العلاقة بين بريطانيا العظمى ورابطة دول الكومنولث.. أسئلة شائكة

12 سبتمبر 2022
يبقى السؤال عن العلاقة بين بريطانيا ودول الكومنولث شائكاً بعد رحيل الملكة إليزابيث (Getty)
+ الخط -

قال رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو ناعياً الملكة إليزابيث الثانية بصوت تخنقه الدموع، لقد "كانت ملكتنا لما يقارب نصف عمر كندا، كانت شخصاً مرحاً وملتزماً ومثيراً للاهتمام، قدّمت لي الكثير من النصائح"، ويُضيف: "في عالم معقد، جلب عزمها الثابت الراحة والقوة لنا جميعاً. كندا في حداد". بهذا المشهد، أعلن رئيس الوزراء الكندي حداد دولته على الملكة الراحلة.

صحيح أنّ كلمات ترودو توجز الانطباع العام والخاص الذي خلّفته الملكة إليزابيث الثانية لدى كل القادة والمسؤولين والسياسيين الذين قابلتهم؛ إلا أنها أيضاً تعيد إلى الأذهان ما صرّح به ترودو العام الماضي من أن مسألة تعيين رئيس للدولة ليست ذات أولوية في الوقت الراهن، خاصة أن أي تغيير يتطلّب قراراً بالإجماع من قبل كل هيئة تشريعية إقليمية، إضافة إلى الهيئات البرلمانية الوطنية.

 كما أنّ هذه العوائق الدستورية الكبيرة لا تقتصر على كندا وحدها بل بين "دول الكومنولث" الـ14 التي لا تزال خاضعة للتاج البريطاني.

وفي حين جرى تعليق البرلمان في كانبيرا لمدة 15 يوماً، بينما أضيئت دار أوبرا سيدني تكريماً للملكة؛ فإن النقاش الجمهوري القديم انتعش من جديد في غضون ساعات من إعلان وفاتها.

قالت عضوة مجلس الشيوخ الأسترالي، مهرين فاروقي، عن "حزب الخضر": "لا يمكنني الحداد على زعيم إمبراطورية عنصرية شُيّدت على أرواح وأراضي وثروات الشعوب المستعمرة المسروقة". فيما صرّح رئيس وزراء أنتيغوا وباربودا، غاستون بروان، قبل يومين بأنه سيدعو إلى إجراء استفتاء على الجمهورية في غضون ثلاث سنوات.

 يُذكر أنه سبق لبراون وأن لمّح بمثل هذه الخطوة خلال الزيارة التي قام بها الأمير إدوارد وزوجته صوفي هذا العام.

وأضاف براون أن "هذه الخطوة ليست عدائية ولا تنمّ عن خلاف بين أنتيغوا وباربودا من جهة والنظام الملكي من جهة أخرى، لكنها الخطوة الأخيرة لإكمال دائرة الاستقلال وضمان سيادة دولتنا". مؤكّداً أن "دولتنا ستبقى عضواً ملتزماً في الكومنولث، حتى لو أطاحت بالنظام الملكي عن طريق الاستفتاء".

وكانت بربادوس هي أحدث دولة قطعت علاقاتها مع التاج البريطاني عام 2021 منذ آخر موجة كبيرة شهدتها السبعينيات، وضمت دول الكاريبي دومينيكا وغيانا وترينيداد وتوباغو. إلا أن مجيء الملك تشارلز الثالث قد يوفر لحظة طبيعية لما يقارب 150 مليون شخص تضمّهم "الكومنولث" للتساؤل عما إذا حان الوقت لإجراء استفتاء مماثل.

ليست العوائق الدستورية التي مرّ على ذكرها رئيس الوزراء الكندي قبل عام هي وحدها ما يؤخّر القطيعة مع تاريخ موجع من الحكم الاستعماري البريطاني المباشر، بل المكانة الخاصة التي كانت تحظى بها الملكة إليزابيث الثانية في معظم تلك الدول، والتي عملت عليها لعقود طويلة حتى في البلدان التي كانت الحركة الجمهورية فيها قوية كجامايكا.

ففي حين تزامن أفول الاستعمار البريطاني مع صعود نجم الملكة الشابة؛ فالحقيقة أن معظم "دول الكومنولث" لم تعرف حاكماً سواها، حالها كحال ملايين البريطانيين المتسمّرين أمام شاشات التلفزيون يشاهدون مراسم الوداع الأخير، والآلاف من بينهم يتجمهرون حتى هذه اللحظة أمام قصر باكنغهام وأيضاً وندسور، يبكون بحرقة لفقدانهم جزءاً أساسياً من ذاكرتهم ومن تجاربهم الشخصية ومن حياتهم اليومية.

