الحرب على غزة تعري الإعلام الألماني

28 يناير 2024
متظاهرون مؤيدون للفلسطينيين في ألمانيا يطالبون بوقف إطلاق النار في غزة (يينغ تانغ/Getty)
+ الخط -

فاجأ رد فعل الإعلام الألماني الرسمي تجاه الحرب العدوانية على غزّة كثيرًا من المتابعين، بالطبع لم تكن المفاجئة في دعم هذا الخطاب لإسرائيل، بل في تبنّي هذا الخطاب للرواية الإسرائيلية كاملةً، وإلصاق تهمة معاداة السامية بكلّ من ينقد العدوان الإسرائيلي، بأسلوبٍ بدا معه وكأنه لا فرق بين الإعلامين الألماني الرسمي والإسرائيلي.

لا شكّ أنّ هذا الخطاب جاء متوافقاً مع ما صرحت به وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك بقولها "كلّنا إسرائيليون"، ليركز خلال الشهر الأول من الحرب على دعم حقّ إسرائيل؛ نموذج الخير والديمقراطية في الشرق الأوسط، في الدفاع عن وجودها في مواجهة حركة حماس، نموذج الشر الإرهابي. لكن بعد مرور قرابة الشهر على الحرب على غزّة، بدأ هذا الخطاب يعاني من أزمةٍ كبيرةٍ، فاختصار الصراع إلى مستوى الأخيار الذين يجب دعمهم، في مواجهة الأشرار الذين تجب مواجهتهم، بدا أمرًا سطحياً للغاية في أعين الكثير من الخبراء، خاصّةً الألمان الذين انتقدوا مثل هذا التوجه في القنوات الرسمية، منطلقين من أنّ الصراع له قصةٌ، وهي تظهر أنّ هناك شعباً فلسطينياً يعاني من احتلالٍ وحصارٍ جائرٍ على الصعد كافّةً.

كما أصبحت أصوات الناشطين الألمانيين في المنظّمات الإنسانية الدولية المطالبة بوقف الحرب أكثر تأثيراً في المجتمع الألماني، خاصّةً مع وجود حقائق لا يمكن دحضها أو اخفاءها: عشرات آلاف القتلى والمفقودين من المدنيين، وأكثر من مليون نازحٍ من منازلهم. قد تكون المقابلة التي أجراها التلفزيون الألماني الرسمي ZDF مع الكاتبة اليهودية الألمانية ديبورا فيدمان في 1/12/2023، علامةً فارقةً في مأزق الخطاب الإعلامي الألماني. بينما كانت نشرات أخبار وبرامج هذه القناة تؤكد على دعمها الكامل لإسرائيل، وتغطي بخجلٍ المعاناة الإنسانية للسكان المدنيين في غزّة، عرت المقابلة الخطاب الإعلامي الغربي عامةً. في سياق حديثها، أشارت الكاتبة فيدمان إلى ضرورة وقف الحرب، وعدم استغلال ما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول لأجل تبرير قتل المدنيين الفلسطينيين: "لا يمكن لنا أن نرقص في عرسين معاً، إما لا نبرر العنف ضدّ جميع المدنيين دون استثناءٍ، أو يجب أن نتحدث دائماً عن السياق الذي يبرر عنفاً ما"، حسب قولها.

أثبت الفلسطينيون أنهم قادرون على الانتصار فيه، حتّى لو كانت وسائل الاعلام الكبرى في العالم داعمةً لإسرائيل

كما أشارت الكاتبة إلى موضوع المحرقة، الذي يشكل الخلفية الإيديولوجية الكامنة وراء الخوف الألماني من نقد إسرائيل؛ إذ أشارت إلى أنّها حفيدة أحد الناجين من المحرقة، وأن الدرس الوحيد الذي يجب تعلمه من المحرقة هو: الدفاع غير المشروط عن حقوق الانسان للجميع من دون استثناءٍ وتمييزٍ. ما يعني أن استخدام المحرقة لأجل تبرير المجازر التي ترتكبها الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، بحجة الدفاع عن الوجود، هو أمرٌ مرفوضٌ بالمطلق. تداول الألمان مقابلتها بكثيرٍ من الاهتمام، على جميع وسائل التواصل الاجتماعي؛ صوتٌ يهوديٌ ألمانيٌ يدين الحرب بشدةٍ، ويطرح بكلّ وضوحٍ معضلةً اخلاقيةً كبيرةً في التعامل الانتقائي مع الأحداث في غزّة، ويعري سياسة الإعلام الرسمي، المتمثّلة في اتخاذ موضوع المحرقة كمبررٍ أخلاقيٍ لأجل الوقوف الكامل مع إسرائيل.

