تسعى القوى السياسية في العراق إلى تجنب تكرار ما تسميّها بـ"الفتنة"، التي تُستعاد مع كل انتخابات نيابية تُجرى في البلاد، من خلال إجراء تعديلات دستورية ستكون الأولى من نوعها إذا ما أُقرّت، منذ دستور العراق عقب الغزو الأميركي للبلاد (2003)، والذي دخل حيّز التنفيذ بعد التصويت عليه في استفتاء شعبي عام 2005.
التعديلات المستهدفة حتى الآن تتركز على المواد المتعلقة بطريقة اختيار رئيس الحكومة، التي منحت القوى السياسية تأويلات كثيرة بسبب عدم وضوح المادة 76 منها على وجه التحديد، ووصلت إلى ما يعرف بـ"الكتلة الكبرى"، وطريقة تحديد أو تسمية هذه الكتلة داخل البرلمان أو من خلال الانتخابات.
كما تتركز على المواد المتعلقة بصلاحيات رئيسي الجمهورية والبرلمان، ودور المحكمة الاتحادية العليا، وصلاحيات حكومة إقليم كردستان في أربيل، وسلطة بغداد (الحكومة الاتحادية)، والفصل بين السلطات. ويطرح عدد من النواب تعديلات أخرى متباينة، مثل المطالبة بتغيير شكل نظام الحكم إلى رئاسي، فيما يعتبر آخرون أن النظام البرلماني الحالي أفضل، ويطرح طرف ثالث النظام المختلط بينهما. ويطالب نواب بمراجعة المادة 140 المتعلقة بإدارة المناطق المتنازع عليها بين إقليم كردستان وبغداد، ومواد تتعلق بصلاحيات المحافظين في المحافظات العراقية، ومواد اعتبرت قابلة للتأويل والتفسير وتحتاج إلى تفسير أوضح، مثل الحريات العامة والخاصة.
مستشار حكومي لشؤون التعديلات
وقال بيان لمكتب رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني، في 8 فبراير/ شباط الحالي، إن مستشار الحكومة لشؤون التعديلات الدستورية والذي تمّت تسميته في نهاية شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، حسن الياسري، التقى في اليوم ذاته رئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد، وعرض عليه مشروع الحكومة للتعديلات الدستورية.
تتركز التعديلات المستهدفة على اختيار رئيس للحكومة وصلاحيات الرؤساء وشكل النظام
وأضاف البيان أن اللقاء ركّز على أهمية التنسيق بين رئاسة الجمهورية والحكومة، لتبني مشروع التعديلات الدستورية على أمل التنسيق لاحقاً مع السلطات الأخرى، في إشارة إلى البرلمان ومجلس القضاء الأعلى، دون التطرق إلى مزيد من التفاصيل.
إلا أن مصادر في مكتب رئيس الحكومة أبلغت "العربي الجديد"، أن المستشار الياسري شكّل فريقاً قانونياً يضم خبراء ونواباً سابقين، ووضع تصورات كاملة عن أهم البنود الدستورية التي خلقت مشاكل سياسية في البلاد خلال السنوات الـ18 الماضية، بما يضمن استقراراً سياسياً وتداولاً للسلطة دون المشاكل والأزمات التي تتكرر كل أربع سنوات.
وأضافت المصادر أن الفريق باشر العمل ومن المرجح أن تكون الصورة قد نضجت في شهر مايو/ أيار المقبل بشأن "تعديلات دستورية مهمة، لكن تبقى المسألة متوقفة على القوى السياسية وموقفها من تلك التعديلات".
وتحدثت المصادر عن اتفاق بين القوى السياسية العراقية على التعديلات الدستورية، وتباين حول طبيعة تلك التعديلات والمواد المستهدفة فيها، وهو ما يعتبر العائق الأكبر أمام المضي بها.
العنوان العريض الذي ستجري تحته آلية التعديلات الدستورية هو منع تكرار حالة "الانسداد السياسي" عقب إعلان نتائج كل انتخابات، والتي استمرت بعضها لأكثر من عام، وتطورت أخيراً إلى صدام مسلح ما بين أنصار "التيار الصدري" (بزعامة مقتدى الصدر)، والفصائل المسلحة المحسوبة على طهران (بعد الانتخابات التشريعية التي أجريت في أكتوبر/ تشرين الأول 2021)، الأمر الذي دفع زعيم "التيار" إلى العزلة السياسية.
