخير على غزة في مايو/أيار 2021؛ شهد المجتمع الفلسطيني مظاهر وحدة شعبية في كافة الأراضي الفلسطينية، سبقها احتجاجات شعبية ضد الكيان الصهيوني، شملت مدن الضفة الغربية والمدن المحتلة في العام 1948، الأمر الذي أثار الكثير من التفاؤل في صفوف الفلسطينيين، لكنه لم يدم طويلاً، لتعود حسابات الفصائل كي تتصدر المشهد الفلسطيني. 
"من يملك يحكم... بل يسحق أيضاً"؛ عبارة تصف عمل آليات صنع القرار السياسي الفلسطيني، القائمة على توظيف المال السياسي في إدارة الشأن السياسي والنضالي، وفي إحكام قبضة صناع القرار على الوضع الفلسطيني.

كان على سلطة حماس منذ استيلائها على غزة وما تبعه من حصار؛ فرضه الاحتلال وأطراف إقليمية ودولية؛ البحث عن نوافذ وطرق متنوعة لمصادر التمويل، كي تبقي على هذا الاستحقاق، لذا استخدمت سلاح المقاومة؛ والحروب الإسرائيلية على غزة؛ كعامل يجذب المال السياسي. بجانب آلياتها الاقتصادية الخاصة، مثل تجارة الأنفاق والضرائب. كذلك مشاريع إعمار غزة، المتأتية بعد كل حرب تستخدم كذريعة لاستجلاب المال السياسي.
قبلت حماس الحصول على أموال الدعم والتبرعات بالطرق التي فرضها الاحتلال، أي من خلاله، كذلك قبلت بمراقبته كيفية إنفاقها وهوية المستفيدين منها، الأمر الذي يوضح مدى ارتهان سلطة حماس للمال السياسي.

الاقتصاد مقابل الخراب الفلسطيني

يئن مجتمع الضفة الغربية وقطاع غزة تحت وطأة التدافع العنيف، وتستشري فيه ظواهر اجتماعية سلبية، كالعسكرة المفرطة، واستشراء الفساد، والاستقطاب، والفلتان الأمني، والتفاوت والتهميش والإقصاء، وترهل النظام الحزبي، والبحث عن مصادر بديلة للاستقواء الذاتي والفئوي والجهوي، وغير ذلك. الأمر الذي زاد من التأثيرات الإقليمية تحت ذريعة " الإعمار" بعد كل حرب تشنها دولة الاحتلال على غزة.
"الاقتصاد مقابل الأمن"؛ تلك المعادلة التي التزمت بها سلطة رام الله منذ خمسة عشر عاماً، تلتزم بها حركة حماس أيضاً عبر الهدنة مع الاحتلال. إذ تبدو الهدنة بين دولة الاحتلال وحركة حماس في غزة سارية؛ وإن كانت مؤقتة، مقابل إجراءات اقتصادية إسرائيلية، مثل الموافقة على دخول عمال فلسطينيين إلى الداخل، وتسهيلات ضخمة لعدد كبير من النخب الاقتصادية الحمساوية في تل أبيب، في مقابل عدم تحرك حركة حماس والفصائل الفلسطينية المقاومة عسكرياً؛ رغم الخطابات الإعلامية الفارغة؛ رداً على مسيرات الأعلام اليهودية واقتحام الأقصى في مايو/أيار الماضي.

مارست حركة حماس دور السلطة الفلسطينية ذاته، طيلة سنوات الانقسام، حيث شكلت مؤسسات وأجهزة أمنية وسلطوية، وربطت توظيف سكان القطاع بالموقف من الحركة وسلطتها. بذلك خلقت حماس شبكات اجتماعية، وروابط مصلحية وظيفية نفعية، مرتبطة بمؤسسات سلطتها، بغرض إحكام سيطرتها على قطاع غزة، وتشكلت أيضاً نخب اقتصادية، وشرائح اجتماعية جديدة، مرتبطة بمشروع حماس السلطوي.

فرضت حركة حماس الضرائب المرهقة على الشعب الفلسطيني في غزة، وإجراءات اقتصادية أخرى، كان أخرها فرض ضرائب على الواردات من الضفة الغربية وكأن الضفة دولة أجنبية. من أجل الحصول على المال من أجل إدارة "دويلتها، واستدامة سلطتها، وتكريس الوضع القائم.
لا يعني هذا أن سلطة رام الله بريئة من ذلك، فسياساتها تكرس الانقسام أيضاً، مثل استغلالها سياسات التوظيف؛ في الأجهزة الأمنية والمؤسسات المدنية؛ في شراء الولاء السياسي؛ تتكون الأجهزة الأمنية حالياً من أربعين آلف فلسطيني؛ من أجل خلق كوادر ونخب تدين بالولاء الكامل للسلطة، ومشروعها التفاوضي.  

