في الوقت الذي وصلت فيه العلاقة والثقة بين الجانبين الروسي والغربي إلى الحضيض، كشف الدنماركيون عن وثائق سوفييتية سرية، من أرشيف حلف "وارسو" (السابق) في بولندا، تفيد بأن بلدهم كان مستهدفاً في عام 1989 بنحو 133 رأساً نووياً تكتيكياً، وبما يفوق قنبلة هيروشيما (التي ألقتها واشنطن على اليابان عام 1945) بـ400 ضعف.
ورغم مرور 33 عاماً على الوثائق، المكونة من 42 صفحة، يحذر المؤرخون من التراخي حيال الخطط والعقيدة العسكرية الروسية.
وكشف مؤرخون دنماركيون، اطلعوا من محفوظات الحرب الباردة (1947-1992) في وارسو على الخطة، عن أن الهدف تمثل في "إمطار الدنماركيين بـ133 صاروخاً وقنبلة نووية تكتيكية في المرحلة الأولى لوحدها". وكانت الدنمارك جزءاً من الدول الـ12 المؤسسة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) في 1949.
ودفع التهديد الروسي العلني، بعد غزو أوكرانيا، بإمكانية استخدام السلاح النووي إلى استعادة المؤرخين، وفقاً لصحيفة "بيرلنغسكا" الدنماركية في عدد نهاية الأسبوع ما سموه "تحذير التاريخ"، حيث يؤمن هؤلاء أن موسكو تعني ما تقول عن "النووي التكتيكي".
ولفتت "بيرلنغسكا" إلى أن الخبراء أكدوا صحة وثائق خطط الهجوم، وأنه في ظل شيوع تفاؤل بانتهاء الحرب الباردة خلال فترة آخر رئيس سوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، كان في خريف 1989 "جنرالات روسيا، الساخطون من سياسة الانفتاح والإصلاح (بيروسترويكا وغلاسنوست)، يخططون لهجوم نووي على الدنمارك".
ونقلت الصحيفة عن الباحث في الأرشيف الوطني الدنماركي، ستين أندرسن، والذي اكتشف الخطة مع المؤرخين والمختصين في الدفاع، أن الوثائق مهمة بعد تكرر التصريحات الروسية عن استخدام السلاح النووي، "فهم يحددون بأنفسهم معنى تهديد وجود روسيا لتبرير استخدامها".
وذكر أخيراً دبلوماسي روسي كبير لشبكة "سكاي نيوز" أن بلده "قوة نووية، فلم لا نستخدمها؟"، كما ذهب إلى ذلك الرئيس السابق (ديمتري) ميدفيديف، في صحيفة "ذا غارديان" البريطانية. ويوضح أندرسن أنه "بينما نشاطر الغرب فكرة أن الأسلحة النووية وحشية، وبالتالي يستحيل استخدامها، فإنهم في روسيا لا يفكرون بنفس الطريقة".
الخطة.. دمار يفوق هيروشيما أضعافاً
وخُزنت الرؤوس النووية، التي كانت ستستخدم ضد الدنمارك، في بولندا، وبدون تأثير من هيئة الأركان البولندية، بل بقرار روسي خالص، "سُلمت إلى وحدات الإطلاق، والسوفييت هم من رمزوا الأهداف".
وهدفت الخطة إلى إقصاء الدنمارك عن ساحة المواجهة مع حلف شمال الأطلسي، وذلك بضرب منظومات صواريخ توماهوك، قرب كوبنهاغن، وإطلاق قصف نووي ممتد من حدود ألمانيا (جنوب الدنمارك) مروراً بمدن ومطارات (وبعضها مدني بالكامل، مثل مطار آرهوس، وسط غرب) وقيادة الدفاع المسؤولة عن البلطيق.
واقتضت المرحلة الأولى قصفاً بـ100 رأس نووي وباستخدام صواريخ سكود (غير دقيق في إصابة الهدف)، ونحو 31 هجوماً بالطائرات. ويبدو أن المرحلة الثانية سميت "50 إس"، بموجة قصف نووي تكتيكي بعد انتظار 50 دقيقة.
