يعكس الاعتراف الإسرائيلي بأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو "لا يشعر بأي ضغط"، وأن الاحتلال سيفعل كل ما يلزم في قطاع غزة لتحقيق أهدافه العسكرية، وفق تصريح أوفير فالك، مستشار نتنياهو للسياسة الخارجية لـ"رويترز"، حقيقة أن الدعم الأميركي لإسرائيل لا يتوقف وأن كل الكلام عن ضغوط من واشنطن على الاحتلال للحد من سقوط ضحايا مدنيين في الحرب التي تشنها على القطاع، يبقى ثرثرة كلامية تستهدف فقط إظهار واشنطن كطرف حريص على حياة المدنيين الفلسطينيين.
الدعم الأميركي لإسرائيل بأوجه عدة
فالولايات المتحدة لم تتخذ أي إجراءات من شأنها إجبار إسرائيل على الإذعان لمطالبها، مثل التهديد بتقييد المساعدات العسكرية، وهي نقطة حمراء بالنسبة لإدارة الرئيس جو بايدن. كما أن الأخير لا يزال يردد رواية الاحتلال، بما في ذلك أن مقاتلي حركة "حماس" اغتصبوا نساء إسرائيليات ومثّلوا بجثثهن خلال هجومهم على مستوطنات "غلاف غزة" في 7 أكتوبر الماضي.
وبينما يتواصل الدعم الأميركي لإسرائيل يتجاهل بايدن وإدارته جميع الأصوات داخل الولايات المتحدة التي تطالب باتخاذ موقف أكثر اتزاناً وتبنّي الدعوة إلى وقف دائم لإطلاق النار في القطاع، بما في ذلك الرسالة التي وجهتها مجموعة من المتدربين في البيت الأبيض أول من أمس الثلاثاء، والتي اتهموا فيها الرئيس بـ"تجاهل" المناشدات من الشعب الأميركي.
وذكرت شبكة "إن بي سي نيوز" الأميركية التي حصلت على الرسالة، أنها موجهة إلى بايدن ونائبته كامالا هاريس، وموقّعة من أكثر من 40 متدرباً يعملون في البيت الأبيض ومكاتب السلطة التنفيذية الأخرى. وكتب المتدربون: "نحن الموقعين أدناه، المتدربين في البيت الأبيض والمكتب التنفيذي للرئيس في خريف 2023، لن نبقى صامتين بعد الآن عن الإبادة الجماعية المستمرة للشعب الفلسطيني".
وفي ظل هذا الواقع الذي يستمر الدعم الأميركي لإسرائيل، ليس غريباً أن تواصل الأخيرة مجازرها بحق أهالي غزة، مع سقوط مئات الضحايا بين قتيل وجريح يومياً في غزة، في ظل القصف العنيف الذي لا يستثني أي بقعة في القطاع.
مطالب أميركية بضربات أكثر دقة
وتزايدت في الفترة الأخيرة مطالبات كبار المسؤولين الأميركيين، ومنهم نائبة الرئيس كامالا هاريس، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، لإسرائيل علناً بشن ضربات أكثر دقة، وتحديداً في جنوب قطاع غزة، لتجنّب وقوع خسائر فادحة في صفوف المدنيين، مثلما تسببت هجماتها في شمال القطاع. لكن ذلك لا يترافق مع إجراءات من شأنها إجبار إسرائيل على الإذعان للمطالب الأميركية، فالاحتلال يرى أن الولايات المتحدة "متفقة" معه على حملته "لتدمير حماس"، وفق تصريح المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية، إيلون ليفي، الثلاثاء الماضي.
على الرغم من ذلك، فإن واشنطن تصرّ على أنها تضغط على تل أبيب لحماية المدنيين. وقال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي، يوم الثلاثاء الماضي، إن رسالة الإدارة الأميركية واضحة ومتسقة، مضيفاً: "لدى إسرائيل الحق والمسؤولية لملاحقة حماس، وعليها أيضاً مسؤولية حماية المدنيين الأبرياء الذين يواصل هؤلاء الإرهابيون تعريضهم للخطر. لا يوجد شيء جديد هنا، ولا أحد يبتعد عن هذا المبدأ".
كيربي: لدى إسرائيل الحق والمسؤولية لملاحقة حماس، وعليها أيضاً مسؤولية حماية المدنيين الأبرياء
ونقلت وكالة "رويترز" عن مسؤول أميركي كبير لم تسمه، قوله "نعتقد أن ما نفعله يحركهم"، متحدثاً عن "تحوّل" موقف نتنياهو من رفض السماح بدخول المساعدات إلى غزة إلى السماح بدخول نحو 200 شاحنة مساعدات يومياً. وأضاف المسؤول أن هذا التحسن جاء نتيجة لدبلوماسية مكثفة وليس تهديدات.
