عادت تونس من جديد لتغرق في حرب أخرى مع فيروس كورونا. فعدد الوفيات تضاعف حتى الآن سبع مرات مقارنة بما حصل بالموجة الأولى. لكن أسوأ ما يمكن أن يتعرض له بلد ما أن يخوض الحرب في ظرف تكون قيادته غير موحدة، تشقها تناقضات ذاتية وموضوعية، من شأنها أن تقلب الأولويات وتُهدد الحصون من داخلها.
فالصراع الذي طفا على السطح من جديد بين رأسي السلطة التنفيذية يُنذر بمعارك قادمة، بعضها ستكون علنية وأخرى ستدور في الكواليس وداخل المكاتب المغلقة. فالبيئة السياسية السائدة لا تزال صالحة لتأجيج هذا الصراع الذي تستفيد منه أطراف عديدة، وسيكون الخاسر الرئيسي لهذا التوتر المتصاعد الدولة من جهة والمواطنين من جهة أخرى.
هناك توقع بأن تمتص الصعوبات التي تمر بها البلاد حالياً أزمة العلاقات والتواصل بين سعيد والمشيشي
أصبح معلوماً أن ولاء الوزراء موزع بين رئيسي الجمهورية قيس سعيد والحكومة هشام المشيشي، وذلك وفق الجهة التي قامت بترشيحهم وتعيينهم. وكشف المشيشي أخيراً أن بعض الوزراء يتواصلون مع رئيس الدولة، ويمدونه بتقارير شفهية أو كتابية دون إذن من رئيس الحكومة، أو إطلاعه على فحوى اللقاءات التي يقومون بإجرائها دون علم منه. لهذا السبب قرر المشيشي أنه مع أهمية التعاون مع رئاسة الجمهورية، يجب أن يتم ذلك من خلال المرور إجبارياً برئاسة الحكومة وفق الضوابط والإجراءات.
وكانت كلمة المشيشي المتلفزة أمام الوزراء جواباً منه على الشريط المصور الذي أعدته رئاسة الجمهورية، وتم بثه على القناة الوطنية، والذي انتقد فيه سعيد بشدة رئيس الحكومة بعد أن راجت أخبار عن كونه ينوي تعيين مستشارين له سبق لهم أن عملوا في مناصب متقدمة جداً في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وتم اتهامهم بعد الثورة بسرقة المال العام، ورفعت ضدهم قضايا لم يتم البت فيها حتى الآن رغم مرور 10 سنوات على الثورة. فالشريط الرئاسي كان مؤلماً لرئيس الحكومة الذي وجد نفسه في موقع التلميذ الذي ارتكب خطأ فادحاً، يتلقى تقريعاً قاسياً من معلمه. ولم يشر الشريط إلى تعقيب رئيس الحكومة على التهم التي وجهت له.
الآن وقد بدأت عملية التراشق المباشر والعلني بين رأسي السلطة التنفيذية، يُخشى أن يتواصل ذلك على حساب مؤسسات الدولة ومصالح الشعب. فتونس تتجه نحو احتمال العودة من جديد إلى تطبيق الحجر الصحي الشامل نتيجة الانتشار السريع لفيروس كورونا في صفوف المواطنين، رغم أن المشيشي لا يزال مصراً على رفض اللجوء إلى هذا الخيار خوفاً من احتمال حصول كارثة اجتماعية. كما أن الأوضاع الاقتصادية بلغت درجات عالية من السوء والتراجع، بعد أن تمت إحالة أكثر من 180 ألف عامل على البطالة. وتحتاج تونس إلى تجميع قواها وتوحيد صفوف نخبتها ومواطنيها، وتعميق التنسيق والتكامل بين جميع مؤسساتها، وبالتالي لن تكون قادرة على صراع جديد بين مكونات السلطة التنفيذية.
من الجانب الدستوري يتمتع رئيس الدولة بأدوات عديدة ليُعرقل نشاط الحكومة، إذ من حقه أن يتولى شهرياً الإشراف على اجتماع مجلس الوزراء، وأن يتدخل في التسيير والتوجيه خلال الاجتماع. لكن لا يحق له أن يتصرف مباشرة في جزء كبير من الصلاحيات المحددة دستورياً والمخصصة لرئيس الحكومة الذي لا يمكنه أن يقبل بوضع يكون فيه جزء من الوزراء لا ينضبطون لقراراته، ولا يعتبرونه مرجع نظر بالنسبة إليهم. هذا الانقسام الحاد داخل الحكومة، والذي تقف وراءه رئاسة الجمهورية من شأنه أن يعمق الصراع داخل هياكل الدولة في مثل هذه الظروف الصعبة والمعقدة التي تمر بها الدولة.
العلاقة بين رئاسة الجمهورية والبرلمان بلغت أقصى درجات الضعف حتى تكاد تنقطع نهائياً
هناك توقع بأن تمتص الصعوبات التي تمر بها البلاد حالياً أزمة العلاقات والتواصل بين الرجلين، لأن استمرار النزاع العلني بينهما سيلحق بهما أضراراً فادحة. لكن ما يثير قلق سعيد انفتاح المشيشي المتواصل على الأحزاب التي تعاديها الرئاسة، وترفض التعاون معها في هذه المرحلة، وفي مقدمتها حزب قلب تونس وحركة النهضة إلى جانب حزب ائتلاف الكرامة. وقد نجح هذا الثلاثي في إقامة جبهة برلمانية لدعم حكومة المشيشي والدفاع عن مشاريع القوانين التي ينوي عرضها على البرلمان. لهذا السبب يعتبر سعيد أن رئيس الحكومة الذي اختاره ليكون سنداً له قد انقلب على الاتفاق الذي تم بينهما وأصبح " لعبة بيد خصومه". أما المشيشي فهو يعتبر أن ميزان القوى يحتم عليه أن يكون متعاوناً مع البرلمان، حتى يتمكن من ضمان الحد الأدنى من السند السياسي.
إن فرضية "المؤامرة" التي تتبناها الدوائر المحيطة برئيس الدولة قد هيمنت على الخلفيات والأجواء، وجعلت من إمكانية بناء علاقات مفتوحة وقائمة على الثقة احتمالاً ضعيفاً. وهو ما يفسر الانتقادات المتزايدة الصادرة عن جهات متعددة لسعيد، خصوصاً من أغلب وسائل الإعلام والأحزاب والمثقفين. إذ رغم الشعبية الواسعة التي لا يزال يتمتع بها رئيس الجمهورية، فإن علاقاته بالأطراف الفاعلة في تونس، ومع الرأي العام بقيت ضعيفة، وقائمة على الارتجال والغموض، وهو ما حد من إمكانيات التواصل والتفاعل مع النخب وأبقاها محدودة ومتعثرة. كما أن العلاقة بين رئاسة الجمهورية والبرلمان قد بلغت أقصى درجات الضعف حتى تكاد تنقطع نهائياً. فاليوم الأول لعودة النشاط البرلماني هيمن عليه الصراع والتقاذف بالتهم بين رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي وخصومها، خصوصاً كتلة ائتلاف الكرامة، وهو ما جعل الأغلبية الساحقة من النواب تنسحب من الجلسة مع نهاية اليوم. مشهد بائس لمؤسسة دستورية هامة في ظرف سياسي واقتصادي صعب ومتشعب.