تعديل دستور العراق بين الشروط والعوائق السياسية
ويشترط الدستور العراقي لإجراء أي تعديلات فيه اقتراح رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء مجتمعين هذا التعديل، أو طلباً مقدماً من خُمس أعضاء البرلمان (عدد أعضاء البرلمان 329 نائباً). وجاء في المادة 126 من الدستور العراقي أن التعديل يتم بعد تصويت أغلبية النواب في البرلمان على التعديلات، ثم عرض ذلك على التصويت باستفتاء شعبي. وتعتبر التعديلات مجازة إذا لم تُرفض من قبل ثلثي سكّان ثلاث محافظات.
وهذا النص اعتبر لاحقاً أحد معوقات التعديل، وجرى الحديث أن القوى الكردية وضعته خلال عمل لجنة كتابة الدستور بهدف حماية مُنجز حصول المحافظات الكردية الثلاث (دهوك، أربيل، والسليمانية)، على إقليم يتمتع بحكم شبه مستقل عن بغداد.
القيادي في "الإطار التنسيقي" محمود الحياني، قال لـ"العربي الجديد"، إنه "حتى الساعة لا يوجد اتفاق سياسي بشأن طبيعة التعديل في بعض فقرات الدستور، رغم الحاجة الملحة لهذه التعديلات وأهمية إغلاق باب الأزمات".
تتفق القوى السياسية على ضرورة إجراء تعديلات دستورية لكنها تختلف حول طبيعتها
ورأى الحياني أنه "لا يمكن إجراء التعديل دون توافق سياسي أولاً، خصوصاً أنه يحتاج إلى استفتاء شعبي، ورفض ثلاث محافظات لهذا الاستفتاء يعني عدم حصول أي تغيير، لذلك يجب أن توافق كل القوى الكردية على أي تعديل دستوري حتى لا ترفض المحافظات التي هي تتحكم فيها، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على القوى السياسية السنّية وحتى الشيعية منها في الوسط والجنوب". وبرأيه، فإن "تعديل فقرات الدستور العراقي يحتاج إلى مفاوضات طويلة".
في المقابل، قال عضو تحالف "السيادة" حسن الجبوري، لـ"العربي الجديد"، إن "القوى السياسية السنّية ليس لديها أي اعتراض على تعديل بعض فقرات الدستور، لكن هذه التعديلات يجب أن تتم مناقشتها والاتفاق عليها من قبل الجميع، وأي تعديل للفقرات الدستورية لا يمكن أن يتم دون اتفاق مسبق".
وبيّن الجبوري أنه "حتى الساعة لا يوجد اتفاق على الملف في المجمل، أو على المواد التي يُراد تعديلها وكيف سيكون التعديل، كما لا يمكن فرض رأي جهة معينة بشأن التعديل الدستوري". ولهذا السبب، شدّد الجبوري على "وجوب أن تكون هناك مناقشات تجمع كل الأطراف السياسية لمناقشة التعديلات وكيفية التعديل، وبخلاف ذلك لا يمكن إجراؤه".
وتحدث الجبوري في هذا الإطار عن "ملاحظات" لدى القوى السياسية السُنّية بشأن بعض فقرات الدستور، و"هي ملاحظات سيتم طرحها على رئيس الوزراء محمد شياع السوداني وباقي الأطراف السياسية الأخرى من أجل الاتفاق عليها وجعلها ضمن التعديلات الدستورية".
من جهته، قال القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني، الحاكم في إقليم كردستان، مهدي عبد الكريم، لـ"العربي الجديد"، إن "تعديل فقرات الدستور ليس بالأمر السهل، وهناك الكثير من الذين سعوا لهذا الأمر خلال السنوات الماضية، لكنهم أخفقوا بسبب عدم وجود إرادة سياسية حقيقية تريد تعديل فقرات الدستور".
وبيّن عبد الكريم أن "تعديل الدستور يحتاج إضافة إلى الاتفاق السياسي، إلى تخصيصات مالية من أجل الاستفتاء الشعبي وإجراءات فنية ولوجستية كبيرة، ولهذا فإن أي حكومة أو فريق سياسي يسعى إلى هذا التعديل يواجه صعوبات وعراقيل كبيرة، فيُترك الأمر"، وذكّر بأن آخر تحرك في هذا الاتجاه حصل في عام 2019، من دون أن ينجم عنه أي شيء.