كما تحدث مسؤول أميركي آخر لـ"رويترز" عن أن إسرائيل أصبحت أكثر تروّياً في تحديد المناطق التي يجب على المدنيين تجنّبها في غزة، معتبراً ذلك علامة على أن الضغوط الأميركية تؤتي ثمارها. وأضاف أن واشنطن تريد من إسرائيل أن تكون أكثر دقة في توجيه الضربات في جنوب غزة، ولكن من السابق لأوانه قول ما إذا كانت إسرائيل قد أخذت هذه النصيحة في الاعتبار.
من جهته، يواصل بلينكن "التشديد على ضرورة أن تعمل كل الأطراف على تجنب توسع النزاع"، وهو ما جدده خلال اتصال مع نظيره الصيني وانغ يي أمس الأربعاء. بدورها، أكدت بكين أن الوزير الصيني شدد على أن "الأولوية المطلقة هي وقف إطلاق النار ووضع حد للحرب في أقرب وقت ممكن".
كما تحاول واشنطن إبراز تقديمها مساعدات إنسانية لغزة، وآخرها التعهد بتقديم 21 مليون دولار إضافية كمساعدات إنسانية للقطاع من أجل إنشاء مستشفى ميداني. وأعلنت سامانثا باور، التي تترأس الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، عن هذه المساعدات، يوم الثلاثاء الماضي، خلال زيارة إلى مدينة العريش المصرية. وأكدت أن الولايات المتحدة ملتزمة بتعزيز المساعدات، وحماية المدنيين. وقالت "يجب تنفيذ العمليات العسكرية بطريقة تميز بين المقاتلين والمدنيين".
لكن هذه الادعاءات تدحضها الوقائع على الأرض، فـ"جميع المؤشرات والتقارير تشير إلى استمرار نفس نمط إسقاط القنابل الثقيلة، واستخدام المدفعية في مناطق مكتظة بالسكان" في غزة، منذ استئناف الهجوم الإسرائيلي على القطاع يوم الجمعة الماضي، وفق مدير منظمة "هيومن رايتس ووتش" في إسرائيل وفلسطين، عمر شاكر.
دعم بالسلاح لا يتزعزع
ويبدو أن الحكومة الإسرائيلية غير متأثرة بالمطالبات الدولية بتغيير استراتيجيتها، خصوصاً أن الدعم الأميركي بالسلاح لإسرائيل لا يتزعزع. ونقلت وكالة "رويترز" عن مسؤولين أميركيين أن واشنطن تستبعد في الوقت الحالي حجب تسليم الأسلحة أو انتقاد إسرائيل بشدة كوسيلة لتغيير أساليبها، لأن الولايات المتحدة تعتقد أن الاستراتيجية الحالية للتفاوض بشكل غير معلن فعالة. وقال أحد المسؤولين إن خفض الدعم العسكري لإسرائيل ينطوي على مخاطر كبيرة. وتابع "تبدأ في تقليل المساعدات المقدمة لإسرائيل، فتبدأ في تشجيع الأطراف الأخرى على الدخول في الصراع، تُضعف تأثير الردع وتشجع أعداء إسرائيل الآخرين".
وتمنح الولايات المتحدة إسرائيل مساعدات عسكرية بقيمة 3.8 مليارات دولار سنوياً، تشمل طائرات مقاتلة وقنابل قوية. كما طلبت إدارة بايدن من الكونغرس الموافقة على مبلغ إضافي قدره 14 مليار دولار. ونقلت "رويترز" عن مصدر أمني إسرائيلي كبير قوله إنه لم يطرأ أي تغير حتى الآن على الدعم الأميركي لإسرائيل، قائلاً "في الوقت الحالي هناك تفاهم وهناك تنسيق مستمر". وأضاف "إذا غيّرت الولايات المتحدة مسارها، فسيتعين على إسرائيل تسريع عملياتها وإنهاء الأمور بسرعة".
مصدر أمني إسرائيلي: لم يطرأ أي تغير حتى الآن على الدعم الأميركي لإسرائيل
وقال مدير المناصرة في مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط، سيث بيندر، لوكالة "رويترز"، إن مثل هذا الدعم يمنح واشنطن "نفوذاً كبيراً" على كيفية إدارة الحرب في غزة. وأضاف بيندر "حجب أنواع معينة من العتاد أو تأخير إعادة ملء مخزونات الأسلحة المختلفة من شأنه أن يجبر الحكومة الإسرائيلية على تعديل الاستراتيجيات والأساليب، لأنه لن يصبح مضموناً بالنسبة لها الحصول على المزيد".
