تواجه السنغال أزمة سياسية بدأت منذ أشهر متعلقة بالانتخابات الرئاسية، التي كانت مقررة في 25 فبراير/شباط الحالي، لكن الرئيس ماكي سال ارتأى تأجيلها حتى 15 ديسمبر/كانون الأول المقبل، وذلك إثر نقاشات مع البرلمان. ومن غير المستبعد، في المرحلة المقبلة، أن يتجدد الخلاف داخل البرلمان بين كتلتين: موالية للرئيس ومعارضة له.
وقبل أن يأخذ البرلمان بالحل الوسط ويختار 15 ديسمبر/كانون الأول المقبل موعداً للانتخابات خلال جلسته الاثنين الماضي، نزلت المعارضة وأنصار العديد من المرشحين الرئاسيين إلى الشارع، وواصلوا حراكهم الاحتجاجي، مطالبين بإجراء الانتخابات في موعدها المقرر دستورياً قبل نهاية الولاية الثانية للرئيس في إبريل/ نيسان المقبل.
هناك مخاوف فعلية في أوساط المعارضة والمرشحين الذين يسجلون حضوراً ملحوظاً من أن يكون التأجيل مدخلاً للتلاعب بالاستحقاق الرئاسي، ويُخشى من أن يقود ذلك إلى تأجيل آخر يبقي على الرئيس في منصبه إلى فترة غير محددة، حتى يعثر على شخصية تناسب خياراته ومشاريعه ورؤاه السياسية.
وترى أوساط محلية أن الأجواء السياسية في داكار لم تعد صافية، كما جرت العادة في هذا البلد، الذي يعد من بين أكثر دول أفريقيا استقراراً منذ الاستقلال عن فرنسا في عام 1960.
أزمة الانتخابات الرئاسية في السنغال
أهم قضية هي أن سال فاجأ الأوساط المحلية والخارجية بتأجيل الانتخابات الرئاسية، علماً أنه لا يحق له دستورياً المشاركة فيها. وسبق له أن أعلن أنه لن يترشح لولاية رئاسية ثالثة من خلال تعديل للدستور. وحسب مصادر إعلامية سنغالية، يعود التأجيل إلى وجود انشقاقات واختلافات داخل معسكر الرئيس. فهناك من يريد تنظيمها في وقتها المحدد وهناك من يريد تأجيلها.
سال فاجأ الأوساط المحلية والخارجية بتأجيل الانتخابات الرئاسية
تنتهي ولاية سال الرئاسية في مطلع إبريل المقبل، وكان قد انتُخب للمرة الأولى خلفاً لعبد الله واد عام 2012، وأعيد انتخابه عام 2019، وكان من المقرر أن يشهد البلد انتخابات جديدة وسط تنافس مجموعة من المرشحين يزيد عددهم عن 20 مرشحاً، منهم من المعارضة، ومن هو قريب من مؤسسة الحكم. أثار القرار قلقاً في الداخل والخارج.
وحرك مخاوف من أن يغرق هذا البلد، المعروف بأنه يشكل عامل استقرار في أفريقيا، في المجهول بعدما شهد حلقات من الاضطرابات الدامية منذ عام 2021، خصوصاً أن العديد من مرشحي المعارضة قرروا تجاهل قرار سال وواصلوا إطلاق حملتهم الانتخابية، واعتبارهم القرار "غير ديمقراطي" و"غير دستوري".
لا تزال السنغال بمنأى عن الهزات الكبرى التي شهدتها أفريقيا خلال العقد الأخير من انقلابات عسكرية وحروب أهلية وتدخلات أجنبية، بسبب الخصوصيات التي يتحلى بها كبلد، ويمكن تقسيمها إلى عدة مزايا.
الأولى هي التجربة الديمقراطية الخاصة منذ الاستقلال عن فرنسا عام 1960، التي اتسمت بالاستقرار والتداول السلمي للسلطة، ويعود الفضل في ذلك إلى وعي الطبقة السياسية، ولذلك لم يثر أي رد فعل انتخاب الشاعر ليوبولد سنغور أولَ رئيس مسيحي في بلد ذي أغلبية مسلمة تتجاوز 80 في المائة.
