تأخذ الدول الغربية المواجهة الدبلوماسية مع روسيا، في الملف الأوكراني، مجدداً إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. وتأتي الخطوة بعدما أفشلت روسيا، الأسبوع الماضي، تبني مجلس الأمن الدولي مشروع قرار يدين ضمّها أربع مناطق أوكرانية؛ لوغانسك ودونيتسك وزابوروجيا وخيرسون، تسيطر عليها بشكل جزئي بعد "الاستفتاء" الذي أجري فيها.
وكان مشروع القرار الأميركي - الألباني الذي يحتاج إلى تسعة أصوات لتبنيه قد حصل على تأييد عشر دول، وامتنعت أربع دول عن التصويت، وهي الصين والغابون والهند والبرازيل، واستخدمت روسيا الفيتو (حق النقض)، ما حال دون تبنيه.
إدانة ضّم المناطق الأوكرانية أمام الجمعية العامة
ومن المتوقع أن تصوّت الجمعية العامة على مشروع قرار مشابه بعد غد الأربعاء، على الأرجح، صاغه وتفاوض حوله الاتحاد الأوروبي. ومن المتوقع أن تطرح أوكرانيا المشروع للتصويت أمام الجمعية العامة بدعم من دول غربية.
وستبدأ المداولات الرسمية في الجمعية العامة حول المشروع والتطورات الأخيرة في أوكرانيا اليوم الإثنين. ومن المفترض أن يقدم خلالها عدد كبير من الدول الأعضاء في الجمعية العامة (193 دولة) موقفه من عمليات الضم ومن الملف الأوكراني عموماً في إطار مداخلات.
طلبت روسيا التصويت السرّي على مشروع في الجمعية العامة يدين ضمّها 4 مناطق أوكرانية
وعبّر أكثر من مصدر دبلوماسي غربي رفيع المستوى في الأمم المتحدة، تحدث إلى "العربي الجديد" في نيويورك، عن ثقته بأن الجمعية العامة ستتمكن من تبني المشروع.
ومن أهم ما جاء في المشروع في صياغته الحالية، والتي قد تطرأ عليها تغييرات طفيفة، تأكيده وحدة كامل الأراضي الأوكرانية ضمن الحدود المعترف بها دولياً وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، كذلك يدين تنظيم روسيا "لما يسمى باستفتاء غير قانوني" في مناطق معترف بها دولياً ضمن الحدود الأوكرانية وعدم شرعية تلك الخطوات.
مع العلم أن موقف الأمم المتحدة من عملية الضم كان واضحاً، وجاء على لسان أمينها العام، أنطونيو غوتيريس، الذي اعتبر أن قرار روسيا ضمّ المناطق الأوكرانية الأربع "لا مكان له في العالم المعاصر. أي قرار بتنفيذ عملية ضمّ المناطق الأوكرانية في دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوروجيا لن تكون له أي قيمة قانونية ويستحق الإدانة"، كما وصف غوتيريس الخطوة الروسية بـ"التصعيد الخطير".
روسيا تطلب التصويت السرّي
وعلى الرغم من التوقعات بتبني المشروع، إلا أنه من الضروري التوقف عند عدد من الأمور، ومنها الطلب الروسي بالتصويت على المشروع باقتراع سرّي. والاقتراع السري في الجمعية العامة يتم غالباً في ما يخص قضايا انتخابات. أما التصويت على مشاريع قرارات، فيكون بشكل علني يمكن من خلاله تسجيل موقف كل دولة. ومن غير المرجح أن تنجح روسيا في تنفيذ طلبها، ولكن إن حدث ذلك، فسيكون سابقة لها تبعات ربما على قضايا أخرى.
الطلب الروسي جاء برسالة مطولة من ست صفحات، وزّعها الجانب الروسي على الدول الأعضاء في الجمعية العامة. في رسالته، التي اطلع "العربي الجديد" على نسخة منها، يهاجم الجانب الروسي الولايات المتحدة والدول الغربية ويصف الخطوة للتصويت المفترض في الجمعية العامة حول المناطق الأربع بأنها "مسيّسة واستفزازية وتهدف إلى تقسيم الجمعية العامة والفصل بين أعضائها".
