منذ بداية العام؛ أخذت الأحداث الميدانية في الضفة الغربية تتسارع تسارعًا كبيرًا جدًا، فقد شن الاحتلال الإسرائيلي سلسلة من الاقتحامات، ونفذ عمليات قتل واغتيال بأعدادٍ كبيرةٍ. في المقابل؛ نفذ شبان فلسطينيون عمليات إطلاق نار وطعن عدة، أوقعت عددًا من القتلى الإسرائيليين، ما خلق شعورًا وأثار المخاوف من حدوث انفجارٍ واسعٍ، خاصةً أنها تأتي في سياق تطورات وتراكمات سابقة.
على ضوء تسارع الأحداث، شهدت المنطقة نشاطًا سياسيًا دوليًا وعربيًا غير مسبوقٍ. فقد زار كل من وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ورئيس وكالة الاستخبارات المركزية إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وترك بلينكن وراءه جزءًا من فريقه الدبلوماسي لأيامٍ عدةٍ، ذلك كله من أجل ما سمي "منع التصعيد" أو "احتواء الأمور" أو "منع الانفجار". أطلقت مصر بدورها؛ بتشجيع أميركي، سلسلةً من الاجتماعات مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي في القاهرة للهدف ذاته.
لم نشهد مثل هذا الاهتمام والنشاط السياسي الأميركي؛ على وجه الخصوص، منذ أكثر من عقد، فبعد الانقسام الفلسطيني عام 2007، تراجع الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية، وبمجريات الأحداث اليومية، ولم نعد نسمع بما كان يسمى "تحريك عملية السلام"، فقد توقف النشاط السياسي الدولي بالكامل، ثم تبلورت بدلًا منه سياسةٌ جديدةٌ تقوم على التدخل في حال تهديد استمرار الترتيبات القائمة فقط، كما حصل في أعقاب معركة سيف القدس في العام 2021.
لم تعد الحالة الفلسطينية الراهنة تحتمل إعادة الإنتاج، فالشارع ضاق بها، ويسعى إلى التخلص منها جذريًا، سواء على صعيد الحالة السياسية الداخلية، أو على الصعيد الوطني
كانت ترتيبات الواقع في أعقاب الانتفاضة الثانية والانقسام الداخلي لصالح إسرائيل بالكامل، فقد شعرت الأخيرة بالسيطرة على الفلسطينيين سيطرةً محكمةً، ترك الانقسام أثره السلبي الكبير على الحياة والروح الفلسطينية، ودخلت الضفة في حالة من السكون والهدوء بعد إقحامها في سياساتٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ جديدةٍ، ويعيش قطاع غزة؛ رغم كل شيء، حصارًا خانقًا، وحالات التصعيد معه تبقى محدودةً ويمكن التحكم بها. استغلت إسرائيل ذلك كله لتنفيذ مزيد من سياسات السيطرة والاستحواذ على الأرض والإنسان، حتى باتت اليوم تتحدث بثقةٍ عن الحسم وضم الضفة الغربية.
ما يعني عدم اكتراث المجتمع الدولي وأميركا؛ وبعض "الوسطاء العرب"، بالقضية الفلسطينية، وبالحياة اليومية التي يعيشها الفلسطيني، طالما لا توجد أحداثٌ دراماتيكيةٌ تُدخل المنطقة برمتها في أزمة، كأن تقع انتفاضةٌ واسعةٌ. تجسد ذلك في تصريح وزير الخارجية بلينكن أثناء زيارته الأخيرة، حين اعتبر حل الدولتين ضرورةً أمنيةً لإسرائيل، فهو لا يرى الحقوق الوطنية الفلسطينية إلا في إطار المصالح الإسرائيلية.
هذه الحقيقة المتعلقة بمحرك التوجهات والسياسات الدولية والأميركية تجاه القضية الفلسطينية بديهية، ليست بحاجة لكثير من النقاش، لكن المهم الآن أن تحكم هذه الحقيقة السلوك الفلسطيني في كيفية تعاطيه مع اجتماعات القاهرة، والطروحات الأميركية، وكل النشاط السياسي والدبلوماسي. ذكرت بعض التقارير الإعلامية؛ أن مصر ستسرع إدخال تسهيلات لسكان قطاع غزة، كما أشارت تقارير أخرى إلى اتفاق مع حركة حماس على إبقاء التصعيد؛ في حال المواجهة، ضمن "ردود الفعل المحدودة"، وهو ما نفته الحركة بدورها.
