على نحو مماثل لإجراءات شهدتها الأشهر الأخيرة التي سبقت الانتخابات العراقية عام 2018، كشفت مصادر رفيعة في العاصمة بغداد، عن تغييرات أجرتها المفوضية العليا للانتخابات في العراق، طاولت نحو 30 منصباً إدارياً وتنفيذياً ورقابياً في مفاصلها، من خلال النقل أو التعيين، وبعلم من رؤساء الكتل السياسية الكبيرة النافذة في البرلمان، ومن دون إشعار رسمي أو إعلان عن ذلك.
وبدأت التغييرات التي أجريت في المفوضية منذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لكنها زادت في غمرة التوتر السياسي والأمني الذي شهدته بغداد في الأسابيع الماضية، إثر الهجوم الصاروخي على السفارة الأميركية، وما أعقبه من إعلان حالة التأهب في البلاد، والتحسب من رد عسكري أميركي يستهدف الفصائل المسلحة الموالية لإيران في العراق. ووصف عضو بارز في البرلمان هذه التغييرات بأنها "ليست بريئة، وتثير مخاوف من أنها تحمل رائحة محاصصة حزبية جديدة بين الكتل داخل المفوضية العليا للانتخابات، لتعاد بذلك مشاكل المفوضية السابقة التي كان تم حلها بضغط المتظاهرين، والتي تتعلق باتهامات تلاحقها منذ سنوات بالتزوير والتلاعب بالنتائج لصالح الكتل والأحزاب الرئيسية في البلاد".
بعض التغييرات أتت بأسماء محسوبة على شخصيات سياسية بارزة، ورؤساء كتل وزعماء أحزاب
وأكد النائب، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "بعض التغييرات أتت بأسماء محسوبة على شخصيات سياسية بارزة، ورؤساء كتل وزعماء أحزاب. وهذا الأمر لم يشمل بغداد (مقر المفوضية) فقط، بل طاول فروعاً عدة للمفوضية في المحافظات، منها الأنبار وبابل والبصرة ونينوى وذي قار". وأشار إلى أنّ "بعض الأحزاب المتنفذة تسعى لتثبيت نفوذها في المفوضية منذ الآن، وهذا يكشف عن طبيعة السباق الانتخابي المقبل والذي قد تستخدم فيه الأحزاب والقوى السياسية أكثر من المال هذه المرة للفوز"، في إشارة إلى المليشيات المسلحة النافذة في العراق. وانتقد المتحدث نفسه "ضعف الدور البرلماني في الحد من هذا التغول الخطير".
ويجري ذلك على الرغم من الحديث السياسي المستمر من قبل قوى وكتل مختلفة عن وجود تفاهمات متقدمة حيال تأجيل الانتخابات المبكرة المقرر إجراؤها في السادس من يونيو/حزيران المقبل، إلى نهاية العام الحالي أو مطلع العام المقبل. وتعمل قوى سياسية نافذة على تمرير هذا الخيار، إذ تعتبر أنّ إجراء الانتخابات المبكرة في موعدها المقرر سيضر بها، بسبب تراجع شعبيتها ونقمة الشارع عليها، خصوصاً في مدن جنوب ووسط البلاد.
في السياق، اعتبر النائب حسين عرب، المنتمي إلى تحالف "عراقيون" الذي يتزعمه عمار الحكيم، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "أي تدخل حزبي في المفوضية سيخلط الأوراق ويسيء للانتخابات"، داعياً إلى "الحفاظ على استقلالية المفوضية، وفتح تحقيق بأي اتهامات توجه لها بخصوص ذلك". لكنه أكد في الوقت نفسه وجود ما وصفها بـ"الضغوط التي تمارس على المفوضية من قبل الجهات والأحزاب التي تريد أن يكون لها موطئ قدم فيها"، مشيراً إلى أنّ "إجراء انتخابات نزيهة وعادلة مطلب شعبي، وتحقيق الأمن الانتخابي والسعي إلى تحقيق العدالة في عمل المفوضية أمر أساسي".
ورفض موظفون في المكتب الرئيس لمفوضية الانتخابات في بغداد التعليق على المعلومات بشأن التغييرات داخل المفوضية. وقال مسؤول في القسم الإعلامي إنه "غير مخول بالتصريح وأنهم في المفوضية سيردون على المعلومات إذا نشرت في وسائل الإعلام".
