"الدرع والسهم".. عدوان إسرائيلي جديد على غزة بمكيدة 4 حروب سابقة

09 مايو 2023
صبيحة الغارات الإسرائيلية في غزة (Getty)
+ الخط -

عادت إسرائيل مجدّدًا إلى أكثر ما تجيده حينما يتعلّق الأمر بغزة، وبالساحة الفلسطينية عمومًا: استضعافها إلى حدّ نكث العهود، والاستخفاف بالوسطاء، وتفريغ عقدة قوتها/ضعفها فيها، والاستعراض على ركام مأساتها أمام مستوطنيها المشبعين كراهية وتعطّشاً للدماء- كما ظهر، مثلًا، في تصريحات رئيس بلدية مستوطنة "سديروت"، قبل نحو أسبوع، حينما دعا إلى سحق غزة، مستهزئًا بجريمة إعدام خضر عدنان جوعًا، قائلًا إنه هو "من قتل نفسه"- ثمّ بعد ذلك كله، عدم الاكتراث بالعواقب.  

بدأت إسرائيل حربها السابعة هذه بالطريقة ذاتها التي بدأت فيها أولى حروبها قبل نحو 14 عامًا؛ حينما كانت هدنة الستة شهور التي اتفق عليها آنفًا بوساطة مصريّة قد انتهت للتو، زمنيًّا من ناحية، وبفعل الخروقات الإسرائيلية المتكررة من ناحية أخرى. أطلقت المقاومة صواريخها مع اليوم الأول لانتهاء الهدنة، بعدما أخلّ الاحتلال بالتزام آخر كان قدمه للوسيط المصري قبل 6 شهور؛ وهو رفع الحصار عن غزة. في الأسبوع اللاحق، ومع المطالب الإنسانية التي رفعها الفلسطينيون تحت وابل الصواريخ، بحياة طبيعية كريمة، فتحت إسرائيل المعابر وأدخلت كميات كبيرة من الغاز إلى القطاع، بالإضافة إلى أكثر من 100 شاحنة إغاثة. كان ذلك يوم الخميس الموافق 25 ديسمبر/كانون الأول 2008. ثم في ظهيرة الجمعة، صرّح مكتب رئيس الوزراء في حينها، إيهود أولمرت، للصحافيين، بأن الحكومة ستناقش آلية الرد في غزة مطلع الأسبوع اللاحق، بعد انتهاء عطلة السبت- المقدّسة في إسرائيل. لكن صبيحة اليوم التالي، بدأت إسرائيل عدوان "الرصاص المصبوب" بغارات مكثفة على المقرات الأمنية في القطاع، المدنية منها والعسكرية، لينطوي النهار بأكبر حصيلة من الشهداء في يوم واحد منذ النكبة: 200 شهيد، نصفهم من رجال الأمن، في ما اصطلح على تسميتها فلسطينيًّا بـ"مجزرة السبت الأسود".

3 سنوات وحسب بعد تلك الحرب التي راح ضحيتها نحو 1300 فلسطيني في غضون 22 يومًا فقط، تغيّرت أركان الحكم في إسرائيل، التي دخلت في عشرية بنيامين نتنياهو الأولى، وكذلك في مصر، مع أوّل حكومة منتخبة بعد الثورة؛ وظلّت إسرائيل على عهدها في نكث العهود والاستخفاف بالوساطات. فبعد يومين من تيسير المخابرات المصريّة اتفاقًا لوقف النار إثر تصعيد محدود على غلاف غزة، أقدمت إسرائيل على اغتيال نائب القائد العام لكتائب القسام، ورجلها الأول في الميدان، أحمد الجعبري، بينما كان يتحرّك لتأمين الهدنة، كما كشف عضو المكتب السياسي لحركة "حماس"، موسى أبو مرزوق، في تصريحات لاحقة. ثلاثة أيّام بعد اندلاع حرب "عمود السحاب"- يضيف أبو مرزوق- عادت حكومة نتنياهو لتطلب من الوسيط المصري التهدئة.

الحيلة ذاتها كرّرتها إسرائيل بالحذافير، إلى حد بعيد، حينما اغتالت قائد "سرايا القدس"، الذراع العسكرية لـ"الجهاد الإسلامي"، في قطاع غزة، بهاء أبو العطا، عام 2019. جاء الاغتيال غادرًا كما في السابق، سوى أنه وقع بلا مقدّمات تذكر هذه المرّة، ووسط فترة من الهدوء النسبي على الحدود الجنوبية؛ ليستشهد أبو العطا بينما كان مستأمنًا منزله برفقة زوجته، ويصاب طفلاه بجراح خطرة. لم تدم جولة القتال التي اندلعت إثر ذلك، وأطلقت عليها "سرايا القدس" اسم "صيحة الفجر"، سوى أيام معدودة، بعدما سارعت مصر لفرض وساطتها التي بدا أن إسرائيل كانت منفتحة إزاءها منذ اللحظة الأولى.

