تقترب العلاقات الروسية ـ الأوروبية من منعطف خطر، في ظلّ تهديد الأوروبيين بفرض عقوبات إضافية على روسيا، وإعلان الأخيرة على لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف أنه "إذا كنت تريد السلام استعد للحرب"، ملمحاً إلى احتمال قطع العلاقات، قبل أن يوضح الكرملين أن تصريحات لافروف أخرجت من سياقها. مع العلم أن تصدع العلاقات بين الطرفين جاء نتيجة تراكم التوترات، التي أفضت إلى مثل هذه الأجواء المسمومة بين موسكو وبروكسل، تحديداً بعد اجتياح الروس لشبه جزيرة القرم الأوكرانية، وضمّها، في ربيع 2014. واستمر التباعد بين الجهتين في ملفات عدة، لعل أبرزها تعامل الكرملين بصورة سلبية مع معارضيه، بدءاً من تصفية بوريس نيمتسوف في فبراير/ شباط 2015، وصولاً إلى سجن المعارض الأبرز حالياً أليكسي نافالني، الذي تتواصل محاكمته، وآخرها أمس الجمعة. وعلى الرغم من انغماس الروس والأوروبيين في حرب دبلوماسية في السنوات الماضية، عنوانها الأبرز "الطرد المتبادل للدبلوماسيين"، إلا أن مؤشرات المرحلة المقبلة تبدو الأخطر بين روسيا وأوروبا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991.
لافروف: إذا كنت تريد السلام استعد للحرب
وأظهر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مقتطفات من مقابلة نُشرت على موقع وزارة الخارجية على الإنترنت، أمس الجمعة، استعداد روسيا لقطع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي إذا فرضت عليها عقوبات اقتصادية مؤلمة بسبب قضية نافالني. وقال: "نتحرك من منطلق استعدادنا لفعل هذا. في حال شهدنا مجدداً فرض عقوبات في بعض القطاعات تسبب مخاطر لاقتصادنا، بما في ذلك المجالات الأكثر حساسية". وأضاف: "لا نريد عزل أنفسنا عن الحياة العالمية، لكن يتعين أن نكون مستعدين لذلك. إذا كنت تريد السلام استعد للحرب".
لكن سارع الكرملين عقب ذلك لاحتواء تصريحات لافروف والتخفيف من حدتها. وأشار المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إلى أن هذه التصريحات أخرجت من سياقها، مشدداً على أن روسيا تريد تطوير العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، واتهم وسائل الإعلام بأنها "تقدم عنواناً مثيراً (حول كلام لافروف) خارج السياق... هذا خطأ كبير من الإعلام، وهذا خطأ يغير المعنى".
وأوضح أن "روسيا لا تريد قطع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي بل تطويرها"، مستدركاً بأنه في حال سلك الاتحاد الأوروبي طريق فرض عقوبات تشكل خطراً على الاقتصاد الروسي، فإن روسيا ستكون مستعدة، "لأنه يجب أن نستعد للأسوأ". وخلص بيسكوف إلى أن الاستعداد للأسوأ هو "ما كان يتحدث عنه الوزير. لكن المعنى تم تشويهه وتم تقديم هذا العنوان المثير بطريقة تصور روسيا وكأنها هي التي ستبادر إلى قطع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي".
وسبق هذه التصريحات أن رجّح ثلاثة دبلوماسيين أوروبيين، أول من أمس الخميس، أن يفرض الاتحاد الأوروبي حظراً على السفر، وتجميداً لأصول حلفاء للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ومن المحتمل تطبيق ذلك في شهر فبراير/ شباط الحالي، بعدما لمّحت فرنسا وألمانيا إلى رغبتهما في المضي قدماً في الأمر. وزاد ضغط العقوبات منذ أن أثارت موسكو غضب الدول الأوروبية، الأسبوع الماضي، بطرد دبلوماسيين من ألمانيا وبولندا والسويد، من دون إخطار وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، الذي كان يقوم بزيارة لموسكو، ما عد بمثابة "إهانة" للأوروبيين، خصوصاً بعدما استغل لافروف المؤتمر الصحافي المشترك مع الأول لتوجيه انتقادات حادة للاتحاد. كما لم يسمح لبوريل بلقاء نافالني على الرغم من أن قضيته والمخاوف بشأن الحريات الأساسية وحقوق الإنسان في روسيا على نطاق أوسع كانت ضمن جدول أعمال زيارة وزير خارجية الاتحاد والتي كانت تعد الأولى منذ 2017.
وكان القضاء الروسي قد استجوب نافالني، أمس، بتهمة "القذف والسبّ"، وهي تهمة يقول نافالني إن وراءها دوافع سياسية. واتُهم المعارض الروسي بتشويه سمعة إيغنات أرتيمينكو، وهو أحد قدامى المحاربين في الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، الذي شارك في مقطع فيديو ترويجي يدعم التعديلات الدستورية، العام الماضي، التي سمحت لبوتين بالترشح لفترتين أخريين في الكرملين بعد 2024، إذا رغب في ذلك. ووصف نافالني المشاركين في الفيديو بأنهم خونة وفاسدون. وعلى الرغم من أن التهمة، في حال إدانته بارتكابها، يُعاقَب عليها بالسجن لمدة تصل إلى سنتين، إلا أن محاميه قال إن من غير الممكن سجن نافالني، لأن الجريمة المزعومة ارتكبت قبل تغيير القانون لجعلها جريمة تستوجب العقاب. ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان القاضي سيقبل بهذا التحليل.
