تشهد العلاقات السودانية الإثيوبية تردياً مستمراً منذ نحو 5 أشهر، جراء التوتر الأمني على الحدود، والتصعيد السياسي والدبلوماسي، والتراشق الإعلامي اليومي. وعلى الرغم من أنّ البعض لا يستبعد أن يقود كل ما يجري إلى حرب بين البلدين، إلا أنّ التصريحات الرسمية السياسية لا تزال تتمسك بالحوار كسبيل لحل الأزمة. وهو ما أبلغه رئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك، لمفوضة الشراكة الدولية بالاتحاد الأوروبي، غوتا أوربلانين، في اتصال هاتفي الإثنين الماضي، أكد خلاله أنّ السودان لم يتسبب في الأزمة الحدودية مع إثيوبيا، وأن الحوار هو السبيل الوحيد لحل الأزمة. وطبقاً لبيان أصدره مكتب حمدوك، اشترط رئيس الوزراء، خلال المكالمة الهاتفية، "وضع العلامات والترسيم الكامل على الأرض للحدود، التي لم تكُن يوماً محل نزاع". كما أكد رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، بدوره، خلال جلسة في البرلمان الإثيوبي أول من أمس الثلاثاء، أنّ بلاده "لا تريد حرباً مع السودان".
وكان التوتر الحدودي قد بدأ في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي وتصاعد في الأشهر التالية، وذلك عقب تمكّن الجيش السوداني من استعادة 90 في المائة من أراضي منطقتي الفشقة الكبرى والصغرى بشرق البلاد من السيطرة الإثيوبية، في عملية إعادة انتشار للجيش السوداني هي الكبرى منذ عقود على الحدود. وحسب رواية الخرطوم، فإن منطقتي الفشقة الكبرى والصغرى هما أراض سودانية، بموجب اتفاقية تم توقيعها بين البلدين عام 1902، وتمددت فيها إثيوبيا إبان نظام الرئيس السابق عمر البشير، عبر وسيلتين مختلفتين؛ أولاهما، التغول المباشر في عمق 9 إلى 22 كيلومتراً بأراضي المنطقة، بعد إخلائها في عام 1995 من قبل الجيش السوداني، الذي كان مشغولاً في ذلك الحين بعدد من الحروب الداخلية في جنوب البلاد وشرقها. أما الوسيلة الثانية، فتمثلت بدخول مئات المزارعين الإثيوبيين إلى المنطقة، وزراعتها بمحاصيل مثل الذرة والسمسم وغيرهما، وذلك باستئجار الأرض من المزارعين السودانيين، أو أخذها عنوة تحت حماية مليشيا الشفتة، شبه الرسمية والتابعة لإقليم أمهرا المتاخم للحدود السودانية.
حاول الطرفان لمرتين فقط تحريك الأدوات الدبلوماسية بينهما لاحتواء أزمة الحدود
وبعد أن أكملت إثيوبيا سيطرتها على المنطقة، بات إقليم أمهرا يعتمد عليها كلياً في غذائه، وبالتالي زاد التمسّك الإثيوبي بها. ومع أي احتجاج سوداني على ذلك الاستغلال والتغوّل، ترد أديس أبابا بتحميل المسؤولية لمليشيا الشفتة، من دون أن تفصح عن نواياها الحقيقية في ضم المنطقة إليها.
لكن هذه المرة، وبعد تحركات الجيش السوداني، تحدثت أديس أبابا بشكل صريح وواضح عن ملكيتها للأرض وأحقيتها فيها، وأعلنت عدم اعترافها باتفاقية عام 1902 التي يستند إليها السودان، باعتبارها "وثيقة استعمارية". وعدّت إثيوبيا انتشار الجيش السوداني في المنطقة تغوّلاً على أراضيها، وتشريداً للمزارعين الإثيوبيين، وإتلافاً للأراضي الزراعية، محمّلةً السودان مسؤولية مقتل العشرات من المواطنين خلال العمليات العسكرية.
