تعمّد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن يكون أول زعيم عربي يهنئ المرشح الديمقراطي جو بايدن بفوزه في انتخابات الرئاسة الأميركية، موجهاً رسالة إيجابية أخرى قبل ساعات من ظهور نتيجة ولاية بنسلفانيا الحاسمة، بالإفراج المفاجئ عن خمسة من أبناء عمومة الناشط الحقوقي المصري القريب من حملة بايدن محمد سلطان. واعتُقل هؤلاء في مصر عقب رفع سلطان دعوى قضائية ضد النظام المصري أمام القضاء الأميركي، طلب فيها ملاحقة المسؤولين المصريين خلال فترة مذبحة اعتصام رابعة العدوية، بمن فيهم رئيس الوزراء الأسبق حازم الببلاوي المقيم في الولايات المتحدة حالياً.
سبق لبايدن أن انتقد وفاة المواطن الأميركي من أصل مصري مصطفى قاسم في السجن
ولم تتح للسيسي سابقاً فرصة الالتقاء ببايدن، في ظل الازدراء الذي عامله به الأخير سابقاً عندما وجه له نقداً علنياً في يوليو/ تموز الماضي، بوصفه "الديكتاتور المفضل لترامب"، في إشارة للوصف الذي أطلقه الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب على السيسي، خلال مشاركتهما في اجتماع قمة الدول السبع الكبرى في فرنسا في سبتمبر/ أيلول 2019.
وسبق لبايدن أن انتقد وفاة المواطن الأميركي من أصل مصري مصطفى قاسم في سجنه المصري، مطلع العام الحالي. وانتقد أيضاً تخاذل إدارة ترامب في التعامل مع تلك القضية، لكنه في تغريدته الشهيرة شنّ هجوماً مزدوجاً على ترامب والسيسي. فحمّل الأول مسؤولية اعتقال الشاب محمد عماشة لمدة 468 يوماً في السجون المصرية قبل الإفراج عنه بضغط أميركي. ومن جهة ثانية هدّد بالتعامل بشكل مختلف مع السيسي في حال فوزه بالرئاسة، بقوله: "لا مزيد من الشيكات على بياض لديكتاتور ترامب المفضل".
وفي محاولة للتأكيد على انفتاح السيسي للتعامل مع بايدن، دفعت المخابرات العامة الإعلام المحلي لإبراز كونه أول زعيم عربي وفي المنطقة يهنئ المرشح الديمقراطي. وفي الوقت نفسه تبنّت وسائل الإعلام المملوكة للمخابرات خطاباً ينتقد بايدن ويخوّف من مغبة صعوده للسلطة وتأثيره على التجربة الديمقراطية الأميركية. ويشكك الخطاب أيضاً في سلامة ونزاهة التصويت والفرز. وبالتزامن مع ذلك، انتشرت التحليلات الجادة والتدوينات والصور المصنعة الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي، التي ركّزت على سوء علاقة بايدن بالسيسي وازدرائه له، وأن السيسي فقد أهم داعم دولي له متمثلاً في ترامب.
وأفادت مصادر دبلوماسية مصرية لـ"العربي الجديد"، بأنّ فوز بايدن لم يكن قطعاً النتيجة التي يتمناها السيسي، لكن وزارة الخارجية المصرية باشرت اتصالاتها مع حملته الانتخابية أخيراً. وهي اتصالات كشفت عنها "العربي الجديد" قبل أيام من الاقتراع. بالتالي، بدأت القاهرة البحث عن مفاتيح جديدة لتمهيد تحسن ملحوظ في العلاقة مع الساكن الجديد للبيت الأبيض. كذلك سعت لإجراء اتصالات مع نائبة بايدن، كامالا هاريس، الموصوفة بكونها "مصدر قلق" في الدوائر الرئاسية والدبلوماسية وحتى الاستخباراتية في القاهرة هذه الأيام، نظراً للمعلومات المشاعة عن توجهاتها الفكرية والحقوقية والسياسية.
وأوضحت المصادر أن الاتصالات المصرية مع حملة بايدن لم تقتصر على الطابع المركزي، لكنها تضمنت تواصلاً من القاهرة وبعثتيها في نيويورك وواشنطن مع نواب ونشطاء ديمقراطيين وشبان كانت تربطهم علاقات شخصية جيدة بالدبلوماسيين المصريين، أو سبق لهم أن زاروا مصر في عهد السيسي والتقاهم كأعضاء في وفود رسمية. وتهدف القاهرة من خطوتها هذه البحث عن طريقة لخلق أسس جديدة للعلاقات وطرق يمكن من خلالها توجيه رسائل إيجابية تطمئن إدارة بايدن من ناحية، وتحافظ على مكتسبات السيسي من ناحية ثانية، وتعمل على تخفيف الضغوط المستقبلية المتوقعة من ناحية ثالثة.
