عاد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، من نيويورك، بعدما أجرى سلسلة من المداولات حول مواجهة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) مع عدد من زعماء العالم على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. عاد وفي جعبته الكثير من القضايا الشائكة التي تحتاج الى وضع حلول سريعة للملمة شتات العراق وانتشاله من ابواب أتون حرب طائفية ودوامات العنف التي تصاعدت حدتها منذ سيطرة "داعش" على مساحات واسعة من البلاد في 10 يونيو/حزيران الماضي. لكن التحديات لا تقف عند هذه الحدود.
كان من المقرر أن تخرج تظاهرات الثلاثاء الماضي في بغداد والبصرة والناصرية والعمارة والسماوة والنجف وغيرها من المدن لتطالب بتنحي العبادي عن السلطة بسبب "إضاعته لحقوق الشيعة" و"موالاته للشيطان الأكبر"، التعبير الذي تستخدمه إيران في الاشارة إلى الولايات المتحدة، و"خضوعه لمطالبات السنّة العرب والأكراد"، و"وقف قصف المدن التي تشهد عمليات عسكرية".
ومع أن الأطراف التي سعت إلى خروج هذه التظاهرات لم تنجح في ذلك، وُجّهت أصابع الاتهام إلى رئيس الوزراء السابق ونائب رئيس الجمهورية نوري المالكي، بسعيه المتواصل إلى تأليب الشارع ذي الأغلبية الشيعية ضد العبادي.
ويرى الكثير من الساسة العراقيين أن المالكي يُحاول ازاحة العبادي بأي وسيلة، انتقاماً لتجرؤه على "الاستيلاء" على منصب رئيس الوزراء، الذي أجبر المالكي على التخلي عنه تحت ضغوطات من أطراف داخلية وخارجية، من بينها حليفته إيران، اللاعب المؤثر في رسم السياسة العراقية منذ غزو العراق في 2003.
لكن بعض السياسيين يتهمون المالكي بالتعاون مع طهران لخلق المشاكل أمام حكومة العبادي. وفي هذا الصدد، قال السياسي العراقي المنشق عن ائتلاف المالكي، عزة الشابندر، لوسائل الإعلام العراقية، إن "طهران تحاول وضع العصي في دولاب حكومة العبادي لأنها ليست مسرورة بوجود رئيس وزراء هو محل رضا ومباركة من قبل واشنطن، في وقت تعيش فيه أزمة مع الولايات المتحدة، وهي لم تتفق مع الإدارة الأميركية في دعم العبادي مثلما حدث مع المالكي".
ورأى الشابندر أن المالكي ليس ايراني الهوى، "لكن عندما تلتقي مصالحه مع طهران لا أستبعد أن يتعاون معها باعتبار أن العبادي أخذ مكانه".
ويحاول المالكي استغلال منصبه الجديد لاستعادة "هيبته" وبعض السلطات الواسعة التي نجح في الاستحواذ عليها خلال حقبة حكمه الذي دام ثماني سنوات. وشرع المالكي، علانية ومن وراء الكواليس، في تجاوز صلاحيته التشريفية، وحرص على الظهور المتواصل في مؤتمرات صحافية وعقد اجتماعات مع المسؤولين العراقيين للتباحث حول قضايا يُفترض أنها من مسؤوليات العبادي.
وكانت زيارته الأحد الماضي لمحافظة بابل لـ"عقد اجتماع مغلق مع الحكومة المحلية لدراسة الواقع الأمني والخدماتي"، بحسب ما جاء في وسائل الإعلام العراقي، قد أثارت الكثير من علامات الاستفهام حول تمادي المالكي في تجاوز صلاحيات العبادي.