عرب: أي تدخل حزبي في المفوضية سيخلط الأوراق ويسيء للانتخابات
وكان تغيير مفوضية الانتخابات من أهم مطالب الحراك الاحتجاجي الذي انطلق في العراق قبل أكثر من عام. وصوّت البرلمان في ديسمبر/كانون الأول 2019 على قانون مفوضية الانتخابات، وفي الشهر نفسه تم اختيار مجلس جديد للمفوضية، تألف من مجموعة قضاة تم اختيارهم من قبل مجلس القضاء الأعلى، وبمشاركة الأمم المتحدة، عبر نظام القرعة بين المحافظات المختلفة. واختارت المفوضية الجديدة، مديري الدوائر والأقسام، وعددهم 337، إلا أنّ الشكوك والاتهامات استمرت بملاحقتها بأنها فشلت في تحصين نفسها بمنع غير المستقلين من الدخول إليها.
من جهته، عبّر النائب السابق، عبد الكريم عبطان، عن قلقه بشأن إمكانية إجراء انتخابات نزيهة، في حال تم توطيد النفوذ الحزبي داخل المفوضية. وقال عبطان، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "الناس أملت خيراً بالتغيير خلال فترة التظاهرات والضغط الجماهيري، كخطوة نحو انتخابات حرة شفافة، لكن المؤسف أنّ بناء العملية السياسية على أسس غير صحيحة، واعتماد تقاسم المناصب وفقاً للطائفية والعرقية والحزبية، انعكس على المفوضية". وحذّر من خطورة ذلك، قائلاً إنّه "يقع على عاتق المفوضية انتشال العراق من الواقع الحالي، كونها هي التي تأتي برئيس الوزراء عن طريق مهنيتها بالتعامل مع نتائج الانتخابات، الأمر الذي يعتمد أساساً على استقلاليتها".
وشدد عبطان على "ضرورة ألا تتأثر المفوضية بأي ضغوط من أي جهة، وأن تتخلّص من تلك التي تواجهها من قبل القوى السياسية والتي تدفع بقوة باتجاه أن يكون لها نفوذ ومكان داخل المفوضية"، مشيراً إلى أنّ "العراق أمام مفترق طرق، فالانتخابات المقبلة ستكون مفصلية في تاريخ البلاد التي عاشت منذ 17 عاماً ضياعاً بسبب التزوير وعدم المهنية". وشكك عبطان في الوقت نفسه في إمكانية إجراء انتخابات نزيهة "في ظلّ الظروف السائدة مع وجود السلاح المنفلت، والضغط السياسي والإعلامي، والتدخل الخارجي، وغيرها من الأسباب التي يضاف لها الإحباط لدى العراقيين واليأس من إمكانية التغيير من خلال الانتخابات".
عبطان: على المفوضية أن تتخلّص من الضغوط التي تواجهها
وكان زعيم تحالف "عراقيون" عمار الحكيم، قد دعا الأسبوع الماضي الأمم المتحدة إلى أن "يكون لها دور رقابي في متابعة الانتخابات المرتقبة، للتأكد من عدم إمكانية اختراقها". وذكر مكتب الحكيم، في بيان صحافي، أنّ الأخير "استقبل الإثنين (الماضي)، ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق، جنين هينيس بلاسخارت، وبحث معها ملف الانتخابات البرلمانية المرتقبة وتطورات المشهد السياسي في العراق والمنطقة، والاستحقاقات المقبلة، ومنها الاستحقاق الانتخابي والواقع الاقتصادي والمعالجات المطلوبة. وأكد على موعد الانتخابات المقبلة، واستكمال الإجراءات لمنح الانتخابات شرعيتها القانونية، وأهمية الأمن الانتخابي وحرية المرشح والناخب في اختيار من يراه مناسباً للترشيح والاختيار". ودعا الحكيم "إلى حسم موضوع الشركة الدولية الفاحصة لنظام الفرز الإلكتروني، والتأكد من عدم إمكانية اختراقه".
يشار إلى أنّ رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، جدد أخيراً تعهداته، بالعمل على إجراء انتخابات برلمانية مبكرة نزيهة، وتهيئة الظروف المناسبة لها، مؤكداً أنه "لن يسمح للسلاح المنفلت بالتحرك، وتهديد حرية المواطن وأمنه وثقته بالعملية الانتخابية"، في وقت تشكك فيه قوى سياسية بقدرة الحكومة على تنفيذ تعهداتها بهذا الاتجاه.