توقفت السجالات المرتفعة التي سبقت الاتفاق التركي مع الطرفين السويدي والفنلندي بشأن انضمامهما إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لمصلحة الواقعية السياسية، أو لغة المصالح المشتركة، التي أدت في نهاية المطاف، مساء أمس الثلاثاء، إلى توقيع الأطراف مذكرات تفاهم.
واعتبر الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، الاتفاق مؤشراً على قدرة الأطلسي على تغليب لغة المصالح، بقوله: "التقينا، وناقشنا الأمر، ووجدنا حلاً جيداً. هكذا نحلّ مشاكل الناتو".
الآن، ستحتل تلك الاتفاقية مرتبة ثانوية في المشهد الأكثر أهمية في منطقة اسكندنافيا. بالتأكيد، ليس خبراً ساراً للكرملين قفز هلسنكي واستوكهولم على "الخطوط الحمراء لروسيا"، مثلما كان صباح اليوم الأربعاء ساراً للدول الاسكندنافية. فروسيا ستصبح محاطة بـ 1340 كيلومتراً من الحدود الأطلسية مع فنلندا، لتضاف إلى الحدود الأخرى بنحو 1200 كيلومتر مع النرويج وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا، وبحرية في البلطيق.
بالطبع، بقية أمور عضوية فنلندا والسويد تقنية لا تستطيع موسكو التأثير فيها. فهي شبه محسومة عن جيش البلدين وتوافقهما مع أنظمة حلف الناتو وتسليحه، ومؤسسات الحكم الديمقراطية فيهما، ما يعني أيضاً حضور قيادة البلدين قمة الحلف في مدريد، على قدم المساواة مع الآخرين.
من البلطيق إلى "بحر الناتو"
التحذيرات الروسية، واستعراض القوة، لثني الدولتين عن استكمال نصف الدائرة المطوقة لروسيا، براً وبحراً، ذهبت مع رياح الحرب في أوكرانيا. والمثل الشعبي الاسكندنافي القائل: "يجب ابتلاع الجمل" ينطبق الآن على ما يمكن أن تفعله موسكو، على الأقل وفقاً لقراءات متابعي الشأن الروسي مساء أمس وفي نشرات صباح اليوم.
ما يجري ليس سهلاً على المستوى الشخصي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. تحت عينيه ينتهز "الأطلسي" الظروف التي تسبب غزوه لأوكرانيا بتأسيس مشروعية لها. وجاء الغزو وتهديده للدول الاسكندنافية بنتائج عكسية، وبتغير عميق وغير مسبوق في اتجاهات الرأيين العامين في السويد وفنلندا، من أقلية تؤيد الانضواء تحت مظلة الأطلسي، إلى أغلبية تتقاطع فيها معسكرات السياسة في معظم مجموعة "دول الشمال"، ونحو تحدٍّ غير مسبوق لبوتين بنفسه.
ما يجري يُعتبر أيضاً تحولاً تاريخياً على مستوى ساحات الحدث ونتائجه المستقبلية. فحلف شمال الأطلسي يحوّل عملياً بحر البلطيق إلى "بحر الناتو". فمن فنلندا إلى الدنمارك ودول البلطيق وبولندا، انتهت "الحيادية" التي حلم بوتين بترسيخها عند جيرانه.
الترابط الدفاعي في منطقة البلطيق، وبما يستوجبه نشر المزيد من القوات والقطع البحرية والعسكرية، يعني في التطبيق أنّ إرسال طائرات وسفن بحرية روسية نحو جزيرتي غوتلاند السويدية وبورنهولم الدنماركية، لم يعد متاحاً للتأثير بسياسات المنطقة الاسكندنافية الحيوية للخروج الروسي من عنق البلطيق في حال اندلاع نزاعات خطيرة، ولو استخدم سانت بطرسبرغ.
في الموازاة، ارتفعت، خلال اليومين الماضيين، نبرة تحدٍّ أخرى من الأطلسي، بتأكيده "الرغبة في السلام" من ناحية، و"استعداده أيضاً للحرب" من ناحية أخرى، كتأكيد إضافي أنّ الأمور متوترة جداً مع موسكو.
عملياً، المراهنة الروسية على التناقضات، إن في الدول الأعضاء في الناتو، أو المشاحنات والانقسامات بين دول الحلف، لم تنجح في "دول الشمال" على الأقل. فكل الدعاية الروسية على القنوات التلفزيونية المحلية حول "عدم كفاءة" الحلف الغربي، الذي تقول أيضاً إنها في حرب معه وليس مع أوكرانيا، تنتظر الآن أجوبة أخرى. كما ينتظر البعض الأشكال العملية لردود الأفعال على توسع حدود الناتو مع روسيا في هذه الزاوية من الشمال الأوروبي، والهيمنة الغربية في منطقة بحر البلطيق.
وليس بعيداً عن الخسائر الروسية، فإنّ السردية التي أشيعت في روسيا قبل سنوات قليلة عن أنّ بوتين استطاع "ترويض" فنلندا، باسم الحيادية، لم يعد لها سوق، حيث كانت الوقائع أصلاً تفيد بتعميق التعاون مع الحلف الغربي منذ 2014. والآن، معظم السرديات الأخرى عن إبعاد شبح الناتو عن حدود روسيا تعاني، وبالأخص نظرية أنّ توسيع الحلف يعني "تهديداً مباشراً لروسيا".
في شهر مايو/أيار الماضي، كانت الخارجية الروسية تهدد فنلندا باعتبار أنّ عضويتها في الأطلسي "ستضطر روسيا إلى الرد عسكرياً وغير ذلك لمنع تنامي التهديدات لأمنها القومي".
ليس هناك مؤشرات على رغبة موسكو في توسيع "العملية العسكرية الخاصة" لتشمل فنلندا والسويد. فخلق مشاكل سابقاً لعرقلة تقنية لعضوية البلدين في الناتو (باعتباره لا يضم إليه الدول التي تعيش حرباً أو نزاعاً حدودياً مسلحاً) تجاوزه الزمن، ولم يعد بالإمكان استخدام فائض القوة السابق للحرب في أوكرانيا مع هلسنكي واستوكهولم.
ومع ذلك، لا يمكن تجنب الاسكندنافيين لسيناريوهات أخرى لردود أفعال موسكو، خارج سياق الصواريخ والقنابل، وفي جعبة موسكو الكثير منها. فمنذ 2014، يتهم هؤلاء موسكو برعاية "الحروب الهجينة"، ومن بينها القرصنة الخطيرة، التي من الممكن أن تستدعي أيضاً نوعاً آخر من المواجهة مع الأطلسي، الذي حذر سابقاً من شنّ قرصنة على نطاق واسع.