فشل الدبلوماسية الثنائية
ومنذ تفجّر الأزمة الأخيرة، ولمرتين فقط، حاول الطرفان تحريك الأدوات الدبلوماسية، لاحتواء القضية بشكل ثنائي. المرة الأولى كانت بزيارة قصيرة قام بها حمدوك إلى أديس أبابا في 13 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، برفقة عدد من المسؤولين في الأجهزة العسكرية والأمنية، إضافة لعدد آخر من الوزراء والمسؤولين في الدولة. وخرج حمدوك يومها من الزيارة خالي الوفاض، باستثناء اتفاقه مع نظيره الإثيوبي أبي أحمد على استئناف اجتماعات لجنة ترسيم الحدود المشتركة، في غضون أسبوع واحد من تاريخ الزيارة. وبالفعل، اجتمعت اللجنة في الخرطوم، يوم 23 ديسمبر، وبتمثيل دبلوماسي رفيع المستوى، إذ شارك في الاجتماع نائب رئيس الوزراء الإثيوبي، ديميكي ميكونين، الذي ترأس وفد بلاده، بينما ترأس وفد الجانب السوداني، وزير شؤون مجلس الوزراء، عمر بشير مانيس، وكانت هذه الخطوة الدبلوماسية الثانية بين الطرفين.
وجرت تلك الاجتماعات في أجواء مشحونة ومتوترة، وتبادل الطرفان فيها الاتهامات، وخرجا في النهاية ببيان دبلوماسي خجول، أشارا فيه إلى توافق الوفدين على رفع موضوعات الخلاف لقيادة البلدين. وفي حقيقة الأمر، لم ترفع النتائج لقيادات البلدين ولم تتقدم المباحثات بعد ذلك قيد أنملة. بعدها تواصلت المناوشات على الحدود، وانقطع التواصل الدبلوماسي الثنائي نهائياً على جميع المستويات، وتوقفت الزيارات المتبادلة. وفي الأسبوع الأخير من شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، عاد السفير الإثيوبي في الخرطوم، بيتال أميرو، إلى بلاده للتشاور. وفي منتصف الشهر الماضي، استدعى السودان سفيره في أديس أبابا، جمال الشيخ، لمزيد من التشاور الداخلي، وهو عرف دبلوماسي، وشكل من أشكال الاحتجاج.
وصلت الحرب الإعلامية أخيراً بين الطرفين إلى مدى بعيد
تصاعد الحرب الكلامية
في الأسابيع الأخيرة، وصلت الحرب الإعلامية بين الطرفين إلى مدى بعيد، بصدور بيان عن الخارجية الإثيوبية كال الاتهامات للسودان، وقالت فيه إنّ الحكومة السودانية "تخدم أجندة طرف ثالث"، لم تسمّه، لكن أصابع الاتهام تتجه مباشرة ودون مواربة إلى مصر، التي تتصدر المعركة ضدّ سد النهضة الإثيوبي، وهي من أكثر المستفيدين من حدة الاستقطاب السوداني الإثيوبي. وذهب بيان الخارجية الإثيوبية أبعد من ذلك، عبر الإشارة إلى أنّ عسكر السلطة الانتقالية السودانية هم من يقودون العداء ضدّ إثيوبيا.
وأثار البيان غضب الحكومة السودانية، التي سارعت عبر وزارة الخارجية لإصدار بيان مضاد، هو الأكثر حدة من بين كل ردود الفعل السودانية منذ بداية الأزمة. إذ اعتبرت الوزارة حديث إثيوبيا عن وجود طرف ثالث "اتهاماً للسودان بالعمالة"، واصفةً ذلك بـ"الإساءة والإهانة التي لا تغتفر". وأكدت أن وقائع ما سمّته "تاريخ الإباء الوطني وتاريخ الثورة القريب، لا يتركان لأحد أن يقترف العمالة"، مشيرة إلى أنّ "إثيوبيا لن تستطيع إنكار وجود طرف ثالث لجانبها، هو الذي دخلت قواته مع قواتها المعتدية إلى الأرض السودانية"، من دون تسمية هذا الطرف. وأكدت الوزارة السودانية وحدة الشعب والسلطة؛ عسكراً ومدنيين، من أجل بسط سيطرة السودان على أراضيه، وفق الحدود المعترف بها.