وقد تطرح أسئلة مهمة حول الأطراف التي يستخدمها المالكي في تنفيذ أهدافه وكيف تمكن من استقطاب شريحة واسعة تأتمر بأمره ونجح في استخدامها لضرب منافسه، العبادي، على الرغم من محاولات تقليم أظافره؟
نجح المالكي خلال الدورتين السابقتين من رئاسته للحكومة العراقية في استقطاب عدد كبير من المسؤولين في مؤسسات الدولة لضمان ولائهم المطلق له، إما بالترغيب عبر ترقيتهم لمناصب عليا أو غمرهم بالمكافآت المالية أو منحهم عقوداً تجارية وما شابه، وإما بالتهديد والابتزاز، مثل شمولهم بقانون اجتثاث "البعث" أو مسك ملفات جنائية ضدهم أو قضايا فساد.
وصرف المالكي خلال ترؤسه الحكومتين السابقتين أموالاً طائلة على تطوير الجيش وتسليحه وتدريبه في صفقات شابها الكثير من حالات الفساد، ويشتبه بتورط شخصيات مقربة منه فيها. ويرجع البعض التراجع في أداء القوات الأمنية العراقية أمام تقدم تنظيم "داعش" والانهيار الأمني الكارثي الذي يشهده العراق الى هذه البطانة التي احاط المالكي نفسه بها، والتي بدورها شكّلت شبكة واسعة من الموالين لها.
كذلك ضمن المالكي ولاءات عدد من شيوخ العشائر ورجالاتها، مقلّداً الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين. وجاءت خطوة تشكيل المالكي قوات مسلحة من رجال العشائر في الجنوب، على غرار قوات "الصحوات"، وتسليحها وإغداق الاموال عليها، كمحاولة لضمان ولاء هذه الشريحة الواسعة له.
واستشعر العبادي بالتهديد الذي يشكله هؤلاء لحكومته، التي تعوّل عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها والكثير من العراقيين، في تغيير الوضع المتأزم الذي وصل اليه العراق، فشرع في فرض اجراءات تحد من نفوذ حاشية المالكي وحلفائه، وأمر بإلغاء المكتب العام للقوات المسلحة الذي شكله المالكي في فترة حكمه للاشتباه بتفشي الفساد فيه وارتكابه تجاوزات كثيرة. كما وجه رئيس الوزراء الجديد هيئة النزاهة البرلمانية في التحقيق مع مسؤولين في مكتب المالكي على خلفية قضايا فساد وهدر المال العام، من أبرزهم المستشار الاعلامي السابق للمالكي، علي الموسوي، الذي يشغل حالياً منصب المدير العام في وزارة الخارجية، بحسب مصادر برلمانية.
وكان العبادي قد سبق هذه الاجراءات بإحالة عدد من الضباط الكبار المقربين من المالكي على التقاعد، على خلفية فشلهم في إدارة المعارك ضد "داعش"، وبسبب انسحابات الجيش في المعارك وتكبده خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات.
ولكن شاءت الصدف أن تتواءم غايات المالكي مع أجندات الميليشيات الموالية لطهران، التي لا يزال بعض زعمائها شركاء سياسيين للمالكي، مثل زعيم ميليشيا منظمة بدر ووزير النقل السابق هادي العامري، وزعيم ميليشيا عصائب أهل الحق، قيس الخزعلي. وحرص المالكي على الدفع بهذه الميليشيات إلى عرقلة إنجاز العبادي برنامجه الحكومي، الذي ينص أحد بنوده على "منع حمل السلاح خارج إطار الدولة".
وبهدف عرقلة جهود العبادي لحل العقد، عمدت هذه الميليشيات الى حشد التأييد الشعبي من خلال نسب كسب بعض المعارك ضد "داعش" وانسحابه من بعض المناطق التي كان يحاصرها إليها، مع أن حقيقة الأمر انها لم تتمكن من الدخول الى تلك المناطق لولا القصف الجوي الأميركي المكثف ضد مواقع التنظيم، كما حدث في بلدة آمرلي، التابعة لمحافظة صلاح الدين.
وباتت هذه الميليشيات تسوّق شعارات وطنية وتدّعي أنها تؤيد توجيهات المرجع الديني علي السيستاني، على الرغم من أن معظم أفرادها يعرف عنهم تقليدهم المرشد الإيراني علي خامنئي.