والميزة الثانية هي الحضور القوي للطرق الصوفية مثل التيجانية والقادرية، وتعد الأولى هي الاكثر انتشاراً، وصاحبة دور في إشاعة الحوار الداخلي، وتأدية دور الوساطة بين المكونات الأساسية للبلد.
وعلى الرغم من أن الشارع يشهد اضطرابات في الفترة الحالية، إلا أن هناك حالة نضج على مستوى النخب السياسية التي تتنازع على الحكم، ويكاد أن يكون الأول في أفريقيا على هذا الصعيد، ثم إن أغلبية هؤلاء هم من أبناء النظام السياسي الذي تشكل بعد الاستقلال، وليسوا من خارجه، أو أصحاب ولاءات خارجية.
استمر التأثير الذي تمارسه الطرق الصوفية ودورها في تحديد شكل النظام السياسي وهوية الحاكم، ويعد سال أحد أعضاء الطريقة التيجانية، وهو يحظى بتأييدها.
أما الخصوصية الثالثة فهي أن الجيش السنغالي أحد أكثر الجيوش احترافية في القارة الأفريقية، ويتمتع بتكوين سياسي أساسه الحفاظ على النظام الجمهوري الديمقراطي، وعدم تدخله في السياسة، ورفضه الانقلابات العسكرية.
كما أن الجيش مبني على المهنية، ومؤسساته تخضع لسلطة الدولة، والرئاسة، والحكومة، والبرلمان، لذا من المستبعد أن يقدم على مغامرة انقلاب عسكري، بتحريض من أطراف خارجية لها مصالح بتقويض الاستقرار في بلد غني واسع ومستقر.
أزمة السنغال تطرح أهمية البعدين الإقليمي والدولي، نظراً إلى أهميتها في القارة وموقعها الجيوسياسي وعلاقاتها مع أوروبا والولايات المتحدة، وتأثيرها في العلاقات الأفريقية، وعلى مستوى علاقات القارة مع العالم.
أول الأطراف المعنية بالأزمة هو الاتحاد الأفريقي، وهو مؤسسة أثبتت في السنوات الأخيرة عدم قدرتها على مواجهة الهزات التي عصفت ببلدان القارة، وهناك نماذج شاهدة على هذا الفشل منها الوضع في السودان وإثيوبيا. وفي الحالتين، لم يتمكن الاتحاد من مساعدة البلدين على تطويق القتال وجمع المتحاربين حول طاولة حوار واحدة.
وفشلت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس" هي الأخرى في معالجة أزمات غرب أفريقيا، وذلك بسبب طريقة عملها، واتخاذ القرارات داخلها والنفوذ الدولي على بعض دولها، والتنافس بينها.
ويسود الترقب مصيرها بعد إعلان مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، الانسحاب منها أخيراً، في ضربة بدت قاصمة لهذا التكتل الإقليمي. وفي نظر بعض دول أفريقيا، تعد "إيكواس" إحدى أذرع فرنسا في أفريقيا، خصوصاً أنها اتخذت مواقف متشددة للغاية، وصلت حد التلويح بالتدخل العسكري في عدد من الدول التي شهدت انقلابات عسكرية مثل النيجر وبوركينا فاسو ومالي، وهي دول سارعت إلى قطع صلاتها مع فرنسا بعد تلك الانقلابات.
وبالإضافة إلى ذلك، يرتبط سال بعلاقات واسعة مع قادة الاتحاد الأفريقي، وسبق له أن تولى الرئاسة في هذه المؤسسة، وهو يعرف مشاكلها وعيوبها من الداخل، ولذا من المستبعد نقل الخلاف السنغالي إلى الاتحاد أو الطلب منه التدخل للتحكيم بين الأطراف المختلفة.
وهناك بُعد إقليمي ودولي في الخلافات، يعود إلى عدوى عدم الاستقرار التي تشهدها منطقة غرب أفريقيا عموماً، وتأثر بعضها ببعض نتيجة التداخلات القبلية والإثنية وتبادل التأثير الأمني والسياسي.