بعد ذلك بنحو ثلاثة أعوام، خاضت "سرايا القدس" جولة ثانية من القتال وحيدة، أسمتها "وحدة الساحات". بدأ الأمر باعتقال قوات إسرائيلية خاصة القيادي في "الجهاد الإسلامي" بسام السعدي خلال مداهمة في جنين، لتردّ الحركة في غزة ملوّحة بالحرب. وفي خضمّ محادثات التهدئة التي كانت تتصدّرها، كما جرت العادة، مصر، اغتالت إسرائيل قائد القطاع الشمالي في "سرايا القدس"، تيسير الجعبري. وبحسب ما اتضح لاحقًا، وتحديدًا في حديث رئيس الدائرة السياسية في حركة "الجهاد الإسلامي" محمد الهندي، لـ"العربي الجديد"، فقد اقترفت إسرائيل جريمتها بعدما أبدى مفاوضو الحركة، أخيرًا، انفتاحًا على مساعي التهدئة، وبعد نحو ساعة من جواب الوسيط المصري بأن "الأمر انتهى". استطاعت "سرايا القدس"، في حينها، أن تدير 66 ساعة من القتال بمفردها، أظهرت خلالها تماسكًا وقدرة عملياتيّة عالية، تجسّدت في إطلاق نحو 1000 صاروخ صوب الأراضي المحتلة؛ رغم اغتيال "كافة قادة الصف الأول" في جهازها العسكري، وفق المزاعم الإسرائيلية، ورغم استنكاف "حماس" عن الدخول في المواجهة. انتهى كل ذلك إلى اتفاق آخر لوقف إطلاق النار، تعهد فيه الوسيط المصري بمتابعة أمر إطلاق سراح القيادي بسام السعدي "في أسرع وقت"؛ وهو ما لم يتم حتى اللحظة.

ما حدث صبيحة اليوم، مع إقدام إسرائيل على اغتيال قيادات "سرايا القدس" الثلاث، جهاد الغنام وخليل البهتيني وطارق عز الدين، في مأمنهم، وبصحبة زوجاتهم وأبنائهم، هو صورة مكررة عما كان يحدث منذ "الرصاص المصبوب" حتى "الفجر الصادق". على امتداد نهار الثلاثاء الماضي، بعد إطلاق المقاومة في غزة أكثر من 20 صاروخًا دفعة واحدة انتقامًا للشهيد خضر عدنان، كان جلّ وسائل الإعلام العبرية يتناقل عن "مصدر أمني رفيع"، واحد تقريبًا، أن إسرائيل "غير معنية بالتصعيد" في هذه المرحلة، مع طمأنة الجمهور في مستوطنات الغلاف بالعودة للحياة الطبيعية، والمدراس بالدوام كالمعتاد. ردّت طائرات الاحتلال لاحقًا في الليل بضربات على تُسمّى في الإعلام العبري بـ"الرمال الخالية"، ثم انفضّ القتال باتفاق هدنة جديد. وخلال الأسبوع، أطلق نتنياهو نفسه إشارات إلى انفراجة في ملف الجنود الأسرى لدى المقاومة في غزة، ما أعطى انطباعًا بأن أحاديث التهدئة التي تصدّرتها مصر طوت ملف القتال، وانتقلت إلى ملفات أكثر تقدّمًا، كانت لا تزال عالقة منذ سنوات. في الوقت ذاته، تكرر الحديث في الصحف الإسرائيلية عن احتدام الخلاف بين نتنياهو ووزيره المتطرف، إيتمار بن غفير، بسبب احتجاج الأخير على الطريقة التي ردّ فيها الجيش في غزّة.

لكن فجر الثلاثاء اللاحق، وفي وقت قريب من الساعات التي لفظ فيها الشهيد خضر عدنان أنفاسه الأخيرة بعد 86 يومًا من الإضراب، قررت إسرائيل بدء عنوانها، واتخذت له اسمًا من الدقائق الأولى، كما فعلت في سائر حروبها الكبرى، وأبلغت مستوطنيها في الجنوب بالتزام الملاجئ، ومدارسهم بوقف الدراسة، ثمّ كان أوّل المعلّقين، في اللحظات الأولى من تلك الساعة المتأخرة، بن غفير نفسه، الذي كتب على حسابه في "تويتر": "حان الوقت".

جاء الردّ أيضًا بعد يوم واحد من إعلان دولة الاحتلال عن تدريبات في الشمال، وهو ما يشي بتوجّس إسرائيلي من امتداد نطاق المواجهة، رغم أن ما حدث في رمضان الماضي، حينما اختارت إسرائيل الرد في غزة بعدما استقبلت أكبر رشقة صواريخ من لبنان بعد حرب تموز، متجاهلة بصمات "حزب الله" في الحدث، يؤشّر إلى أن إسرائيل حريصة على تجنّب سيناريو من هذا القبيل. وقتذاك، كانت الرواية التي رددها الإعلام الإسرائيلي- الذي يدار من قبل الرقيب العسكري في أوقات الحروب- أن استراتيجية غزّة هي إبعاد القتال عن ساحتها، ودفعها نحو الضفة والإقليم، ثم "لننعم نحن بالهدوء بعد عقد من الحروب". بهذه الذرائعية ضرب الاحتلال غزّة في الليلة ذاتها "ليرد الحرب إليها". لكنّ في الشق الآخر من الرواية نزوعًا نحو اختيار الخصوم الأكثر ضعفًا، أو اختيار لحظات ضعفهم، عبر المكائد والاغتيالات، ثمّ الخروج بلا استحقاقات أو تكاليف.

في كل الأحوال، ترسم لنا تلك الومضات الاسترجاعية صورة مكثّفة عن التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي حيال غزة، منذ فشلت ترسانتها الحربية، بكل "رصاصها المصبوب"، في تحقيق الهدف الرئيسي المعلن خلال حربها الأولى عام 2008، وهو القضاء على وجود "حماس" فيها بالكامل: التحلل من العهود والمواثيق، عدم الإقرار بأي موازين ردع، إعادة تدوير كل الصراعات، الداخلية والإقليمية، في ساحتها، اختلاق صورة نصر سهل هناك، ثم البحث عن الوسيط.