آخر الاتهامات الخطرة وردت على لسان مصادر رسمية سودانية، كشفت عن رصد الجانب السوداني نشر 3 آلاف جندي إثيوبي في اليومين الماضيين على الحدود مزودين بكافة أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة. كما رصدت وسائل إعلام عالمية أكثر من 15 موقعاً عسكرياً إثيوبياً جاهزاً للاشتباك مع الجيش السوداني على الحدود.
فشل الوساطات
اللافت للنظر أنّ الحرب الكلامية تدور رحاها على الرغم من كثافة الوساطات التي أُعلنت في وقت سابق، ولكن سرعان ما كانت تخبو. ومنها وساطة مبعوث الاتحاد الأفريقي، محمد الحسن ولد لبات، الذي أجرى قبل أسابيع مباحثات في الخرطوم مع المسؤولين السودانيين، لتقريب المسافة بين البلدين، وتهيئة المناخ لجلوسهما على طاولة التفاوض، لكنه لم يعلن عن شيء بعد ذلك. وهي النتيجة ذاتها التي اصطدمت بها وساطات أخرى، مثل وساطة جنوب السودان، والاتحاد الأوروبي، وبريطانيا، والسعودية، والإمارات، إذ إنّ جميع هذه الوساطات لم تتخط نتائجها حاجز إبداء النوايا الحسنة من كلا البلدين. وربما تكون هناك حسنة وحيدة تحسب للاتحاد الأوروبي، وهي حرصه على الفصل بين الأزمة الحدودية، والحرب في إقليم تيغراي بشمال إثيوبيا، بما يمنع السودان من تقديم أي دعم لمقاتلي الإقليم في حربهم ضد الحكومة الفيدرالية.
الحرب الكلامية تدور رحاها على الرغم من كثافة الوساطات
شروط الأطراف
تعثر الوساطات جاء نتيجة لاعتقاد الخرطوم بعدم وجود نزاع حدودي في الأصل، وتمسكها بوضع العلامات الحدودية على الأرض، طبقاً لاتفاقية 1902، وذلك كشرط مسبق قبل الجلوس على طاولة مفاوضات مع أديس أبابا، والتي بدورها اشترطت انسحاب الجيش السوداني من الأراضي التي وضع يده عليها منذ نوفمبر الماضي، للجلوس على طاولة التفاوض. لكن الشرط الإثيوبي وجد اعتراضاً قوياً من الجانب السوداني، وهو ما عبّر عنه رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، أثناء حديثه لضباط وجنود منطقة بحري العسكرية، يوم الأحد الماضي، إذ جزم بأنّ الجيش لن يتراجع عن المناطق السودانية التي استعادها في الأشهر الماضية، وأنه يتحسب لأي عمل عدائي من إثيوبيا.
سد النهضة ليس بعيداً
قبل سنوات، وعلى عكس الموقف المصري، كان هناك توافق نسبي بين السودان وإثيوبيا حول ملف سدّ النهضة الإثيوبي. فالحكومة السودانية لم تتردد في الإقرار بحق إثيوبيا في إنشاء السد، وقللت كثيراً من مخاطره، وأقنعت مصر في مارس/ آذار 2015 بالتوقيع على اتفاق المبادئ الذي أسس للمفاوضات الثلاثية الحالية، مع تعظيم المكاسب التي سيجنيها السودان من تشييد السد، سواء في مجال الزراعة أو الكهرباء، والحد من الفيضانات السنوية المدمرة.