وتابع "حتى الآن، أظهرت الإدارة عدم رغبتها في استخدام هذا النفوذ". وبحسب مراقبين، فإن الانتخابات الرئاسية الأميركية المقررة خريف العام 2024، تضغط على بايدن، وأي محاولة لخفض المساعدات يمكن أن تضر بالرئيس الديمقراطي من حيث الناخبين المستقلين المؤيدين لإسرائيل بينما يسعى لإعادة انتخابه.
ويواجه بايدن في المقابل ضغوطاً من فصيل من الديمقراطيين التقدميين الذين يريدون أن تضع واشنطن شروطاً لتقديم المساعدات العسكرية لإسرائيل، وأن يدعم الرئيس الدعوات إلى وقف فوري لإطلاق النار. ويتبنّى بايدن الرواية الإسرائيلية بشكل كامل، وأعاد أمس الأول الثلاثاء الحديث عن أن مسلحي "حماس" تناوبوا على اغتصاب نساء ومثّلوا بجثثهن خلال هجومهم على مستوطنات "غلاف غزة" في 7 أكتوبر.
وخلال حفل لجمع تبرعات لأغراض سياسية في بوسطن، قال بايدن إنه تم خلال الأسابيع القليلة الماضية تداول روايات تحمل قدراً من "القسوة التي لا يمكن تصورها... تقارير عن اغتصاب نساء مراراً وتشويه أجسادهن وهن على قيد الحياة والتمثيل بجثثهن، وإلحاق إرهابيي حماس أكبر قدر ممكن من الألم والمعاناة بنساء وفتيات ثم قتلهن. إنه أمر مروع". كما حمّل بايدن "حماس" مسؤولية انهيار الهدنة مع إسرائيل الأسبوع الماضي، قائلاً "رفض الحركة المسلحة إطلاق سراح الشابات المتبقيات هو ما خرق هذا الاتفاق".
وردت "حماس" في بيان عبر قناتها على "تليغرام"، مستنكرة "تبنّي الرئيس الأميركي مزاعم صهيونية تحاول اتهام مقاومينا الأبطال زوراً" بارتكاب أعمال عنف جنسي واغتصاب في 7 أكتوبر. وأضافت "تكرار هذا الكذب المفضوح سلوك صهيوني يهدف للتغطية على جريمة حرب الإبادة والتطهير العرقي الذي يمارسه جيش الاحتلال" بدعم أميركي، وهو محاولة لتضليل الرأي العام.
هل يُستنزف الدعم الأميركي لإسرائيل؟
وفي حين تواصل إدارة بايدن، بعد شهرين من بدء الحرب على غزة، دعم ما تقول إنه "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، فإن تساؤلات بدأت تكبر حول متى سيتم استنزاف هذا الدعم، وتجد واشنطن نفسها في واقع مختلف. وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، فإن الإدارة الأميركية تتبنى دبلوماسية الشرطي الصالح والشرطي السيئ، حيث يترك بايدن للآخرين اتخاذ موقف أكثر تشدداً تجاه تل أبيب.
ويتسن: الإسرائيليون لن يهتموا في نهاية المطاف إلا بما تفعله إدارة بايدن بالفعل، وليس لما تقوله
وقال المبعوث الأميركي السابق للشرق الأوسط مارتن إنديك، لـ"نيويورك تايمز": "يريد الرئيس تجنّب انتقاد نتنياهو علناً إلى أقصى حد ممكن. ومع ذلك، فإن حديث نائبة الرئيس كامالا هاريس بوضوح يدل على انفصال عن سياسة بايدن". وتابع: "أرى أنها حملة عامة تمت معايرتها بعناية شديدة، أصبحت ضرورية بسبب قلقهم (الأميركيين) من عدم وصول الرسالة على انفراد".
أما سارة ليا ويتسن، المديرة التنفيذية لمنظمة "الديمقراطية للعالم العربي الآن"، فرأت أن "إدارة بايدن تريد الاستجابة للمطالبة العامة المتزايدة بكبح جماح الفظائع الإسرائيلية، مع تلبية مطالب المانحين بتقديم دعم عسكري غير مشروط لإسرائيل". لكنها اعتبرت أن "الإسرائيليين لن يهتموا في نهاية المطاف إلا بما تفعله إدارة بايدن بالفعل، وليس لما تقوله".
لكن رئيس مجموعة أوراسيا البحثية، كليف كوبشان، رأى أن "مدة صلاحية السياسة الأميركية الحالية تتراوح بين أربعة وستة أسابيع"، معتبراً في تصريح لـ"نيويورك تايمز"، أنه "إذا استمرت هذه الحرب في يناير/كانون الثاني المقبل، فمن المحتمل أن تؤدي المعارضة داخل الحزب الديمقراطي والضغوط الدولية القوية إلى قيام بايدن بالضغط على إسرائيل لتقليص العمليات العسكرية".