الدعم الغربي لأوكرانيا... من الخوذات إلى "أف 16"

03 يونيو 2023
طائرة "أف 16" في الدنمارك، مايو الماضي (فرانس برس)
+ الخط -

مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022، انتشرت نغمة سخرية طاولت عرض ألمانيا إرسال آلاف الخوذات العسكرية إلى كييف. وعلى الرغم من أن الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة وبريطانيا، أدرك في وقت مبكر "حتمية" الغزو الروسي، وطرح سيناريوهات عدة له، إلا أن سلوكه اتسم في البدء بالتردد في دعم كييف عسكرياً، ليتحول سريعاً إلى فتح تدريجي لمخازنه التسليحية.

فبين توقعات روسية بسرعة الحسم لـ"العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا، بحسب التسمية الروسية للغزو، وهي توقعات خابت، وبين جميع السيناريوهات الغربية المتعلقة بحدود الغزو، ومنها عند حدود إقليم دونباس في شرق أوكرانيا وصولاً إلى اقتحام كييف، بدا واضحاً مع الوقت، بحسب قراءة مستشارين ومحللين عسكريين غربيين، أن تلك "العملية" انتهت إلى ما يشبه المستنقع الحربي لروسيا، بعدما انحسرت قواتها منذ إبريل/ نيسان 2022، شمالاً وعن كييف.

المزيد من الأسلحة والتمويل لأوكرانيا

صحيح أنه في بداية الحرب ارتبك الموقف الغربي حيال ما يجب ضخّه لأوكرانيا، إذ طغى آنذاك خطاب المساعدات "الإنسانية"، وما يسمى الأسلحة "غير القاتلة/ الفتاكة"، لكنه سرعان ما استُبدل بخطاب حول خطوط الذخيرة والصواريخ المضادة للدروع والأنظمة المدفعية، ثم صواريخ "هيمارس" والدبّابات ومضادات الطائرات.

ويتوسع حديث دعم كييف وتسليحها وتزويدها بما يلزم للانتصار بالحرب، ليصل إلى مقاتلات "أف 16" الأميركية، مع عدم إغفال الدور الاستخباري الحيوي والمؤثر للغرب، والراصد لتحركات الروس وأهدافهم العسكرية التالية. ويأتي ذلك على الرغم من مواصلة موسكو تحذيرها من أن زيادة التورط الغربي قد تقود إلى صدام مع حلف شمال الأطلسي (ناتو).


طغى خطاب المساعدات الإنسانية، وما يسمى الأسلحة "غير الفتاكة"، على خطاب الغرب في بداية الحرب

وتسببت الضغوط في الغرب والتي جاءت على وقع تأييد أغلبية الرأي العام الأوروبي لأوكرانيا، في فتح الدول الغربية مخازنها لتزويد الأوكرانيين بما يحتاجونه عسكرياً، وأثمرت فتح مخازن دبّابات "ليوبارد 2" الألمانية، بعدما كانت واشنطن قد كسرت المحظور في صيف العام الماضي، بإرسال منظومات صواريخ "هيمارس" إلى كييف، وهو ما يؤكد أن "الاحتجاج الروسي أصبح أقل تأثيراً لدى صنّاع القرار الغربي مما كان عليه في بداية الحرب"، بحسب الباحث الدنماركي في جامعة آرهوس أندرياس سورنسن، كما يقول لـ"العربي الجديد".

وعلى وقع ذلك، وفي سياق حملة خاضتها كييف ومؤيدوها الغربيون، تعالت الأصوات المؤيدة لتسليح أوكرانيا بطائرات "أف 16"، ومن مخازنها الأوروبية. فقد أعلنت كوبنهاغن مثلاً أنها ستزود أوكرانيا بتلك الطائرات، بل وستشارك في تدريب طيارين أوكرانيين، وهو ما قد يُمكّن كييف من استهداف الروس بصواريخ جو - أرض من مسافات بعيدة جداً.

فحتى قبل الضوء الأخضر الأميركي للحلفاء، كانت بعض الدول الأوروبية المحسوبة على "معسكر الصقور"، وأغلبها المتخوفة من مشاريع روسيا التي ترى أنها لن تتوقف عند حدود أوكرانيا، ترفع وتيرة انخراطها غير المباشر في الحرب.

وبشكل تدريجي، أمكن ملاحظة بعض التطورات التي انتقلت من استقبال جنود كييف الجرحى في المستشفيات الاسكندينافية إلى تدريب طياري أوكرانيا على "أف 16"، ما ينذر بأن الأمور لن تقف عند حدود معينة. وذلك يتناغم مع ما ذهب إليه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عندما خاطب اجتماع مجلس أوروبا في ريكيافيك (أيسلندا) في 16 مايو/ أيار الماضي بقوله "نحتاج إلى طائرات مقاتلة، لأنه من دونها لا يوجد دفاع جوي مثالي".

