مفاجأتان سارتان أهداهما طلّاب جامعيون أخيراً للشعب اللبناني، الغارق في انهيار اقتصادي واجتماعي تسبب بهما فساد نظامه الطائفي منتهي الصلاحية: فوز العلمانيين في الانتخابات الطلابية في كلّ من الجامعة الأميركية في بيروت وجامعات خاصّة أخرى، ثم فوزهم مجدداً، وبعد أقل من شهر، في انتخابات أهمّ بكثير في الجامعة اليسوعية. وتأتي أهمية هذين الفوزين للقوى الاعتراضية الطُلّابية، من كونهما عكسا فقدان الأحزاب التقليدية لقدرتها الاستقطابية بين الشباب الجامعي، وبالتالي قدرتها على السيطرة على الحياة الطالبية التي كانت تهيمن عليها منذ نهاية الحرب الأهلية.
فقد فازت لوائح الطلّاب المستقلين والعلمانيين بمعظم مقاعد الهيئات الطلّابية في تلك الجامعات (وجميعها من القطاع الخاص)، في وجه لوائح طلّاب أحزاب السلطة، التي يبدو أنها خسرت ثقة هذه الفئة لدرجة أنها فضّلت الانسحاب من انتخابات الجامعة الأميركية، تخوفاً من المزاج الاعتراضي الذي عبّر عن نفسه بقوة.
ولقد انقسم الفوز بين العلمانيين الذين حازوا حصّة الأسد، خاصة في الجامعتين الأهم في لبنان، وبين الطلاب المستقلين الذين حازوا حصّةً أقل، وإن كانت ممتازة، ربما لسماحهم بترشح حزبيين بينهم، تحت راية الاستقلالية في بعض الكلّيات. أما الأحزاب التقليدية، إن كانت من فريقي 8 أو 14 آذار، فهي لم تخسر تماماً، وإن شهدت تضاؤلاً مذهلاً في حصتها التمثيلية.
عكس فوز القوى الاعتراضية الطلابية فقدان الأحزاب التقليدية لقدرتها الاستقطابية بين الشباب الجامعي
هكذا، باتت أغلبية المقاعد التمثيلية للطلاب، من نصيب الاتجاهات الشبابية الاعتراضية الجديدة، مثل "لائحة التغيير يبدأ من الجامعة" والطلاب المستقلين، واللاعب الأهم كما بينت تلك الانتخابات، أي "النادي العلماني".
ولا شك أن للأزمة التي تعصف بالبلاد بوجهيها الاقتصادي والسياسي، دوراً كبيراً في المزاج الطلّابي الاعتراضي، خاصة بعد انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، التي أعطته زخماً إضافياً. ثم جاء الانفجار المريع لمرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/آب الماضي، ليضيف إلى ذلك الزخم غضباً ومرارة، فاقمتهما أزمة اقتصادية أفقدت العملة الوطنية قيمتها أمام الدولار، وهدّدت مستقبل أولئك الطلاب الدراسي والمهني. وكان لقرارات من نوع رفع قيمة الأقساط أو دولرتها، دور كبير في تحفيز الطلاب للاشتراك بفاعلية في الانتخابات الطلّابية.
تقول ميرنا قاسم، الطالبة في الجامعة الأميركية، والفائزة عن لائحة "التغيير يبدأ من الجامعة"، عن معنى الفوز بانتخابات الجامعة الأميركية في بيروت: "لقد فهمنا أن الشارع وحده لا يكفي للتغيير الحقيقي، كان لا بدّ من تضافر الجهود لتفعيل العمل النقابي والطلّابي. والفوز الكبير الذي حققته اللوائح المستقلّة على الأحزاب التقليدية في الجامعة الأميركية هو الخطوة الأولى، وهو برهان على إنجازات ملموسة للانتفاضة في تغيير عقليّة فئة كبيرة من الطلاب وحاجتهم لبديل". وتضيف "أما على مستوى الجامعة، فإن هذا الفوز أعطى للمرة الأولى الأكثرية لهذه اللوائح التغييرية في المجلس الطلّابي، الأمر الذي يضعنا في موقع سلطة وضغط لحلّ الكثير من القضايا العالقة منذ سنوات، حين كان المجلس الطلابي محتكراً من الأحزاب". وما هي هذه القضايا؟ تقول ميرنا: "التراجع عن قرار دولرة الأقساط أولاً، ثم المطالبة بالشفافية المالية من قبل الإدارة".