بغض النظر عن حقيقة التسريبات الإعلامية، يجب إدراك أن كل تحرك دولي وإقليمي اليوم لن يكون إلا في إطار "المعالجة الإنسانية" المرحلية والمؤقتة لمصاعب الفلسطينيين اليومية، ليس لكونها استراتيجيتهم السياسية فقط، بل أيضًا؛ لأن الواقع الميداني لا يسمح بإعادة بلورة خطاب دولي جديد، يقوم على تسويق متاهة "العملية السياسية" مرة أخرى. كل ما يرد اليوم من تصريحات في هذا الإطار هو مجرد دبلوماسية باهتة، فرضها حراك الشارع في الضفة الغربية، وتطور نضاله ومقاومته إلى درجة باتت "تثير القلق" حقًا.
لذلك، يسعى الجهد الدبلوماسي؛ الدولي والإقليمي، اليوم، إلى استبدال "المتاهة السياسية" بمتاهةٍ جديدةٍ، تقوم على منطق "تسهيلات مقابل تهدئة"، وهو المنطق الذي تجاوبت معه السلطة الفلسطينية في بعض المراحل والملفات، خاصةً على صعيد انضمامها إلى بعض المنظمات الدولية، وتوجهها إلى محكمة الجنايات الدولية، وهي المقايضة التي على كل القوى الساعية إلى تغيير الواقع وتحصيل الحقوق الوطنية، تجنبها.
لم نشهد مثل هذا الاهتمام والنشاط السياسي الأميركي؛ على وجه الخصوص، منذ أكثر من عقد، فبعد الانقسام الفلسطيني عام 2007، تراجع الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية
بديهيًا؛ المنطق الدبلوماسي القائم على "المعالجة الإنسانية" ليس في صالح الفلسطيني؛ مهما كانت تفاصيله، فهو شراء للوقت، وإطالة عمر المرحلة الراهنة بكل ما فيها من ميزات لصالح الاحتلال، التي لم يعد الشارع الفلسطيني يحتملها، فهو لا يبحث عن تحسين ظروفه الحياتية تحت الاحتلال، بقدر ما يسعى إلى التحرر منه.
خلق الواقع السياسي الذي تشكل في السنوات الماضية تعقيداتٍ كثيرةٍ، إذ باتت حياة الفلسطيني اليومية مرهونةً بكثير من الإجراءات والسياسات التي تفرض نفسها على التوجهات السياسية الفلسطينية، ليس على السلطة الفلسطينية فقط، بل على قوى المقاومة في غزة أيضًا، حيث اختبر ذلك بطريقةٍ ما خلال العدوان على القطاع في العام 2014، وما زال الاختبار يتكرر بصيغٍ كثيرةٍ، مثل إعادة الإعمار، وتسهيل الحركة، ومجال الصيد البحري، وتصاريح العمال… إلخ. لذلك؛ أي تحرك سياسي فلسطيني اليوم وأي تعاطي مع الدبلوماسية الدولية وفق منطقها السائد، خاصةً في ظل هذه المرحلة التي وصل إليها حراك الشارع الفلسطيني، هما أشبه بالسير على خيطٍ رفيعٍ.
في المقابل، فإن التحولات الميدانية في الضفة الغربية جوهريةٌ جدًا وغير مسبوقةٍ، فقد تحقق الالتقاء بين المقاومتين الشعبية الميدانية والمنظمة، وأصبح هنالك فرص للتواصل والتكامل بين الضفة والقطاع وأراضي 48؛ كما شهدنا عام 2021، رغم ظروف الانقسام والتقسيمة الاستعمارية ذاتها، هناك ازدياد في انخراط وتأييد شرائح مختلفة من المجتمع للحراك العام، فلم تعد المسألة مقتصرة على جيل بعينه. هذا كله؛ يفتح الأفق واسعًا أمام القوى السياسية، ويمدها بخياراتٍ لم تكن متاحةً سابقًا، ويساعدها على التحرر من "أحكام الواقع وضروراته"، لكنه بحاجةٍ إلى تغييرٍ في أدوات وفلسفة الفعل السياسي الفلسطيني نفسه.
لم تعد الحالة الفلسطينية الراهنة تحتمل إعادة الإنتاج، فالشارع ضاق بها، ويسعى إلى التخلص منها جذريًا، سواء على صعيد الحالة السياسية الداخلية، أو على الصعيد الوطني، وهو بكل ما يفعله اليوم يقدم فرصةً سياسيةً يصعب تكرارها في المدى القريب، لذلك فإن القوى السياسية الفلسطينية أمام مسؤوليةٍ كبيرةٍ، تتمثل في كيفية تعاطيها مع المقاربات السياسية الدولية والإقليمية من جهة، وفي كيفية استثمارها لتحولات الشارع الفلسطيني من جهة أخرى. فإما إيجاد السبيل للتحرر من الواقع الراهن، وإما إعادة إنتاجه.