وأكد القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني أن "القوى السياسية الكردية لديها رأي بشأن فقرات الدستور، وستعمل على تثبيت هذا الرأي في أي تعديل دستوري مرتقب، خصوصاً أنه لا يمكن إجراء أي تعديل دون الاتفاق السياسي الذي على أثره يتم الاستفتاء الشعبي من خلال القواعد الشعبية للأطراف السياسية في كافة المدن العراقية".
وتعليقاً على هذا الحراك، أوضح الخبير القانوني علي التميمي مدى إمكانية المضي في إجراء تعديلات دستورية، متحدثاً عن أنها تتطلب إجراءات طويلة.
وأوردت وكالة "المعلومة"، العراقية المحلية، إيضاحاً للتميمي، جاء فيه أن "الدستور العراقي من الدساتير الجامدة وليس المرنة، أي التي لا يمكن تعديلها إلا بإجراءات طويلة".
وبيّن الخبير القانوني أن "البرلمان لا بد له أن يشكل لجنة التعديل، وأن يوافق أولاً على تعديلاتها بأغلبية عدد أعضائه (نصف العدد الكلّي + 1)، بعد تحقق النصاب، ومن ثم يعرض التعديلات على الاستفتاء الشعبي ويوافق نصف المصوتين + 1، وألا يعترض على التعديل ثلثا المصوتين في 3 محافظات عراقية".
ترى معظم القوى السياسية أنه من الضروري حصول توافق سياسي قبل إجراء استفتاء على التعديلات
ولفت التميمي إلى أن "المواد التي تحتاج إلى تعديل تتلخص في شكل النظام السياسي، إذ يحتاج إلى التحول للنظام الرئاسي الذي هو الأفضل للعراق، وحلّ المادة 140 المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها والمادة 73 المتعلقة بصلاحيات الرئيس وشكل البرلمان"، ورأى أن شكل النظام السياسي من الممكن أن يكون مختلطاً كما في فرنسا، أي أن ينتخب الرئيس من الشعب وينتخب رئيس الوزراء من البرلمان وتكون صلاحيات الرئيس أكبر.
وأقرّ الدستور العراقي في عام 2005، في استفتاء شعبي قاطعه طيف واسع من العراقيين. ويتضمن الدستور بنوداً وفقرات ما زالت مثيرة للجدل، تبدأ من ديباجة الدستور الأولى التي استبدلت عبارة أن العراق دولة عربية، والموجودة منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، إلى عبارة أن العراق دولة متعددة القوميات والأديان والمذاهب وعضو مؤسس وفعّال في جامعة الدول العربية، مروراً بمادة المناطق المتنازع عليها.
كما تم ذكر وترسيخ مفردة المكونات التي أسّست للمحاصصة الطائفية في العراق، وانتهاء بقانون البرلمان والنظام الفيدرالي الذي أعطى الحق لأي محافظة، أو عدة محافظات مجتمعة، في اختيار الذهاب نحو إقليم مستقل إدارياً على غرار إقليم كردستان.
وشكّل مجلس النواب العراقي في عام 2019 لجنة لتعديل الدستور على خلفية الاحتجاجات الشعبية، إلا أن اللجنة لم تحقق أي تقدم باتجاه التعديلات، بسبب وجود رفض سياسي لذلك.
وسبق أن دعا رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان، في أكتوبر الماضي، البرلمان إلى إجراء تعديلات على الدستور، وذلك عقب تجدد الجدل بشأن المواد الفضفاضة القابلة لأكثر من تفسير وتأويل والتي تحولت إلى مشكلة تتجدد في كل أزمة سياسية.
وأقرّ زيدان بوجود أخطاء في تفسير بعض القوانين، ومنها قانون "المحكمة الاتحادية"، الذي تسبب بمشاكل سياسية، كانت آخرها أزمة "التيار الصدري" الذي أراد تشكيل الحكومة بصفته الفائز الأول بالانتخابات البرلمانية الأخيرة، لكنه لم يتمكن بسبب الالتفاف حول تفسير ينص على تشكيل الحكومة عبر التحالف السياسي الأكبر بعد إعلان نتائج الانتخابات. ووفقاً للقاضي زيدان، فإن "الدستور خُرق أكثر من مرة".