حالة "النادي العلماني"
أما البطل الجديد الذي يصعد نجمه بين طلّاب الجامعات، فهو يحمل اسم "النادي العلماني"، وهو نادٍ أسسّه طلاب يساريون مناهضون للنظام الطائفي الذي أحكم قبضته على خناق اللبنانيين لدرجة خنقهم حرفياً. لم يكن "النادي العلماني" الحركة الأولى المناهضة للطائفية بين الشباب في لبنان ما بعد الحرب الأهلية، لكن تمركزه في الجامعات وعمله الدؤوب منذ تأسيسه في العام 2008، جعله الأقرب إلى طموحات شباب لبناني وافد إلى ساحة الشأن العام من بوابة انتفاضة 17 تشرين، خصوصاً أنه كان حالة تنظيمية جاهزة استطاعت أن تضع برنامجاً ورؤية واضحة مارستها بإخلاص خلال سنوات بين الطلاب، فكسبت ثقتهم.
وإذا كانت انتخابات طلاب "الأميركية"، قد دقت جرس التغيير بفوز غير مسبوق في تاريخ هذه الجامعة العلمانية، فإن انتخابات طلّاب الجامعة اليسوعية أو جامعة القديس يوسف، كانت منتظرة بشوق أكبر، كون الفوز فيها، هي التابعة لمؤسسة دينية هي الرهبنة اليسوعية الكاثوليكية، التي لها موقف سياسي وأيديولوجي، كان أصعب بكثير. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لأنها إحدى الجامعات المفضلة لأبناء الطبقة السياسية كما يقول شربل شعيا، طالب الحقوق سنة ثالثة، ورئيس "النادي العلماني" في الجامعة اليسوعية. ويضيف "نحن جامعة تتبع لمؤسسة دينية، صحيح أننا قد نجد فيها شخصيات روحية تقدمية أو منفتحة، ولكن هناك إدارة لها تاريخ محدد لا تستطيع الانقلاب عليه. هذا كان التحدي الأساسي لنا كعلمانيين. فتاريخ اليسوعية مختلف جداً عن تاريخ الجامعة الأميركية. فهذه الأخيرة لها تاريخ يساري تقدمي جداً، أما تاريخ اليسوعية فهو تاريخ محافظ".
ويقول شعيا إن "كلية الحقوق حيث أدرس، هي من أكثر الكليات محافظة وأهمية، وفيها نخبة المجتمع البورجوازي اللبناني من أبناء سياسيين أو قضاة أو أثرياء أو رجال أعمال (حيث إنه لا كلية حقوق في الجامعة الأميركية)". ويضيف "كان التغيير صعباً للغاية في هذه الكلية تحديداً. فرموز النظام والمستفيدون منه يرسلون أبناءهم إلى هنا، ثم يتخرجون منها لينخرطوا في مهام تؤمن استمرار هذا النظام. صحيح أن بين خرّيجيها الكثير من التقدميين، ولا ننسى أن بعض طلّابها، كانوا هم رواد الحركة الطلّابية في لبنان منذ الخمسينيات، ومنها الطالب الشيوعي فرج الله حنين، الشهيد الأول للحركة الطلابية في لبنان (خلال تظاهرة الثاني من فبراير/شباط 1951 من أجل إنشاء جامعة وطنية، والتي رفعت شعار "لا استقلال حقيقياً من دون تعليم وطني جامعي")، ولكنها في الوقت نفسه قلعة حزب وزعيم معين". نسأله من يقصد؟ فيجيب "بشير الجميل طبعاً". وبشير الجميل هو مؤسس حزب "القوات اللبنانية" الشهيرة بمسؤوليتها عن مجازر صبرا وشاتيلا. انتخب رئيساً للجمهورية في ظلّ دبابات الاجتياح الإسرائيلي العام 1982 عندما اجتاحت لبنان ووصلت إلى العاصمة بيروت، وقد اغتيل قبيل تسلمه منصبه.
