مع مرور مزيد من الوقت على انقلاب الرئيس التونسي قيس سعيّد على الدستور والمسار الديمقراطي، بإقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي، وتعليق عمل البرلمان لمدة 30 يوماً، وغيرها من القرارات التي أعلنها مساء الأحد، يزداد الغموض حول مستقبل الأوضاع، وتتصاعد المخاوف على التجربة الديمقراطية. وعلى الرغم من أن سعيّد حاول توجيه رسائل طمأنة للداخل والخارج بأنه سيحترم الحقوق والحريات ويفرض القانون، ونفيه خرق الدستور أو القيام بانقلاب، غير أنه لم يفصح عن برنامجه أو توجهاته المقبلة، لتتعالى أصوات منظمات وأطياف داخلية وخارجية مختلفة تطالب بإنهاء العمل بالتدابير الاستثنائية بأسرع وقت والحفاظ على سيادة القانون، مع إعطاء مهلة بألا تتجاوز الإجراءات الاستثنائية مدة الشهر. أما في الشارع، فاتسمت الأوضاع بالهدوء أمس الثلاثاء بعد يوم صاخب الاثنين أمام مبنى البرلمان في باردو، حيث اعتصم محتجون على الانقلاب، وأنصار سعيّد، فيما بدت الحركة في شارع بورقيبة وسط العاصمة أمس هادئة، خصوصاً أن جلّ المؤسسات العامة مغلقة بأمر رئاسي.
وحاول سعيّد منذ أول من أمس الاثنين توجيه رسائل طمأنة، خصوصاً بعد تأكيده "عدم الانزلاق إلى مربع الديكتاتورية واحترام الحقوق والحريات الفردية والعامة، واحترام آجال تطبيق الإجراءات الاستثنائية، وإعلان تركيبة الحكومة الجديدة في غضون أيام"، كما نقلت عنه رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية، راضية الجربي، التي التقته مع مجموعة من مسؤولي النقابات الاثنين.
إلا أن ذلك لم يمنع تعالي أصوات منظمات تونسية، أمس الثلاثاء، تطالب بضرورة التسريع في إنهاء التدابير الاستثنائية، وخصوصاً بعدما بادر رئيس الحكومة المقال، هشام المشيشي، إلى تأكيد عدم تمسكه بأي منصب أو أية مسؤولية في الدولة، وأنه سيسلّم المسؤولية للشخصية التي سيكلفها رئيس الجمهورية رئاسة الحكومة. وأعلنت منظمات تونسية في بيان مشترك أمس، "تمسكها بكل مكتسبات الثورة التونسية التي عبّرت عنها ثورة الحرية والكرامة"، محذرة "من أي تمديد غير مشروع ومبرر في تعطيل مؤسسات الدولة"، ومشددة على ضرورة التزام مدة الشهر المعلنة والمنصوص عليها في الدستور لإنهاء العمل بالتدابير الاستثنائية وتجميع السلطات بيد رئيس الجمهورية". ودعت سعيّد إلى "ضبط خريطة طريق وفق روزنامة واضحة لا تتجاوز ثلاثين يوماً وبصفة تشاركية مع كل القوى المدنية تتعلق بالقضايا المستعجلة، كمحاربة فيروس كورونا والشروع في مراجعة القانون الانتخابي والنظام السياسي ومكافحة الفساد".
حذرت منظمات نقابية من أي تمديد غير مشروع ومبرر في تعطيل مؤسسات الدولة
ووقّعت على البيان منظمات: الاتحاد العام التونسي للشغل، الهيئة الوطنية للمحامين بتونس، النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، جمعية القضاة التونسيين، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وكانت هذه المنظمات قد التقت سعيّد يوم الاثنين. وشددت المنظمات على "ضرورة احترام الحريات العامة والفردية والطابع المدني للدولة التونسية واحترام دستور البلاد واستقلال القضاء واحترام حرية التعبير والإعلام والصحافة وعدم الانزلاق نحو التفرد بالسلطة"، داعية إلى احترام السلطة القضائية كسلطة مستقلة تماماً عن السلطتين التنفيذية والتشريعية لتتمكن من استرجاع دورها والعمل بكل استقلالية للتسريع في فتح كل الملفات". وحيّت "تحركات الشعب الاحتجاجية بعد فشل منظومة الحكم في إيجاد حلول للأزمة الصحية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية"، ودعت جميع المواطنين إلى التحلي بـ"الهدوء وضبط النفس وعدم الانجرار إلى العنف".