قد يكون الحضور العربي الواسع على شاشة التلفزة الألمانية من أهمّ العوامل التي ساهمت في ارتباك الخطاب الإعلامي الألماني، وتغييره الجزئي في تغطية ما يجري في غزة، فرض هذا الحضور نفسه على قنوات الإعلام الألماني، التي باتت عاجزةً عن إسكات الأصوات الفلسطينية، والاستمرار في ترديد الرواية الإسرائيلية فقط. قد تكون هذه المرّة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، التي تطرح فيها وجهة النظر الفلسطينية على لسان الفلسطينيين والعرب الموجودين في ألمانيا، وباللغة الألمانية نفسها.

حضور المغتربين اللافت في المظاهرات السلمية، وتوجيه خطاباتٍ باللغة الألمانية، عبر منصات الإعلام الألماني، شكل نقطة تحولٍ كبيرةٍ على طريق الصراع الثقافي، الذي أثبت الفلسطينيون أنهم قادرون على الانتصار فيه، حتّى لو كانت وسائل الاعلام الكبرى في العالم داعمةً لإسرائيل. على سبيل المثال؛ يمكن أن نطرح المقابلة مع الدكتور والكاتب الفلسطيني عز الدين أبو العيش؛ على قناة TRT الناطقة بالألمانية، الذي خسر25 شخصًا من عائلته، والذي نطق بصوت الضحايا، وعبر عن مأساتهم بخطابٍ إنسانيٍ معتدل، يقترب للوعي الاجتماعي الأوروبي.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

مثالٌ آخر؛ تقريرٌ أعدته قناة ZDF الألمانية الرسمية، في 7/12/2023، مع عددٍ من الناشطين الفلسطينيين المقيمين في برلين، الذين عبروا عن دعهم لغزّة، وعكسوا وجهة نظرٍ نقديةٍ لما يعرضه الإعلام الرسمي الألماني بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. أحدهم كان الناشط الفلسطيني الذي يحمل الجنسية الألمانية نضال بلبل، الذي بترت قدمه اليمنى بسبب قصفٍ إسرائيليٍ عام 2007، والذي أكد خلال المقابلة على أنه "ليس لإسرائيل الحقّ في تنفيذ مثل هذا الهجوم الوحشي الضخم على غزّة، وقتل هذا العدد الكبير من الناس".

لا يسعنا بالطبع ذكر جميع الأمثلة في سياق هذا المقال، لكن البارز في نشاط المهاجرين الفلسطينيين الإعلامي في ألمانيا أنهم نجحوا في استغلال أزمة الخطاب الإعلامي الألماني، الذي عرت الحرب على غزّة أزمته الأخلاقية. لقد انطلق هؤلاء المهاجرون من القيم ذاتها التي بنيت عليها الإيديولوجية الألمانية المهيمنة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي قيم حقوق الإنسان، والعدالة، ورفض العنف، لتوجيه النقد لإسرائيل، والتركيز على المجازر التي ترتكبها، وتعرية مواقف حكومات الدول الغربية المناقضة لما تدعيه من قيمٍ حضاريةٍ، مستخدمين اللغة الألمانية، وهو ما سهل تأثيرهم ووصولهم لفئاتٍ متنوعةٍ من المجتمع الألماني.

لقد عرت حرب غزّة أزمة الإعلام الرسمي الألماني الأخلاقية، الذي يبدو حالياً مرتبكاً. فبعد مرحلةٍ أولى كان يتبنّى فيها المقولات الإسرائيلية كاملةً، بدأ هذا الخطاب تدريجياً، تحت ضربات النقد، وقدرة الناشطين الفلسطينيين على عرض وتوضيح معاناة الشعب الفلسطيني، في التراجع عن دعم إسرائيل المطلق، وصولاً إلى اتخاذ موقفٍ يبدو محايداً، ولو نسبياً، ومنح هامشٍ لمؤيدي القضية الفلسطينية. كما أنّ الحضور الإعلامي الفلسطيني القوي، خاصّةً بين الأجيال الشابة المهاجرة، التي ولدت وعاشت خارج فلسطين، يثبت أنّ القضية الفلسطينية لم ولن تموت، وأنّها ما زالت حاضرةً في وجدان الشعب الفلسطيني، في الداخل والخارج على حدٍّ سواء، وهي من دون أيّ شكٍّ مقدمةً من مقدمات الانتصار في المعركة الوجودية التي يخوضها كلّ الشعب الفلسطيني.

المساهمون