الحركة الطلابية المصرية… صوت كتمه القمع على مدى عقود

29 ابريل 2024
تظاهرة لطلاب جامعة الإسكندرية، أكتوبر 2023 (حازم جودة/فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- في السبعينيات، أطلق الشيخ إمام أغنية "يا مصر قومي" لتحفيز الحركة الطلابية والعمالية المصرية على النضال والواجب الوطني، لكن الاستجابة لهذه الدعوات تراجعت في الجامعات المصرية الحالية مقارنةً بنظيراتها الأمريكية.
- الحركة الطلابية المصرية، التي كانت نشطة في الدفاع عن القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا بعد هزيمة 1967، بدأت تفقد زخمها تدريجيًا بعد ثورة يناير 2011، مع استمرار بعض الفعاليات الداعمة لفلسطين.
- تراجع نشاط الحركة الطلابية يعود لأسباب عدة منها القمع الأمني والسيطرة داخل الجامعات، وتحويل الأنشطة السياسية إلى ترفيهية، لكن القيادات الطلابية السابقة تؤكد أن القضية الفلسطينية لا تزال محور اهتمام الطلاب.

"يا مصر عودي زي زمان... ندهة من الجامعة وحلوان"... هكذا غنّى الشيخ إمام في سبعينيات القرن الماضي، قصيدة شاعر العامية المصري، نجيب شهاب الدين، "يا مصر قومي"، في ما يشبه الصيحة في الشارع المصري، مذكراً الحركة الطلابية المصرية والعمال بضرورة القيام بواجبهم النضالي والوطني. لكن نداء إمام، الذي كان يجد من يلبيه على مدار عقود طويلة، لم يعد له أي صدى داخل أسوار الجامعات المصرية حالياً.

فبينما تشتعل الجامعات الأميركية بالتظاهرات والاعتصامات التضامنية مع الشعب الفلسطيني، تغفو الجامعات المصرية، في ما يبدو، في سبات عميق، رغم أنها كانت في السابق في طليعة المدافعين عن القضية الفلسطينية، بين القوى السياسية الأخرى.

وُلدت الحركة الطلابية المصرية الحديثة، من رحم هزيمة يونيو/حزيران 1967، وهو العام نفسه الذي نشأت فيه حركات وانتفاضات طلابية في أنحاء مختلفة من العالم، وليس في مصر وحدها، أشهرها الانتفاضة الطلابية الفرنسية. ولكن في مصر انطلقت أولى شرارات غضب الحركة الطلابية المصرية بعد الهزيمة، فكانت صوتاً عالياً رفعه جيل جديد داخل الجامعات، وكانت استعادة الأراضي المحتلة بقوة السلاح ورفض المماطلة في اتخاذ قرار الحرب، على رأس أولوياتها، وظلت كذلك حتى ثورة يناير/كانون الثاني 2011. لكن بعد ذلك خفت صوتها تدريجياً حتى اختفى تماماً، إلا في الجامعة الأميركية بالقاهرة، حيث تعرّض طلاب لاعتداء من قبل أمن الجامعة بسبب رفع لافتات داعمة لفلسطين... فماذا حدث؟

جمال فهمي: سادت ثقافة الخوف التي يحاول النظام زرعها في نفوس كل أبناء شعبنا

القيادي الطلابي البارز في فترة السبعينيات والأمين العام للحزب الاشتراكي الحالي، أحمد بهاء الدين شعبان، يتحدث لـ"العربي الجديد"، محاولاً رصد وتحليل ظاهرة الحركة الطلابية المصرية، قائلاً إنها "أدت دوراً كبيراً في مواجهة الاحتلال البريطاني وفساد النظام الملكي، ثم برزت بقوة خاصة بعد هزيمة 1967، وهي التي ساعدت على جمع صفوف الحركة وبلورة مطالبها. وكان مطلبها الأساسي هو الاستعداد لحرب التحرير ضد العدو الصهيوني، حيث التف الآلاف من طلاب الجامعة حول هذا الهدف النبيل الواضح المحدد".

ويتذكر شعبان أن "أحد أبرز الملامح والمحطات جاءت في أعقاب تفجر الحركة الطلابية المصرية بعد فشل السلطة في استيعابها وشراء ذمم قياداتها، أوائل عام 1972، إذ كان هناك اعتصام طلابي كبير، واقتحم الأمن الحرم الجامعي للمرة الأولى في تاريخه، واعتقل نحو 1500 طالب وطالبة، بمن فيهم قيادات اللجنة الوطنية العليا للطلاب المنتخبة".

ويضيف: "انفجرت عاصفة الغضب الطلابي صباح يوم 24 يناير 1972، وزحف الآلاف إلى ميدان التحرير في ذلك اليوم واحتلوه واعتصموا به، وتصاعدت وتيرة الصراع بين الطلاب والعمال والمثقفين ونظام أنور السادات، حتى أجبر على الإفراج عن المعتقلين الذين عادوا إلى جامعاتهم لاستئناف مسيرة نضالهم". ويوضح أن "هذه الانتفاضة تكررت في 1973 و1975 وما بعدها، حتى كان يوما 18 و19 يناير 1977، حيث شهدا ذروة الصراع ما بين الحركة الطلابية المصرية وحركة العمال والمثقفين والنظام، نتيجة وقائع ثورة الخبز والحرية، التي وصفها السادات رعباً وكراهية باسم انتفاضة الحرامية".