ورفضت هذه الميليشيات وجود قوات برّية أجنبية لقتال "داعش" على أرض العراق بحجة انتهاك السيادة العراقية، مع أنها تقاتل مع قوات فيلق القدس الإيراني بزعامة قائده الميداني قاسم سليماني، الذي بات يظهر بشكل علني في صور وتسجيلات مصوة وهو يتراقص فرحاً إلى جانب عناصر من الميليشيات العراقية لفك الحصار الذي كان يفرضه "داعش" على بلدة آمرلي، التي تقطنها غالبية شيعية.
ويفسر مراقبون رفض الميليشيات وجود قوات أجنبية لمحاربة "داعش" في العراق وتهديدها بضرب هذه القوات إذا دخلت العراق، بأنها رسالة موجّهة من إيران التي تخشى من أن وجود هذه القوات قد يضعف نفوذها في العراق والمنطقة، ويؤثر سلباً على موقفها في مفاوضاتها مع الدول الست الكبرى حول برنامجها النووي المثير للجدل.
ولكن بعد أن بات رفض وجود القوات الأجنبية في العراق يلقى إجماعاً شيعياً، وجاء ايضاً من أطراف تملك ثقلاً دينياً، مثل السيستاني ومقتدى الصدر، بدا جلياً ان هذه الأطراف باتت تخشى أن يصب الوجود الأجنبي في صالح الاطراف الأخرى، ويضعف من نفوذها وهيمنتها على الساحة السياسية في العراق.
وتحت ضغوطات هذه الأطراف، أعلن العبادي بعد عودته من نيويورك، رفضه "وجود قوة دولية على الأراضي العراقية"، مشدداً على ضرورة "احترام السيادة العراقية ووحدة أراضيها".
لكن الخبراء العسكريين الاستراتيجيين يُجمعون على أن الغارات الجوية التي تشنها قوات التحالف ضد "داعش" في العراق، غير كافية للقضاء على هذا التنظيم المتطرف، وأن وجود قوات برية ضروري لطرده من العراق. وبما أن بناء قوات برية عراقية مدربة بشكل جيد، مثل "الحرس الوطني"، القوة النموذجية التي تسعى الولايات المتحدة الى تشكيلها من أبناء العرب السنّة الذين يسيطر "داعش" على معظم مناطقهم في العراق، وبناء جيش عراقي محترف يحتاج الى وقت طويل، يبقى السؤال، كيف سيتمكن العبادي من دحر تنظيم "داعش" بقواته الضعيفة المبنية على أسس طائفية، ومن دون مساندة الميليشيات؟
لقد أصبحت هذه الميليشيات تشكل عائقاً كبيراً أمام بناء عراق جديد خالٍ من العنف والإرهاب، فلا يزال حليف المالكي، زعيم منظمة "بدر" هادي العامري، متمسكاً بمنصب وزير الداخلية الشاغر ويعرقل تصويت البرلمان على مرشح غيره، معتبراً المنصب استحقاقاً انتخابياً، فيما تصرّ الولايات المتحدة وبعض الأطراف العراقية على رفضه، لكونه زعيم ميليشيا متهمة بارتكاب جرائم قتل وتهجير على أسس طائفية، معتبرين وجوده على رأس هذه الوزارة الأمنية المهمة خطوة لإفشال جهودها الساعية إلى القضاء على "داعش".
في ظل إصرار كتلة "بدر"، التي تمتلك ثقلاً كبيراً في البرلمان (22 مقعداً)، والمدعومة من إيران والمالكي وحلفائه على التمسك بشخصية العامري أو شخصية من الكتلة نفسها، بحسب مصادر موثوقة، لشغل منصب وزير الداخلية، بات من الصعب جداً على العبادي حل أزمة ملء شواغر الوزارتين الأمنيتين، إلا إذا تدخلت أطراف اقليمية أو دولية لحل الأزمة، في إطار صفقات ترضي جميع الأطراف.