ولا يقتصر الخلاف الروسي الأوروبي على الشق السياسي، فقد اتهمت موسكو أوسلو، أول من أمس الخميس، بتجميع قوات معادية لروسيا على أراضي النرويج، قبل وصول قاذفات أميركية قريباً إلى البلد الاسكندنافي لإجراء تدريبات. واعتبرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، في مؤتمر صحافي، أنه "لا نستطيع على الأرجح التحدث عن هدوء، عندما يتصاعد التوتر على الحدود الروسية وتتشكل ساحة كبيرة للتسلح من أجل عمليات عسكرية ضد بلادنا". وأتت تصريحات زاخاروفا تعليقاً على توجه قاذفات استراتيجية أميركية من طراز "بي-1 بي" إلى قاعدة أورلاند الجوية النرويجية، لإجراء تدريبات تستمر أسابيع مع القوات الجوية النرويجية، حارسة الحدود الشمالية لحلف شمال الأطلسي. وقالت زاخاروفا إن "قرار أوسلو هو خطوة جديدة في سلسلة من حوادث مماثلة أخرى"، مشيرة إلى الوجود "الدائم" لمشاة بحرية "أميركيين وبريطانيين وهولنديين" في شمال النرويج. كما أشارت إلى إنشاء "ميناء لصيانة الغواصات النووية الأميركية" بالقرب من ترومسو. وقالت: "نعتقد أن مثل هذا النشاط في أوسلو، يهدد الأمن الإقليمي ويضع حداً للتقاليد النرويجية المتمثلة في عدم السماح بوجود قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها في زمن السلم".
حذّرت روسيا من التدريبات العسكرية الأميركية في النرويج
وتبقى أوكرانيا أبرز ملف خلافي بين أوروبا وروسيا، مع اتهام الأوروبيين والأميركيين روسيا بعرقلة التوصّل إلى حلّ شرقي أوكرانيا، وذلك خلال مؤتمر عقده مجلس الأمن الدولي عبر الفيديو، مساء أول من أمس الخميس، وهو الأمر الذي نفته موسكو. وقال ممثل الولايات المتحدة رودني هانتر: "يجب على روسيا أن توقف فوراً عدوانها في شرق أوكرانيا وأن تنهي احتلالها لشبه جزيرة القرم". وأضاف "ندعو روسيا إلى سحب قواتها من أوكرانيا والتوقّف عن دعم وكلائها وجماعات مسلّحة أخرى، وتنفيذ كل الالتزامات التي تعهّدت بها بموجب اتفاقيات مينسك"، في 2014 وفبراير 2015. وعُقِدَ الاجتماع بناء على طلب موسكو لمناسبة الذكرى السنوية لاتفاق مينسك 2. وفي بيان مشترك، عبّر أعضاء المجلس الأوروبيون، إستونيا وفرنسا وأيرلندا والنرويج وبريطانيا، بالإضافة إلى ألمانيا التي رعت مع فرنسا اتفاقيات مينسك بين روسيا وأوكرانيا، عن إدانةٍ "شديدة لاستمرار زعزعة استقرار بعض المناطق في دونيتسك ولوغانسك (حوض دونباس)"، شرقي أوكرانيا. وأضاف البيان أنه "من خلال استخدام القوة ضد وحدة أراضي أوكرانيا وسيادتها، فإنّ روسيا تنتهك بوضوح المبادئ الأساسية للقانون الدولي". وتابع الأوروبيون "ندعو روسيا مرة جديدة إلى التوقف فوراً عن تأجيج النزاع عبر تقديم دعم مالي وعسكري للتشكيلات المسلّحة التي تدعمها، ونظل قلقين بشدّة حيال وجود معدات وأفراد عسكريين روس في المناطق الخارجة عن سيطرة حكومة أوكرانيا".
ورفض السفير الروسي لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا، الانتقادات الغربية، مؤكداً أن "أوكرانيا لا تنفّذ إجراءات اتفاقيات مينسك". وقال إنّ أوكرانيا، بدعم من "حُماتها" ألمانيا وفرنسا، "تتظاهر بتطبيق الاتفاقيات" لكنها تُظهر "لامبالاةً كاملة حيال سكان دونباس". أما نظيره الألماني كريستوف هيوسغن، الذي شارك في مفاوضات مينسك، فقال إنه "حتى اليوم، لم يتمّ سحب الأسلحة الروسية الثقيلة" من الخط الفاصل بين المتحاربين، وذلك "في انتهاكٍ لاتفاقيات مينسك". وفي ما يتعلّق ببعثة المراقبة الخاصة التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، رأى هيوسغن أنها "لا تستطيع تأدية عملها" وليس لديها منفذ إلى الحدود بين أوكرانيا وروسيا، وهي منطقة خارجة عن سيطرة الحكومة الأوكرانية. وأضاف "نتيجةً لذلك، فإنّه يمكن لروسيا إرسال جنود وأسلحة إلى لوغانسك ودونيتسك". وقال السفير الفرنسي نيكولا دي ريفيير "لا نقبل بخطاب روسيا المتمثّل في إلقاء اللوم على أوكرانيا وحدها بالمسؤولية عن العراقيل، وتوجيه اتهامات لا أساس لها ضد فرنسا وألمانيا". وشدّدت وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية روزماري ديكارلو على أنه "طالما أنه لم يتمّ إيجاد حل سياسي دائم للنزاع في شرق أوكرانيا، فإن الوضع على الأرض سيظلّ هشاً". وكان رئيس الوزراء الأوكراني دنيس شميكال قد أعرب، يوم الخميس، عن أمل بلاده في توسيع الاتحاد الأوروبي لدائرة عقوباته المفروضة على روسيا. وأضاف في مؤتمر صحافي مشترك مع بوريل في بروكسل، أن بلاده ستواصل نضالها ضد "العدوان الروسي"، حفاظاً على سيادتها الكاملة، وسلامة أراضيها.
(فرانس برس، الأناضول، رويترز)