ويشير إلى أنه "خرج فيها الملايين من المصريين ثائرين على رفع أسعار السلع الغذائية، مما اضطر السادات إلى سحب قرارات رفع الأسعار، وإنزال الجيش إلى الشوارع لاستعادة السيطرة، بعد عجز جهاز الشرطة، واتهم الشيوعيين ولابسي قميص (الرئيس الراحل جمال) عبد الناصر بالتحريض على ثورة الجماهير وقيادتها، وقدم 176 متهماً لمحكمة أمن الدولة العليا. وبرّأت المحكمة النزيهة، التي رأسها القاضي الكبير الراحل حكيم منير صليب، في 19 إبريل/نيسان 1980 ساحاتهم".

أسباب تراجع الحركة الطلابية المصرية

ويعزو شعبان تراجع الحركة الطلابية المصرية "لمجموعة من الأسباب الموضوعية والذاتية". ويوضح أنه "في ما يخص الأسباب الموضوعية، فهي أولاً القمع الأمني المشدد وإحكام القبضة الحديدية داخل الجامعة، والتنكيل بكل الطلاب والنشطاء السياسيين بالمحاكمات والاعتقالات والفصل والطرد من الجامعة، وغيرها من أسباب التنكيل وأشكاله بعد الانتفاضات الطلابية وصرف انتباه الأجيال الجديدة من الطلاب عن العمل الوطني الجاد، بتجميد نشاط الاتحادات الطلابية، وهي مجمدة حتى الآن، وتحريم وتحويل الأنشطة السياسية إلى ترفيهية، ومصادرة اللجان والجمعيات وصحف الحائط وكافة مظاهر الأنشطة السياسية والوطنية في الجامعة".

أما المسار الثاني الذي اتبعته السلطة لمواجهة الحركة الطلابية المصرية والذي أدى إلى تراجعها، بحسب شعبان، فهي الحرب السياسية والإعلامية التي شنها النظام لتشويه حركة الطلاب، والقواعد التي فرضت داخل الجامعة، والتي لخّصها السادات بقوله إن "الطالب طالب علم وبس، ولا علم في السياسة ولا سياسة في العلم"، بمعنى تحريم كل نشاط ثقافي أو فكري أو سياسي أو اجتماعي خارج نطاق المفهوم الضيق للعلم، والتنكيل بكل من يتناوله، حتى أصبح الاقتراب من العمل السياسي جريمة يعاقب عليها بالفصل وأحياناً بالمحاكمة العسكرية أو في محاكم أمن الدولة.

فلسطين تتصدر وعي الطلاب

ويشدد شعبان على أن "القضية الفلسطينية لا تزال تحتل موقع الصدارة في قلب ووعي الطلاب المصريين. ويمكن أن نلاحظ ذلك في الفرص القليلة التي أتيحت لشباب مصر وطلابها في التعبير عن أنفسهم، رغم القبضة الحديدية التي تسيطر وتخنق الحركة السياسية في مصر الآن، مثل ما يحدث في مباريات كرة القدم التي يُرفع فيها علم فلسطين وترتج المدرجات بهتافات عشرات الآلاف دعماً للقضية". ويعتبر أن "أبرز مظاهر هذا الإيمان بالقضية الفلسطينية هو الانفجار الأخير لحركة مقاطعة الشركات الداعمة للعدو الصهيوني، ليس بين طلاب الجامعات وحسب، وإنما بين مئات الآلاف من أحفادنا طلاب المدارس الابتدائية".

نور الهدى زكي: تراجع الحركة الطلابية المصرية يتسق مع تراجع الحركة السياسية بشكل عام في المجتمع

ويرى شعبان أنه "في أقرب فرصة سانحة، سيخرج الملايين من شباب مصر وطلابها، كما حدث في التظاهرات التي خرجت تهتف لفلسطين يوم الجمعة 20 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والتي وصلت لميدان التحرير، ما حدا بالسلطة لمنع أي محاولة للتظاهر مساندة للشعب الفلسطيني، وإحكام القبضة الأمنية على مثل هذه التحركات". ويفسر شعبان اقتصار ظهور الفعاليات الداعمة لفلسطين حالياً على الجامعة الأميركية بالقاهرة، قائلاً إن "مكانة الجامعات الأميركية في الوطن العربي، وليس في مصر فقط، كمسرح للأنشطة الديمقراطية التقدمية، ليست وليدة اللحظة، فمثلاً خرّجت الجامعة الأميركية في بيروت عدداً كبيراً من القيادات للمنظمات الفلسطينية واللبنانية.