بالتوازي مع ذلك، جددت حركة "النهضة" القول إن "الإجراءات الاستثنائية التي أعلنها رئيس الجمهورية غير دستورية، وتمثل انقلاباً على الدستور والمؤسسات، خصوصاً ما تعلّق منها بتجميد النشاط النيابي واحتكار كل السلطات من دون جهة رقابيّة دستوريّة، وهو ما أجمعت عليه كل الأحزاب والمنظمات وأهل الاختصاص". ودعت الحركة في بيان أمس، بعد اجتماع مكتبها التنفيذي مساء الاثنين، سعيّد إلى "التراجع عنها ومعالجة التحديات والصعوبات التي تعاني منها البلاد ضمن الإطار الدستوري والقانوني الذي يتماشى والخيار الديمقراطي الذي ارتضاه الشعب التونسي، مع ضرورة استئناف عمل مجلس نواب الشعب كسلطة أصلية منتخبة ديمقراطياً". ودعت المجتمع السياسي والمدني إلى "تكثيف المشاورات حول المستجدات الأخيرة التي عاشتها بلادنا حفاظاً على المكتسبات الديمقراطية، والعودة في أقرب الأوقات إلى الأوضاع الدستورية والسير العادي والقانوني لمؤسسات ودواليب الدولة".
ووجهت تحية إلى "المؤسّسة العسكرية والأمنية الساهرة على أمن البلاد وسلامته ورمز وحدته وسيادته". وعبّرت الحركة عن "تقديرها لكل الذين رفضوا خرق الدستور والتعسف في تأويله وعبّروا عن مواقفهم بشكل حضاري وسلمي"، منبهة إلى "خطورة خطابات العنف والتشفّي والإقصاء على النسيج الاجتماعي الوطني وما يفتحه من ويلات، البلاد في غنى عنها"، منددة بكل التجاوزات وداعية إلى الملاحقة القضائية لمقترفيها. وأشارت "النهضة" إلى "تفهمها الاحتجاجات التي عرفتها البلاد في المدّة الأخيرة ومشروعية المطالب الاجتماعية والاقتصادية والسياسيّة، إلى جانب الخطر الوبائي الكبير الجاثم على بلادنا، بما يجعل هذه القضايا أولوية مطلقة للبلاد تحتاج إلى إدارة حوار وطني ورسم خيارات جماعية قادرة على إخراج البلاد من جميع أزماتها".
دعت "النهضة" للعودة في أقرب الأوقات إلى الأوضاع الدستورية والسير العادي والقانوني لمؤسسات الدولة
وبينما ذكرت وكالة "فرانس برس" أن "النهضة" أعلنت استعدادها "لانتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة ومتزامنة"، نفى المتحدث الرسمي باسم الحركة، فتحي العيادي، لـ"العربي الجديد"، أن تكون "النهضة" قد دعت إلى انتخابات مبكرة، مؤكداً أنها جددت الدعوة إلى البحث عن حلول سياسية للبلاد. وأوضح أنه "لا بد من العودة للديمقراطية والدستور، وعندما يُطرح موضوع الانتخابات المبكرة على الساحة فسيكون للنهضة موقفها"، مشيراً إلى أن الحركة تعتبر أن أنسب حل هو التهدئة في ظل التحديات الصحية والاقتصادية والأوضاع التي تمرّ بها البلاد، ولا يجب الدفع نحو مزيد من التعقيد.
التخوّف من مسار الأمور لم يقتصر على "النهضة". فرئيس حزب العمال اليساري، حمة الهمامي، لم يُخف مخاوفه من أن التدابير الاستثنائية قد تدوم لفترة طويلة، مبيناً أن رئيس الجمهورية يفتقر إلى أي برنامج. وانتقد الهمامي، في تصريح إذاعي، بشدة قرارات سعيّد، قائلاً إن الفصل الـ80 من الدستور لا يُخوّل سعيّد تجميد البرلمان ولا رئاسة النيابة العمومية.