وفي الدنمارك، أعلنت رئيسة الحكومة ميتا فريدركسن، الإثنين الماضي، رفع قيمة المبالغ المخصصة لصندوق دعم أوكرانيا عسكرياً إلى الضعف، ليصل إلى نحو 2.6 مليار دولار، وأنها سترفع سقف مساهمتها إلى حدود 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، بما يتوافق أيضاً مع سعي دول الناتو إلى رفع موازناتها العسكرية إلى تلك النسبة.

مؤشرات ومخاطر

الذهاب إلى تسليح أوكرانيا بالتدرج، وإلى مستوى يجعل من جيش أوكرانيا قادراً على القيام بعملية "تماه" مع النظام التسليحي "الأطلسي"، يحمل "مؤشرات إلى انخراط ثابت للغرب في مواجهة روسيا"، بحسب ما يقول الباحث في كلية العلوم السياسية بكوبنهاغن كريستيان كريستانسن لـ"العربي الجديد".

فمنسوب التوتر في التصريحات الروسية، وعودة التلويح بالسلاح النووي واتفاقية نشره في بيلاروسيا، هي أحد مؤشرات الانزعاج الروسي من الجهد الغربي. أضف إليه، في موازاة الحديث عن أنظمة تسليحية جديدة، أن الأميركيين لم يعودوا يرون في استهداف شبه جزيرة القرم أمراً محظوراً، بل يعتبرونه مشروعاً باعتبار القرم جزءاً من الأراضي الأوكرانية.

لكن في المقابل، ثمة من يقرأ تسارع التسليح الغربي لأوكرانيا على أنه مؤشر لرغبة الخروج من "الوضع العسكري المجمّد"، بحسب الباحث كريستيانسن.


حتى قبل الضوء الأخضر الأميركي، كانت بعض الدول الأوروبية المحسوبة على معسكر الصقور، ترفع وتيرة انخراطها غير المباشر في الحرب

من جهته، يذهب الباحث سورنسن إلى التأكيد أن ما يجري "هو تجاوز مقصود لخطوط بوتين الحمراء"، مشيراً في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى أن "الغرب في تحركاته العسكرية المتزايدة أدرك حدود خطوط الكرملين، التي أصبحت اليوم خلف الظهر، مقارنة بالأيام الأولى للحرب".

الأمور على ما يقرأها باحثون متخصصون في المسائل الدفاعية واستراتيجيات الحروب، ومنهم كبير باحثي كلية الدفاع في كوبنهاغن بيتر فيغو ياكوبسن، كما أوضح للتلفزة الدنماركية مساء الأحد الماضي، تؤشر إلى أن واشنطن على وجه الخصوص أصبحت "تدرك الأوقات المناسبة للدفع بمنظومات تسلح أحدث إلى أوكرانيا، ومن بينها أف 16".

ذلك يعني بعبارة أخرى، أن الدول الغربية التي خصّصت جزءاً من منظومات تسلحها لأوكرانيا، وفق مبدأ "حصر الحرب" وعدم توسعها، لم تعد تضع سقفاً لنوعية الأسلحة.

ويعني الانتقال من عرض نحو 5 آلاف خوذة ألمانية للجيش الأوكراني في بداية الغزو، إلى ما يشبه استبدال منظومات تسلح أوكرانيا بالغربية، بنظر بعض المتابعين، أن "الحرب ربما ستكون طويلة الأمد"، كما يرى الباحث كريستيانسن، وذلك دون ضمان العواقب والخطوة الروسية التالية.

وتشير المعطيات التي برزت خلال الأيام الأخيرة الماضية، مع تزايد استهداف أراض في العمق الروسي، وتكثف قصف كييف بالمسيّرات والصواريخ، والحديث الأوكراني عن "الهجوم المضاد"، الذي وصفه الأوكرانيون بأنه "يهدف إلى العودة لحدود 1991"، أي إلى عام إعلان استقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفييتي السابق، فضلاً عن تطورات تسليح كييف بمنظومات معلنة وغير معلنة، إلى أن أوروبا وواشنطن لا تريدان استمرار جمود الحرب عند خطوطها الحالية.

وبشكل عملي، ووفق الإعلانات الأولية، سيحتاج الطيارون الأوكرانيون إلى 4 أشهر لاستخدام مقاتلات "أف 16"، على الرغم من أن تدفقهم إلى عدد من الدول ترافق مع تصريحات بأن "الأمور تجري أسرع من المتوقع". ويعني ذلك ربما أن الصيف المقبل سيشهد مزيداً من انخراط الناتو في مخطط "الهجوم المضاد" للجيش الأوكراني.