تتدخل دولة الاحتلال من أجل إفشال جميع محاولات الصلح وإنهاء الانقسام، وبغرض منع تشكيل حكومة وحدة وطنية، عبر الحرب المباشرة على قطاع غزة، أو من خلال وسطائها الدوليين، أو عبر مجموعات المصالح الفلسطينية. فالمصالحة الفلسطينية لا تخدم عملية "السلام"، كما جاء على لسان بنيامين نتنياهو رئيس وزراء دولة الاحتلال الأسبق، في مقابلة تلفزيونية أجراها رداً على تشكيل حكومة وحدة وطنية في ربيع 2014.

باتت مواجهة الاحتلال الصهيوني خارج حسابات طرفي الانقسام الحالي

ديمومة الانقسام السياسي صناعة فلسطينية

هيمنت السلطة الفلسطينية على الحياة الأمنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الضفة الغربية، وعملت بمساعدة مجموعة من النخب المتحالفة معها على وضع تصورٍ محددٍ للنضال الفلسطيني، قائمٍ على مأسسة الأمن، والتخلص من كافة أشكال المعارضة الداخلية، سواء كانت من قبل حركة حماس، أو من بعض الأطراف داخل حركة فتح، التي لم توافق على توجهات السلطة الأمنية، وتعارض توجهاتها السياسية. 

بعد الانتفاضة الثانية؛ تم إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني، وتحييده عن المواجهة. وكمحصلة نهائية؛ لم يعد الانقسام الفلسطيني أمراً وقتياً، بل بات ضرورياً للنخب والكوادر التي خلقها الوضع القائم، الذين يفضلون النهج التفاوضي مع دولة الاحتلال، مقابل الاعتراف بهم كطرف أساسي في عملية التسوية. وشكل المال المشروط الممنوح من قبل فاعلين دوليين أو إقليميين، برعاية إسرائيلية، أزمة للمشروع التحرري الفلسطيني.

 لعب المال السياسي عبر وسائل توظيفه وأهدافه دوراً خطيراً، يصل إلى مساهمته في مخططات تصفية القضية الفلسطينية، وإضعاف قدرة المجتمع الفلسطيني على البقاء والصمود والمواجهة. وأدى صراع الهيمنة على المجتمع الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس إلى حرف سلوك الفلسطينيين، عن مقاومة ومواجهة الاحتلال، وبات صراعاً بينهما بشأن القيادة والتمثيل، أي قيادة وتمثيل العملية التفاوضية مع دولة الاحتلال.

أعلنت حركة حماس في غزة بأنها طرف أساسي في أي عملية تسوية قادمة، وأنها القادرة على منح دولة الاحتلال ما يريده من أمن، وذلك كان في الأول من مايو/أيار 2017، في ميثاقها التأسيسي، الذي قبِلَ فكرة إقامة دولة فلسطينية في المستقبل، تقتصر على الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة.

رغم محاولات رأب الصدع وإنهاء الانقسام الفلسطيني، ظلت الاستحقاقات الاقتصادية عنواناً لفشل المفاوضات بين حركة فتح وحماس، فلكل من طرفي الانقسام حساباته الخاصة، التي لا تنطوي على مواجهة الاحتلال الصهيوني. أهمها في حسابات حماس إعادة الإعمار، وإدخال الأموال إلى القطاع، حيث يسبب تعطيل هذا الملف في تململ الشارع الغزاوي، وتصاعد مشاعر النقمة من حركة حماس شعبياً. تعتقد سلطة حماس؛ أن مواجهتها في حرب "سيف القدس"، قد نتج عنها تبدل في موازين القوى الداخلية لصالحها في الضفة الغربية وقطاع غزة.

يوماً بعد يوم؛ تفقد سلطة رام الله سيطرتها على الضفة الغربية، بسبب أزمتها الداخلية، وأزمة فصيلها السياسي "فتح"، وكوادره من جهة، وفشلها في إدارة الحقل السياسي الفلسطيني في الضفة، وعدم قدرتها على منح دولة الاحتلال الآمن في مدن الضفة الغربية من جهة أخرى، نتيجة ازدياد الحركات الاحتجاجية والمقاومة الفردية مع جنود الاحتلال والمستوطنين، منذ عام 2021. لذا تصر سلطة رام الله على التحكم في ملف إعادة الإعمار والمسائل المالية، على اعتبارها السلطة الشرعية الوحيدة، معتقدةً أن تحكمها بهذه الملفات سوف يعيد مكانتها المفقودة، ويعوض تقهقر شعبيتها المتزايد في الضفة الغربية.

يبقى الانقسام الفلسطيني أمراً ضرورياً في حسابات حركتي فتح وحماس، حيث يسوق كل منهما نفسه إقليمياً ودولياً على اعتباره الطرف الأقدر على التفاوض، وعلى التوصل إلى تسوية، في ظل غياب الرؤية السياسية والاستراتيجية الفلسطينية للعلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي. بعدما أعلنت حركة حماس قبولها دولة فلسطينية على حدود عام 1967؛ كما جاء في وثيقة السياسات العامة عام 2017؛ ونتيجة التحولات الدولية والإقليمية، تمسكت الحركتان بشبكة الامتيازات والمنافع، وعملتا على زيادة القوى المستفيدة من بقاء الانقسام كما هو.