وفي السياق، دعا حزب البديل التونسي إلى توضيح مجمل التدابير والإجراءات التي ستُتَّخَذ، على سبيل الدعوة إلى استفتاء شعبي، وتعديل المنظومة الانتخابية، وتنقيح الدستور، والدعوة إلى انتخابات سابقة لأوانها، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني مسنودة من كل الأطياف والقوى المدنية المؤمنة بالدولة والوطن، من دون إقصاء، وبرنامج إنقاذ عاجل، وطمأنة الشركاء الدوليين لتونس.
من جهته، أكد الأمين العام للحزب الجمهوري، عصام الشابي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن المشهد حالياً غامض، مبيناً أن المؤسسات الديمقراطية فشلت بدورها في معالجة الأوضاع، لكن الحل لا يكون بإلغاء المؤسسات ووضع السلطة في يد مؤسسة واحدة أو شخص واحد مهما كان هذا الشخص، مشيراً إلى أن معالجة المريض تكون بتلقي جرعة دواء، لا بالقضاء على المريض. وأوضح أن خطورة الخطوة التي قام بها سعيّد تكمن في الخشية من الدخول في حقبة الحكم الفردي وتجميع السلطة بيد شخص واحد، مبيناً أن العلة تكمن في من قاد المرحلة، وليس في الديمقراطية نفسها، ويُخشى على تونس من الدخول في مرحلة استبداد.
ورأى الشابي أن تجميد البرلمان وتجميع السلطات في يد الرئيس، كفيلان بفتح الطريق للضبابية، إذ مرت 48 ساعة ولا توجد حكومة، وهو ما يبيّن أن الخطوة كانت مرتجلة، مضيفاً أن "المطلوب الآن مشاورات جدية عاجلة، وحكومة إنقاذ وطني، فمؤسسات الدولة معطلة، ولا نحتاج اليوم إلى حكومة الرئيس، بل إلى حكومة إنقاذ وطني". ودعا الشابي إلى "انتخابات مبكرة سابقة لأوانها لكي نعود للشعب ونقبل بتلك الاختيارات لأن المنظومة ككل تتحمّل المسؤولية وسعيّد جزء منها، وبالتالي لا بد من انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة، فتونس في حاجة إلى تحديد رؤية واضحة والعودة للتونسيين من دون إقصاء".
وفي قراءة لما بعد قرارات سعيّد، رأى المحلل السياسي ماجد البرهومي، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "يجب أن تكون هناك خريطة طريق يعلنها رئيس الجمهورية للفترة المقبلة، فلا يمكن أن يبقى الوضع على ما هو عليه، ولا نريد أن نعود إلى فترة 2013 عندما تجاوز المجلس التأسيسي المدة المحددة له بسنة وبقينا في آجال مفتوحة نجهل متى ستجرى الانتخابات والمواعيد المقبلة". وأضاف أن خريطة الطريق يجب أن تتضمّن حلولاً تتعلّق بأهم المشاكل التي نتجت من 6 سنوات من الممارسة الدستورية الحالية، ومنها النظام السياسي والنظام الانتخابي اللذان اختبرهما التونسيون والمجتمع المدني والأحزاب السياسية، فالمشاكل معروفة ولا تحتاج وقتاً لتشخيصها. وأكد المحلل السياسي ضرورة إجراء إصلاحات دستورية وقانونية، وأهمها في القانون الانتخابي هو مقاومة المال السياسي الخارجي الذي أفسد العملية الانتخابية. وأكد أن "الخطوة الأولى تتمثل في تشكيل حكومة من خارج الأحزاب، على الرغم من رفضي للفكرة في المطلق، لكن في وضعنا الحالي الأفضل أن تكون حكومة تكنوقراط بعيدة عن الأحزاب، حكومة مؤقتة محدودة في الزمن لتسيير الأعمال".