صعد نجم "النادي العلماني" بين طلّاب الجامعات، الذي أسّسه طلاب يساريون مناهضون للنظام الطائفي
لم تكن انتخابات الجامعة اليسوعية التي اختارت الإدارة أن يكون تصويت الطلاب فيها حضورياً وليس إلكترونياً عبر الإنترنت كما حصل في الجامعة الأميركية، سهلة على الإطلاق. ولقد شهد اليومان الأولان اشتباكات تطورت إلى الضرب بين طلّاب "القوات اللبنانية" وطلاب "حزب الله". فضلاً عن حملات التضليل والتجييش الطائفي التي أطلقها طلّاب "القوات اللبنانية"، خصوصاً في وجه الطلاب العلمانيين، وساندتهم فيها قنوات إذاعية وتلفزيونية تابعة لـ"القوات"، أو متعاطفة معهم كقناة الـ"مرّ تي في"، إضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي. إلا أن كلّ هذه الحيل لشدّ العصب الطائفي لم تنفع، لا بل يمكن القول إنها كانت سبباً إضافياً لابتعاد بعض الطلّاب عن لوائح "القوات"، ما انعكس فشلهم في ترؤس الهيئات الطلابية، وإن كسبوا بعض المقاعد.
"نحن من ضغطنا لتكون هناك انتخابات في اليسوعية، فالإدارة كانت تريد التأجيل أو الإلغاء"، يقول شربل شعيا. نسأله: لم ذلك؟ أهو على ضوء نتائج الأميركية؟ أم تخوفاً من المزاج الذي أرسته انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول؟ يقول الشاب: "من هذا وذاك. بالنسبة للإدارة، فوزنا كنادي علماني برئاسة الهيئات الطلّابية يعتبر كارثة. فنحن نحيي الدور النقابي في الجامعات، وهذا يخيف الإدارة كثيراً. وطبعاً كان لانتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول تأثير كبير. بيننا كثيرون شاركوا فيها وبرزوا في الميدان وفي الإعلام، وبالتالي أصبحوا مؤثرين، خصوصاً في الجامعة وبين الطلّاب". ثم يضيف: "صحيح أنهم قبلوا بإجراء الانتخابات، لكنهم صعّبوها علينا، حيث اشترطوا، على الرغم من انتشار وباء كوفيد 19، التصويت حضورياً. ربما أملوا ألا يشارك عدد كبير من المستقلين في التصويت. وكلية الحقوق خصوصاً، والتي ترشحنا فيها للمرة الأولى، لها أهمية كبيرة كونها تجسد النظام اللبناني". لكن، أليس هذا حال كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية مثلاً، والتي تسيطر عليها "حركة أمل" الشيعية التي يترأسها رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري؟ يجيب "صحيح، لكن اليسوعية هي معقل لفكر محدد، فماذا يعني أن تدخلي الكلية فتجدي صورة بشير الجميل؟ ليس هذا فقط، تدخلين مكتبتها فتجدين درجاته خلال دراسته فيها معلقة أيضاً!". نسأله بابتسامة: هل كان نجيباً لهذه الدرجة؟ فيجيب مبتسماً "يعني.. حصل على 4 (من 20) في مادة القانون المدني، لكنه حصل على 16 بالقانون الدستوري".
وماذا بعد؟
حسناً، ماذا يقال بعد الفوز؟ هل يكفي هذا الفوز في جامعات خاصة تحضن أبناء الطبقة المتوسطة والثرّية؟ وكيف يمكن تحويل هذه الحالة الاعتراضية إلى حالة عامة بين طلّاب لبنان، خصوصاً في الجامعة الوطنية اللبنانية التي تضم العدد الأكبر منهم، فضلاً عن كونها تاريخياً معقل الحركة الطلّابية، وحالياً الأكثر معاناة من سيطرة أحزاب السلطة في آن؟
لا يستبعد محمد جودي (مستقلون)، الذي فاز بانتخابات جامعة الحريري، التابعة كما يشير اسمها إلى رئيس الحكومة المكلف وتيار "المستقبل" سعد الحريري. يقول جودي "أبداً، فكرة إنشاء إطار تنظيمي مع المستقلين في باقي الجامعات، بهدف توحيد الرؤية والاتفاق على برنامج موحّد يخدم الثورة الطلابية".