هاريس موصوفة بكونها "مصدر قلق" في الدوائر الرئاسية والدبلوماسية وحتى الاستخباراتية المصرية
ووفقاً للمصادر، فإن الإفراج عن معظم المعتقلين الباقين في السجون من المتهمين في أحداث سبتمبر 2019 ثم أبناء عمومة محمد سلطان، كان بداية "الاستجابة للنصائح" التي تلقتها مصر في هذا الإطار. وتكاملت النصائح مع موجة جديدة من الاتصالات الأوروبية والأميركية الرسمية في الأسابيع الأخيرة، للإعراب عن القلق بسبب ارتفاع عدد المواطنين المعتقلين على خلفية الحراك الشعبي الأخير منذ شهرين، سواء خلال مشاركتهم في التظاهرات أو في إطار الحملات الأمنية للتخويف والحد من اتساع الحراك. وهو ما دفع النظام للإسراع في الإفراج عن النشطاء السياسيين والحقوقيين، ممن تم اعتقالهم قبل وعقب أحداث سبتمبر 2019، وأبرزهم المتهمون في القضية المعروفة إعلامياً بـ"مجموعة الأمل"، الذين كانوا يحاولون التنسيق للمشاركة في انتخابات مجلس النواب الحالية.
وشرحت المصادر أن الاتصالات المصرية مع حملة بايدن والشخصيات الديمقراطية الوسيطة، كشفت وجود أربع قضايا أساسية يجب على السيسي حلحلتها سريعاً للحصول على ثقة البيت الأبيض. واستندت المصادر إلى احتمال دفع الحزب الديمقراطي بهاريس لخلافة بايدن في الرئاسة بعد ولايته الأولى، في عام 2024. وهو ما يطرح احتمال أن لا يتعامل السيسي لاحقاً سوى مع رؤساء ديمقراطيين، على الأقل حتى نهاية عهده الذي يسمح به الدستور الحالي بعد تعديله، في عام 2030.
القضية الأولى متعلقة بالأوضاع الحقوقية، وتشمل ملاحقة السياسيين وإغلاق المجال العام أمام الأحزاب والأوضاع المتردية للسجناء والمعتقلين. ويتمسك بهذه القضية، من خلف بايدن، مساعدوه المحسوبون على الرئيس الأسبق باراك أوباما والسياسي الديمقراطي بيرني ساندرز، ويصرّون على ضرورة تحقيق تقدم كبير فيها، قبل المضي قدماً في علاقة شراكة مع نظام السيسي. مع العلم أن علاقات وطيدة تجمع هؤلاء المساعدين بدوائر وشخصيات حقوقية وسياسية مصرية معارضة في الداخل والخارج، وتستطيع التأثير على البيت الأبيض أكثر من أي وقت مضى.
والقضية الثانية مرتبطة بتحرير مجال العمل الأهلي من السيطرة المخابراتية والأمنية، مع تبنّي حملة بايدن ووسطاء الحزب الديمقراطي خلال الاتصالات، رؤية واضحة بضرورة عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الخطوات التي اتخذها السيسي. وكان السيسي قد اتخذ خطوات التضييق على المنظمات الأهلية الحقوقية والخيرية، ومنع تدفق المساعدات الأجنبية إليها، فضلاً عن محاولة الاستئثار بهذا المجال من خلال منظمات تابعة لأجهزة الدولة. ويعود السبب في هذا التعديل إلى رغبة العديد من الجهات المانحة في الولايات المتحدة بإعادة نشاطها إلى مصر والتعاون مع المجتمع المدني والحكومة على حد سواء، في المشروعات التنموية المختلفة التي تعطلت لنحو خمس سنوات، وفشل الضغوط الغربية في التغلب على معظم العقبات العملية والقانونية التي استحدثها النظام المصري.
والقضية الثالثة متعلقة باقتصاد الجيش، والتي قد ينعكس تأثيرها بشكل مباشر على المعونة الأميركية لمصر، وهي تشغل بشدة عشرات الأعضاء الديمقراطيين بمجلسي النواب والشيوخ ولبعضهم نفوذ لدى دائرة بايدن. مع العلم أن بعض هؤلاء النواب تحدثوا في جلسة الاستماع التي أجريت في الكونغرس حول هذا الموضوع عام 2017، بشأن ملفي حقوق الإنسان والدور الاقتصادي للجيش، ونتج عنها تعليق جزء من المعونة. وطرحوا تساؤلات عن مدى حاجة الجيش المصري لهذه المعونة ذات القيمة المالية التي تضاءلت بمرور الزمن، وبينت كون الجيش المصري قادراً على تحقيق أرباح ضخمة من أنشطة تشهد تضييقاً مستمراً على المستثمرين الأجانب، ومنهم الأميركيون.
والمعونة الأميركية لمصر مبلغ ثابت سنوياً تتلقاه مصر من الولايات المتحدة في أعقاب توقيع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية عام 1978، وتحصل مصر بموجبها على مبلغ 2.1 مليار دولار، منها 815 مليون دولار معونة اقتصادية، و1.3 مليار دولار معونة عسكرية.