لكن في الجولات الأخيرة من المفاوضات الثلاثية بين السودان ومصر وإثيوبيا، وصلت الخرطوم لمرحلة اليأس في أي تنازلات يمكن أن تقدمها أديس أبابا عبر المفاوضات التي يرعاها الاتحاد الأفريقي، لا سيما في ما يرتبط بمخاوفها الخاصة بشأن سلامة السدود السودانية بعد تشغيل سد النهضة، وقلقها من حجب أديس أبابا المعلومات والبيانات المتعلقة بتدفق المياه، ومن إقامة مشاريع مائية أخرى، ما يؤثر مستقبلاً على حصة السودان من المياه. كما اصطدم السودان برفض إثيوبيا التوقيع على اتفاق خاص بملء وتشغيل السد، وإصرارها على التوقيع على قواعد استرشادية غير ملزمة لها. وكل ذلك دفع الوفد السوداني للانسحاب من طاولة التفاوض، وتصنيف سد النهضة حال عدم التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم كأحد مهددات الأمن القومي، ومهدد كذلك لحياة 20 مليون شخص، يقطنون على ضفاف النيل.
وينشط السودان هذه الأيام في الترويج لفكرة توسيع مظلة التفاوض بمشاركة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ليضافوا إلى الاتحاد الأفريقي، على أن يكون لهم دور عملي في اقتراح حلول وسطية بشأن القضايا الفنية والقانونية المختلف عليها. وقد خاطب رئيس الوزراء عبد الله حمدوك تلك الجهات رسمياً في هذا الصدد. وبحسب مصادر في وزارة الري والموارد، فإنّ السودان تلقى ردوداً إيجابية من الجهات الأربع. لكن أديس أبابا ترفض هذا التوجه، وقد قال المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية، دينا مفتي، في مؤتمر صحافي أول من أمس الثلاثاء، إن طلب توسيع الوساطة المقدمة من السودان "غير مجدٍ". فيما أكد أبي أحمد، أمام البرلمان الثلاثاء، أن بلاده ستستمر في بناء سد النهضة وأن الملء الثاني للسد في موعده خلال يوليو/ تموز المقبل. وأشار إلى أن بلاده "ليست لديها أي رغبة على الإطلاق في إلحاق الضرر بمصر والسودان، لكنها لا تريد أن تعيش في الظلام".
العلاقة بين الطرفين مفتوحة على كل الاحتمالات، بما في ذلك الحرب
ومع تعقيدات مفاوضات سد النهضة، بدت الخرطوم، أخيراً، أقرب لموقف القاهرة، الساعية إلى نقل ملف السد إلى مجلس الأمن الدولي. كذلك ظهرت الخرطوم أكثر حماسة في ما يتعلق بالتصعيد الإعلامي والسياسي والدبلوماسي ضد إثيوبيا، ما زاد البرود في العلاقة بين البلدين، خصوصاً بإضافة توترات الحدود إلى ذلك.
انسداد الأفق
مع انسداد الأفق السياسي والدبلوماسي واستمرار حالة التراشق الإعلامي، والتحشيد العسكري على الحدود، والتأزم في ملف سد النهضة، تصبح العلاقة بين السودان وإثيوبيا مفتوحة على كل الاحتمالات، بما في ذلك الحرب. وبرأي مراقبين، فإنّ ما يؤجل موعد إعلانها هو الأوضاع الداخلية الهشة داخل كل بلد، إذ تنشغل إثيوبيا بالحرب في إقليم تيغراي، والحيلولة دون انهيار وحدة الشعب الإثيوبي، المعرضة للخطر أكثر من أي وقت مضى. في المقابل، ينهمك السودان في بناء مرحلة انتقالية، تحفها المخاطر من كل جانب، ويشغله أكثر الانهيار الاقتصادي وتململ الشارع من الفشل الحكومي في إدارات الأزمات. ويُخشى في حال شعر الطرفان، أو أي منهما، بتحسن أوضاعه، أن تصل ذروة التصعيد بين البلدين مداها بإعلان الحرب.