لقد كانت الملكة إليزابيث حاضرة دائماً في كل الطقوس التي عاشها الملايين، من الزواج إلى الإنجاب إلى الطلاق إلى حضانة الأطفال والأعراس وطلبات اللجوء والحصول على الأوراق الرسمية وغيرها.

ومع رحيلها يبقى السؤال حول مستقبل العلاقة بين هذه الرابطة وبين التاج البريطاني هو سؤال اللحظة وسؤال السنوات المقبلة ربما. كما أنّ اعتلاء الملك تشارلز العرش سيشعل الجدل من جديد حول "شرعية" هذه السلطة الرمزية للتاج البريطاني إن كان في "دول الكومنولث" الـ14 أو على الساحة الدولية.

ويبدو أن جامايكا هي الأقرب والأكثر عرضة لمواجهة هذا السؤال، خاصة أن تعيين الملك الجديد قد يتطلب استفتاءً دستورياً. وهي الدولة التي كان عنوان الصفحة الأولى في أكبر الصحف فيها، "ذا غلينر"، يُفتتح بجملة "وفاة الملكة ستجعل انفصال جامايكا عن النظام الملكي أسهل".

إضافة إلى أن جامايكا لا تمتلك العائق الدستوري الذي يصعّب خطوة كهذه في بلدان أخرى، ففي حين سيتطلب أي تغيير أغلبية الثلثين في الاستفتاء بالنسبة إلى أنتيغوا وباربودا؛ فإن الأغلبية البسيطة في جامايكا ستكون كافية، وهي العتبة التي أشارت استطلاعات الرأي إلى أن تحقيقها ممكن جداً.

مع أن رئيس الوزراء آندرو هولنس لم يشر إلى أي خطط مستقبلية حول استفتاء الجمهورية في بيان التعزية الذي نشر يوم الخميس، إلا أنه استغلّ زيارة الأمير وليام وزوجته كيت العام الماضي للقول "إننا نمضي قدماً في طريق دولة مستقلة ومتطورة ومزدهرة".

بينما شهدت سانت فنسنت وجزر غرينادين العديد من التظاهرات العنيفة للمطالبة بتعويضات عن تجارة الرقيق خلال زيارة الأمير إدوارد؛ ما دفع رئيس الوزراء، رالف غونسالفيس، للمطالبة بإجراء استفتاء في شهر يوليو/ تموز شرط الحصول على دعم الحزبين.

أما دول الكاريبي الأخرى مثل جزر البهاما وبليز وغرينادا وسانت كيتس ونيفيس وسانت لوسيا، فلديها حركات جمهورية نشطة تتلقى دعم كبار السياسيين، إلا أن بليز هي الوحيدة المرشّحة لتغيير قريب، لأن عزل الملك، تشارلز الثالث، لا يتطلب سوى تصويت برلماني على عكس غرينادا التي تتطلب تصويت الثلثين.

كما أن العائلة المالكة كانت قد سعت عبر الملكة إليزابيث وورثتها إلى معالجة الماضي الإمبراطوري الدموي لبريطانيا على مدى عقود من خلال الزيارات والخطابات التصالحية والاعتراف العلني بـ"الفظائع المروعة للعبودية التي لطّخت التاريخ البريطاني إلى الأبد"، على حدّ تعبير الملك تشارلز عندما كان أميراً.

لكن هذه الخطابية لم تعد كافية ربما في وقتنا الراهن، خصوصاً أن رياحاً جديدة كشعار "حياة السود مهمة"، بدّلت الوعي الجماعي وفتحت النقاش واسعاً على إرث زمن العبودية وعلى العنصرية والتمييز في "دول الكومنولث" الـ54 والتي يبلغ عدد السكان فيها مليارين ونصف، معظمهم من غير البيض وأعمارهم تقل عن الـ29 عاماً.

كما أنّ العائلة المالكة، لاحظت بعد الزيارة "الفاشلة" التي قام بها الأمير وليم وزوجته كيت في مارس/آذار الماضي إلى منطقة البحر الكاريبي، أنّ الفجوة بدت أوسع من أي وقت مضى بين النظام الملكي وسكان ذلك الجزء من "دول الكومنولث" وخاصة الجيل الجديد منهم.

يبقى السؤال شائكاً حول ماهية العلاقة المؤسساتية والأمنية بين بريطانيا العظمى ورابطة "دول الكومنولث"، خاصة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وسعيها لتأسيس علاقات قوية مع دول ككندا وأستراليا وتأسيس اتفاقات تجارية بديلة، كما أنّه يصعب إغفال التنسيق الأمني الذي فرضته الحرب الروسية على أوكرانيا والرغبة المتصاعدة بمواجهة الصين مما جعل العلاقة بين بريطانيا وبعض "دول الكومنولث" أبعد وأعمق من الإرث الاستعماري ومن مطالب الحركات الجمهورية.

المساهمون