لكن القيمة السياسية للمعونة أكبر بكثير من قيمتها المالية، فهي من ناحية تعبر عن اعتراف واشنطن بشرعية الرئيس المصري وبمساعدتها له وبدعمها لسياساته، ومن ناحية أخرى تحافظ ضمنياً على العلاقات العسكرية القائمة بين البلدين. مع العلم أن بعض نواب الحزبين الديمقراطي والجمهوري بين عامي 2013 و2014 دعوا لإعادة صياغة المساعدات والعلاقات بمصر، بعد انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013. وهو ما كان أحد أسباب اندفاع السيسي لتنويع مصادر استيراد الأسلحة، وإن حافظ أيضاً على ضرورة إخطار واشنطن بصفقاته والحفاظ على التنسيق الأمني والاستخباراتي بين البلدين.
ففي يونيو/ حزيران 2014 قدم مجلس الشيوخ الأميركي مقترحاً لخفض المعونة العسكرية الأميركية لمصر من 1.3 مليار دولار سنوياً إلى مليار دولار فقط، وكذلك خفض المعونة الاقتصادية من 250 مليون دولار إلى 150 مليون دولار، مع تعليق جزء من المعونة العسكرية بعد الانقلاب لأسباب تتعلق بحقوق الإنسان.
للجيش المصري والمعونة الأميركية العسكرية حصة في ملف فريق بايدن
أما القضية الرابعة، المرتبطة بمصر كدولة وليس فقط كنظام حاكم، فهي سد النهضة، وهو الملف الأبرز الذي كان ترامب يساند فيه مصر. وبحسب المصادر، فإن الوسطاء طلبوا من المصريين توقع تغير الموقف الأميركي إلى موقف آخر، قد لا يكون على قدر الاهتمام نفسه بهذا الملف، للتهرب من معضلة الاختيار بين مصر وإثيوبيا. وأخذ هذا الموقف بعين الاعتبار دعم الأميركيين من أصل إثيوبي وأفريقي لبايدن، ووجود بعضهم في مناصب بارزة بحملته الانتخابية. بالتالي إن المطلوب من السيسي، وفقاً للوسطاء، البحث عن مقاربة مختلفة للقضية وإبداء مرونة تجاه الإثيوبيين، إذا استمر إصراره على إشراك الولايات المتحدة في الملف. وهو ما قوبل بالرفض من الدبلوماسيين المصريين المنخرطين في الاتصالات، ورأى بعضهم أن على بايدن والحزب الديمقراطي مراجعة هذه القضية تحديداً بكل زواياها، والتأكد من أن مصر بذلت كل ما في وسعها للتوصل إلى اتفاق، وتعاطت بمرونة مع كل المقترحات الإقليمية والدولية. ويتولى الأميركي من أصل إثيوبي، يوهانيس أبراهام، منصب سكرتير المستجدات اليومية بفريق الرئاسة الانتقالي لبايدن. وهو من المعروفين بـ"أبناء أوباما" في الحزب الديمقراطي، وعمل في مؤسسة الرئيس الأسبق بشيكاغو. ويظهر اختياره في منصبه الفرص الجيدة التي بات يحظى بها أبناء الجالية الإثيوبية والجاليات الأفريقية عموماً في أروقة السياسة الأميركية.
وأوضحت المصادر أن الموقف من جماعة الإخوان المسلمين، كتنظيم، ليس بذاته قضية على قائمة اهتمامات دائرة بايدن في الوقت الحالي، لكن مسألة التنكيل بأعضاء الجماعة وامتداداتهم الاجتماعية كأفراد ومصالح اقتصادية، هي جزء من القضية الأولى الخاصة بالمجال العام. وذكرت المصادر أن الوسطاء الديمقراطيين نصحوا باتباع طرق جديدة ومباشرة للتواصل مع دائرة بايدن والمسارعة لاتخاذ قرارات داخلية معبرة عن تغير المواقف، بدلاً من بذل مزيد من الجهد والوقت والمال على محاولات للحشد والتواصل بواسطة شركات أميركية، لن تنجح في تحقيق التغيير المطلوب في ذهنية بايدن ومساعديه.
ولم تنجح أذرع السيسي في كواليس السياسة الأميركية من ممثلين للمخابرات العامة ودبلوماسيين في تحقيق أي اختراق في صفوف الحزب الديمقراطي طوال السنوات الماضية، رغم تعدد الدعوات التي وجهها السيسي لمجموعات نيابية بعضها ينتمي للحزب خلال زياراته المتكررة للولايات المتحدة، وزيارة بعضهم للقاهرة، وكذلك اللقاءات التي يعقدها ممثلو النظام مع نواب ومسؤولين بمختلف المؤسسات الأميركية طوال الوقت.