الدول الغربية التي اعتمدت بداية مبدأ حصر الحرب، لم تعد تضع سقفاً لنوعية الأسلحة

الروس منزعجون

عبّر الروس مراراً، وبوضوح، عن انزعاجهم من المجهود الغربي خلال أكثر من عام من الحرب. وزاد هذا الانزعاج إعلان مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، تزامناً مع الموافقة على منح كييف "أف 16"، عن أن الحرب "تدخل مرحلة جديدة". ويرى الباحث سورنسن في ذلك مؤشراً إلى "رسالة واضحة للروس بأن حربهم في أوكرانيا طويلة جداً".

ويتفق سورنسن في الوقت ذاته مع الرأي القائل بأنه "يجب عدم الاستهانة بما يمكن أن يقوم به (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين في لحظة يأس، من إطالة الحرب واستهداف مناطق كان يعتبرها خطاً أحمر".

ومن بين "الخطوط الحمراء" في هذه الحرب، والتي يجري تداولها، يأتي في المقدمة استخدام الطائرات الأميركية لاستهداف شبه جزيرة القرم (التي ضمّتها روسيا في 2014)، وهو ما يرى فيه المحلل العسكري الدنماركي بيتر فيغو ياكوبسن "تصعيداً عنيفاً للمواجهة".

وخلال الفترة الماضية، أكد البريطانيون تزويدهم أوكرانيا بصواريخ "ستورم شادو" بعيدة المدى، والتي تثبت على طائرات أوكرانية - سوفييتية ويمكنها القصف عن بعد 250 كيلومتراً، مع تعهد كييف بعدم استهداف الداخل الروسي.

لكن المنحى الجديد في اعتبار حدود 1991 أرضاً أوكرانية، يفتح المجال أمام كييف لاستهداف أوسع لمناطق القرم وماريوبول ومعظم شرق أوكرانيا من مسافات تتجنب الدفاعات الروسية.

ويشير في هذا الاتجاه الجنرال والباحث العسكري في "أكاديمية الدفاع السويدية" يورغن إلففينغ إلى أن "الغرب بطريقة ما يشارك في تصدي أوكرانيا للقوات الروسية، ويقدم النصائح للأوكرانيين حول عدم استخدام الأسلحة الغربية بعيدة المدى في مهاجمة الأراضي الروسية".

وبحسب ما نقلت عنه "داغنس نيهتر" في استوكهولم، أمس الثلاثاء، فإنه يعتبر أن "للروس خطاً أحمر واضحاً، ويتعلق بشبه جزيرة القرم، التي تضم القاعدة البحرية الروسية في البحر الأسود (سيفاستوبول)".

يأتي ذلك تزامنا مع "مقترحات أوكرانية تطالب بفتح جبهة البحر الأسود"، بحسب ما يؤكد أحد كبار باحثي المركز الدنماركي للدراسات الدولية، الذي فضّل عدم نشر اسمه.

وفي السياق، يعتبر الباحث كريستيانسن أن "مطالب منح أوكرانيا غواصات وإمكانيات بحرية لاستهداف القواعد الروسية في القرم، أمر يدعو الغربيين إلى التردد، مثلما كان عليه التردد مع باقي منظمات التسلح (في بداية الحرب)".


من بين الخطوط الحمراء في هذه الحرب، استخدام الطائرات الأميركية لاستهداف شبه جزيرة القرم

في المجمل، وحتى مع وجود رغبات قوية بفتح أبواب المخازن الغربية بمختلف أنواعها أمام كييف، تبقى العملية خاضعةً لاعتبارات تأخذ بالاعتبار عدم دفع بوتين إلى "اليأس". وكان نائب وزير الخارجية الروسي ألكسندر غروشكو قد أعاد التلويح أخيراً بالسلاح النووي، معتبراً أن "الدول الغربية تواجه مخاطر هائلة إذا زوّدت أوكرانيا بمقاتلات أف 16".

ويشير متابعون للمواقف الروسية في "المركز الدنماركي للدراسات الدولية" (دييس)، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إلى أنه من المحتمل جداً أن تكون موسكو قد بعثت ضمناً برسائل حول خطوطها الحمراء الجديدة وتتعلق بالبحر الأسود وبأي استهداف أوكراني لأسطولها فيه.

إلى جانب ذلك، يرى هؤلاء أن ما يجري الآن، وإلى حين الكشف عن نطاق وحجم "الهجوم الأوكراني المضاد"، يُبقي على اعتبار استهداف قواعد جوية ومستودعات ومراكز قيادة روسية داخل روسيا أحد "أهم وأخطر الخطوط الحمراء، التي يتوجب التعامل معها بجدية أكثر من الجانب الغربي المسلّح لأوكرانيا". هذا على الرغم من ارتفاع منسوب جرأة الأوكرانيين على تنفيذ هجمات متفرقة داخل روسيا نفسها.