القصف النووي لم يكن سيزيل فقط القدرات الدفاعية الدنماركية، بل كل رأس نووي كان سيحمل نحو 50 كيلوطناً، ما يعني أن المرحلة الأولى كانت ستحيل معظم البلد إلى "حصى ورمال زجاج، وخصوصا أن المجموع الكلي للضربة كان سيصل إلى نحو 6550 كيلو طن"، بحسب ما كشف المؤرخون من الوثائق.
ومقارنة بضرب هيروشيما في عام 1945 بقنبلة تزن فقط 15 كيلوطناً، وقتلت وجرحت نحو 135 ألف إنسان، فإن الرؤوس النووية الموجهة إلى الدنمارك كان سينجم عنها دمار هائل.
وكانت الخطط السوفييتية التقليدية (قبل خطة 1989) تقضي بقصف تمهيدي وغزو روسي-بولندي للسيطرة على الدنمارك، لكن "في خريف 1989، استبدلتها هيئة الأركان الروسية في الدائرة القطبية الشمالية بخطة دمار شامل، بهدف نشر إرهاب ورعب في الغرب"، بحسب ما كشف أندرسن.
تحذير من خطط روسيا اليوم
ويعبر خبراء عسكريون في كوبنهاغن، وفي دول أوروبية أخرى، عن قلقهم من التقديرات التي تقول إن العقيدة العسكرية في روسيا تستمر اليوم كامتداد لما كانت في السابق. ويشيرون بشكل خاص إلى اعتمادها إمكانية الضرب النووي بـ"توقع هجوم أو تهديد خطير (ضد روسيا)"، بحسب تفسيرات ذاتية روسية.
ويؤمن هؤلاء أن العملاء السوفييت يعملون، كما في أيام الحرب الباردة، بمراقبة أسعار بلازما الدم وتخزينه وتخزين مادة اليود كـ"مؤشرات على ضربة نووية غربية".
العودة اليوم إلى قلق الحرب الباردة تدفع المتخصصين إلى محاولة قراءة ما يفكر فيه مسؤولو هيئة الأركان الروسية، وخصوصا اعتقادهم مواصلتها تبني النهج السوفييتي، وبإمكانية إصدار أوامر بـ"حرب نووية وقائية".
والكشف اليوم عن أن عاصمة الدنماركيين، كوبنهاغن، كانت مستهدفة بصواريخ نووية، وكل صاروخ بثلاثة أضعاف قنبلة هيروشيما، لا يساهم على الإطلاق في استعادة سهلة لأجواء الثقة والانفراج اللذين سادا خلال فترة سقوط جدار برلين 1989، إذ يتبين لهم أنه حتى في ذروة الاعتقاد أن الحرب الباردة انتهت، كان من الممكن أن تُمحى البلد، في سياق يؤدي إلى مواجهة مدمرة بين الغرب وروسيا.
ويرى أخيرا المؤرخ ستين أندرسن أنه على المتشككين بإمكانية استخدام روسيا السلاح المدمر "التفكير، وتذكر أن الحرب جزء من رواية (سردية) الجيش الروسي، فهم يعتبرون براغ عام 1968 وكابول 1979 وغروزني 1995 وجورجيا 2008 وسورية 2015 نجاحا عسكريا، وفي تدريب ضباطهم يقولون: يمكننا أن نواصل الهجوم وبشكل مكثف ونحل المشاكل، ما يعني أن الحرب تصبحُ أسهلَ الحلول وأكثرها ملاءمة".
ويوضح أندرسن أن المناورات الروسية زاباد 17 و21 أُدخلت فيهما الأسلحة النووية، والتدريبات ما تزال على النسق السوفييتي، "فلا يجب الاستخفاف بالتهديد بذلك السلاح، وبدل استخدام منصات الإطلاق ببولندا وصواريخ سكود، فإننا في مواجهة صواريخ اسكندر في كالينينغراد (جيب روسي على بحر البلطيق يقابل الدول الإسكندنافية)".