هذا ما تؤكده ميرنا قاسم (مستقلون - أميركية)، لافتة إلى أن "هدف لائحة "التغيير يبدأ من هنا" يتخطى حدود الجامعة. لذلك بدأنا العمل على بناء شبكة طلابية بين مختلف اللوائح المستقلة عن السلطة في مختلف جامعات لبنان. من خلال هذا التواصل، سنتمكن من تحضير جيل الشباب للانتخابات النيابية المقبلة، وتوعيتهم على أهمية دورهم في المرحلة المقبلة".
يطمح طلاب في الجامعات الخاصة إلى التشبيك مع الجامعة اللبنانية حول أهداف محددة
أما شربل شعيا، فيبدو أكثر دقة في تحديد رؤياه: "أولا نسعى لتثبيت الفوز الذي حققناه". حسناً. وكيف ذلك؟ يجيب "استقطبنا الكثيرين في هذه الفترة. فيجب أن ننظم هؤلاء داخل إطار تنظيمي هو النادي العلماني، بمعنى علينا أن نتعاون ونعمل معاً كل السنة، وليس فقط خلال الانتخابات. ثانياً ننوي التشبيك مع النوادي المستقلة، ولدينا حالياً تشبيك مع المستقلين في الجامعة الأميركية، وفي الجامعة اللبنانية الأميركية، وتوسيع ذلك إلى الجامعة اللبنانية (الوطنية). ولا أنكر أن هناك خللاً بيننا وبين طلاب الجامعة اللبنانية يعطل هذا التواصل". وبم يصف هذا الخلل؟ يجيب الشاب "بصراحة؟ خلل طبقي. فطلاب الجامعة الوطنية كادحون، يعملون ويدرسون ويعملون في السياسة في الوقت ذاته. ليست لدينا مساحات تلاق مجانية في المدينة، وقد يكون المجيء إلى مقهى من أجل لقاء مكلفاً لهم. وربما يشعرون بدونية أمام الطلاب المرتاحين مادياً، وعلينا تصحيح هذا المسار".
يفرك شربل عينيه المتعبتين من سهرة الانتخابات، ثم يضيف "عندنا طموح للتشبيك مع الجامعة اللبنانية حول أهداف محددة كالحقّ في التعليم. فهذا الحق مهدد. وحتى نحن، وكطلّاب جامعة خاصة، قد لا نستطيع الاستمرار في دفع الأقساط للجامعة إذا ما ارتأت الإدارة دولرته، أي الدفع بالليرة على سعر صرف الدولار في السوق. كما أن هناك الكثير من طلّاب الجامعات الخاصة لم يعودوا قادرين على دفع الأقساط، وفي الوقت ذاته لا تستطيع الجامعة اللبنانية الوطنية (المجانية تقريباً) استيعابهم كلّهم. وحتى أن هناك طلابا في الجامعة الوطنية لم يعد باستطاعتهم متابعة دراستهم بسبب كلفة الكتب والدراسة والسكن إلخ. أي أننا بحاجة لدمج نضالي بيننا كطلّاب في مختلف الجامعات حول أهداف مشتركة في وضع اقتصادي ضاغط. وقد يساعد هذا على إحياء النضالات النقابية بما يتجاوز الطلّاب ويشكل استمرارية لانتفاضة 17 أكتوبر. هذا هو ما نطمح إليه، وأتصور أن هذا ما حدث في ثورة طلاب فرنسا مايو/أيار 1968". نمازحه بالقول "طبعاً إن لم تهاجر بعد تخرجك". فيجيب بثقة مبتسماً ابتسامة عريضة "باق هنا. أنا باق".
يُنشر بالتزامن مع "أوريان 21"
https://orientxxi.info/ar