ويرى أن السبب في ذلك "يعود إلى مناخ الحرية النسبي الأوسع في هذه الجامعات، وهذا في القاهرة أيضاً، على عكس المناخ الحاكم للجامعات الحكومية. كما أن نفوذ وهيمنة أجهزة القمع على هذه الجامعات أضعف، كما أن انضمام قطاعات واسعة منها إلى طبقات اجتماعية واقتصادية أعلى، يشكل نوعاً من الحماية لها من بطش السلطة والأمن". جمال فهمي، الكاتب الصحافي المصري، وأحد رموز الحركة الطلابية إبان سبعينيات القرن الماضي، يقول إنه يشعر بالعار مع كثيرين يشاركونه الإحساس نفسه، من فقدان الحركة الطلابية المصرية حالياً.

ويضيف فهمي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه "بينما ينتفض الطلاب في أرقى الجامعات الأميركية انتفاضة هائلة، مساندة للشعب العربي الفلسطيني وهو يتعرض لمذبحة ليس لها مثيل في التاريخ الحديث، ومحرقة حقيقية سوف تسجل في التاريخ من حيث حجم الإجرام فيها، وأيضاً في العديد من البلدان الأوروبية التي تساند حكوماتها الولايات المتحدة، بل وتشارك في هذه المحرقة الرهيبة التي يعاني منها أهلنا في غزة وفي الضفة الغربية، لا نسمع صوتاً للحركة الطلابية المصرية التي تبدو وكأنها غابت تماماً، بل ماتت في الواقع، للأسف الشديد".

ويقول فهمي إن هناك جملة من الأسباب وراء تغييب الحركة الطلابية المصرية "عن هذا المشهد العظيم الذي نراه يتشكل في العالم كله، حتى في الولايات المتحدة، التي تشارك إدارتها العدو الصهيوني في المجازر والمذابح والمحرقة التي يقيمونها ضد أهلنا في فلسطين وتحديداً في غزة".

ويوضح فهمي أن "السبب الرئيسي لغياب الحركة الطلابية المصرية هو القمع الذي يلف المجتمع كله، حيث سادت ثقافة الخوف التي يحاول النظام زرعها في نفوس كل أبناء شعبنا بكل طبقاته وفئاته". يضيف: "بالطبع هناك أسباب أخرى لغياب الحركة الطلابية المصرية ناجمة عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية وسياسة التجويع، فليس فقط أهلنا في غزة من يعانون، ولكن الشعب المصري يعاني أيضاً من بؤس شامل وشديد القسوة فيما يخص الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وهذا سيؤثر طبعاً على الحركة الوطنية عموماً والحركة الطلابية في قلبها، لكنه يظل تأثيراً محدوداً جداً قياساً على السبب الرئيسي وهو القمع والقهر الذي غيّب صوت الطلبة".

تراجع الحركة السياسية

وتقول نور الهدى زكي، الكاتبة الصحافية، وعضو اتحاد نادي الفكر الناصري بجامعة القاهرة في ثمانينيات القرن الماضي، لـ"العربي الجديد"، إن "تراجع الحركة الطلابية المصرية يتسق مع تراجع الحركة السياسية بشكل عام في المجتمع، فالحركة الطلابية تقوى وتضعف بالتوازي مع الحركة السياسية في المجتمع المصري". وتشير إلى أنه "في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات كانت هناك حركة سياسية، وكان في المجتمع المصري أحزاب ونخب ومنظمات مجتمع مدني، وصولاً إلى ثورة يناير 2011".

وتوضح أن "القوة والتراجع يتحددان ضمن آلية مجتمع ككل، أما الأسباب السياسية والاجتماعية فتتمثل في اشتداد وثقل يد الأمن، والقمع الذي تديره أجهزة الدولة، حيث يحكم الأمن داخل الجامعة، ويتحكم في التعيينات بداية من المعيد وحتى الأساتذة، وصولاً لعمداء الكليات وحتى رؤساء الجامعات، وفي أي نشاط طلابي، وحتى ما يقال داخل المحاضرات، وما يكتب في الأبحاث العلمية، والأمثلة كثيرة".

وتوضح زكي أن "قوة الحركة الطلابية والمجتمع، انعكست على أعضاء هيئة التدريس في وقت من الأوقات، عندما تشكلت داخل الجامعات المصرية حركة 9 مارس، وكانت تقوم بنشاط رائع جداً، إبان عهد الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك، وكانت هناك دعاوى قضائية أمام مجلس الدولة لمنع الأمن من دخول الجامعة". وتوضح أنه "كان هناك تفاعل كبير مختلف تماماً عن حالة التردي والعجز الموجودة حالياً، بسبب اشتداد يد القمع والأجهزة، سواء بالتهديد المباشر أو غير المباشر، أو الحبس وخضوع معظم أعضاء هيئة التدريس للأجهزة، واستجابتهم لها خوفاً أو طمعاً في المنصب".

وتشير إلى أن "الأسباب الاجتماعية ترجع لحالة البؤس الشديدة التي يعيشها الطالب المصري وأسرته، وتراجع قيم العدل والمساواة لصالح الواسطة والمحسوبية، وهو ما يؤدي إلى الإحساس بحالة الجبن والعجز أمام هذه القوة الضاغطة المتجبرة في التمييز لصالح كل من يملك، سواء المال أو النفوذ أو الوضع الاجتماعي".

المساهمون