أدت روسيا خلال العقد الأخير دوراً مهماً في تحريك الانقلابات العسكرية
ويؤدي تنافس الأطراف الدولية دوراً سلبياً في النزاعات الأفريقية عبر تقسيم دول القارة إلى معسكرات، حسب الولاءات والتمويل، بين الولايات المتحدة وفرنسا والصين وروسيا. وأدت روسيا خلال العقد الأخير دوراً مهماً في تحريك الانقلابات العسكرية عن طريق شراء ولاءات الضباط الصغار باستثمار النقمة ضد فرنسا، ونجحت في قلب الوضع وإخراج فرنسا من أكثر من بلد كما حصل في أفريقيا الوسطى، بوركينا فاسو، مالي، والنيجر.
وبالنظر إلى الدور الذي تؤديه مرتزقة "فاغنر" في الحرب السودانية، فإن حضورها يتنامى ونفوذها يكبر في أفريقيا، ولم يؤثر على ذلك مقتل قائدها يفغيني بريغوجين بعد خلافه مع الرئيس فلاديمير بوتين، ومحاولته التمرد.
سيناريوهات لتجاوز الأزمة
تأجيل الانتخابات ليس هو الحل، وثمة إجماع على أن ما طرحه ماكي سال لن يمر بالقوة، وبالتالي هو أمام مأزق، وبقرار تأجيل الانتخابات خلق أزمة دستورية، ووضع نفسه على طريق صعب. وفي كل الأحوال أمامه ثلاثة احتمالات.
الأول هو أن تتوافق النخبة السياسية على سقف معين مثل إجراء الانتخابات بعد ستة أشهر، ويتمكن الجميع المشاركة فيها بمن فيهم المرشح الأكثر شعبية عثمان سونكو. والثاني أن يتمكن سال من إنجاح مرشح محسوب عليه، ويعود الوضع إلى ما كان عليه مع بقاء آثار الهزة إلى مدى منظور.
والاحتمال الثالث أن يفشل في الخيارين وتتعقد الأوضاع، وفي هذه الحالة، ثمة من يرى أنه قد يلجأ إلى إعلان حالة الطوارئ إلى أمد غير معلوم، ريثما تهدأ الأوضاع، ويصبح من الممكن العودة إلى العملية السياسية بلا ضغوط.
وعلى الرغم من استبعاد الانقلاب العسكري، يجرى على نطاق ضيق تداول هذا الاحتمال في حال تطورت التظاهرات، ومالت الكفة ضد الرئيس، ولكن هذا يحتاج إلى تدخل طرف دولي يستفيد من ذلك، وتوجه الأصابع إلى روسيا التي يبدو موقفها رمادياً مما يحصل، في الوقت الذي ترفع فيه من وتيرة التحريض وإثارة مشاعر العداء لفرنسا، لما لها من تأثير في أوساط التيارات الشعبوية التي تتقدم في أغلبية بلدان القارة.
وإذا وصل السنغال إلى هذا الحل، فإن ذلك سيشكل نكسة سياسية كبيرة للديمقراطية في أفريقيا، ذلك أن سقوط تجربة عمرها أكثر من 60 عاماً لن يمر بلا تداعيات إقليمية ودولية، بخصوص الاستقرار السياسي على وجه الخصوص.
تواجه السنغال الامتحان في ظل عملية تحول تاريخية في إعادة صياغة العلاقات بين الشمال والجنوب، بين أفريقيا والدول الغربية، وتساقط الأنظمة الموالية لفرنسا والمنظمات المقربة منها كأحجار الدومينو، مثل "إيكواس".
ويبدو مؤكداً أن فرنسا لن تجد طريقاً للعودة إلى مواقعها القديمة، ومنها السنغال، التي أضحت محل تنافس محموم بينها وبين قوى أخرى تسعى إلى التقاط هذه اللحظة والحلول محل باريس، سواء على المستوى الأمني أو الاقتصادي، أو غيرهما.