ويصف الجانب الروسي مشروع القرار الأميركي - الألباني، والذي أفشلته روسيا باستخدام حق النقض، بـ"المشروع الزائف" وهدفه كان "إجبار روسيا على استخدام الفيتو". يشار هنا إلى أن الدول الغربية وصفت الاستفتاءات في المناطق الأربع بـ"الزائفة".
الجانب الروسي علّل في رسالته طلبه غير المسبوق، بالتصويت باقتراعات سرية على المشروع. وقال: "ندرك أن الولايات المتحدة وحلفاءها يمارسون ضغطاً كبيراً على الدول الأعضاء ليختاروا بين "من هو معهم أو ضدهم". ونتفهم أنه، وتحت ظروف من هذا النوع، قد يكون صعباً للغاية إذا ما تم التعبير عن المواقف (يقصد هنا التصويت العلني المعتاد) بشكل علني". وتخلص الرسالة الروسية إلى أنه "ولتلك الأسباب، نقترح أن يتم التصويت على هذه المسودة عن طريق الاقتراع السري وندعو الدول الأعضاء إلى دعم هذه المبادرة".
ويشير الروس في رسالتهم إلى سند قانوني متعلق بإجراءات الأمم المتحدة يسمح لهم بطلب التصويت السرّي. ويعتمد على رأي قانوني صادر عن مكتب "الشؤون القانونية" التابع للأمم المتحدة بتاريخ 2 ديسمبر/ كانون الأول لعام 1977 وهو ما أكدته المتحدثة باسم رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة، باولينا كوبياش. وقالت كوبياش في ردها على الأسئلة الصحافية حول موضوع "الرأي القانوني" إنه "يناقش إمكانية اتخاذ قرار بالاقتراع السري في مسائل غير الانتخابات، ويلاحظ أن هذا أمر يخص الجمعية العامة والدول الأعضاء فيها".
الكثير من الدول، وخصوصاً في الجنوب العالمي، بدأت تشعر بضيق مما تطلق عليه "معايير غربية مزدوجة"
بكلمات أخرى بعيدة عن اللغة البيروقراطية للأمم المتحدة، يحق لروسيا أن تطلب أن تصوت الجمعية العامة على ما إذا كان التصويت على المشروع سيكون سرياً أم علنياً عن طريق ما يعرف بتصويت إجرائي (أي تصويت على كيفية التصويت). وفي هذا السياق، أوضحت كوبياتش أن "التصويت الإجرائي يحدث عادة في بداية اتخاذ إجراء بشأن مشروع قرار ويحتاج إلى أغلبية بسيطة".
إن حدث تصويت سرّي بالفعل، وهو مستبعد حتى الآن حيث توقعت مصادر غربية ألا تحصل روسيا على أصوات كافية، قد يعطي هذا روسيا مجالاً أكبر للمناورة، ويظهر بشكل أعمق الشرخ داخل المجتمع الدولي والموقف مما يحدث في أوكرانيا.
تململ في جنوب العالم من استمرار الحرب
الأغلبية الساحقة من الدول تظهر معارضتها للحرب الروسية على أوكرانيا وأعلنت التزامها بسلامة الأراضي الأوكرانية ووحدتها. وهذا الأمر ظهر في مشروع القرار الذي صوتت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة بداية مارس/آذار الماضي، والذي "شجب بأشد العبارات الغزو الروسي على أوكرانيا" وطالبها "بسحب جميع قواتها العسكرية وبشكل فوري من الأراضي الأوكرانية". وحصل القرار آنذاك على تأييد 141 دولة من أصل 193 دولة عضواً في الجمعية العامة وهي أغلبية كبيرة. حينها، كانت الدول التي صوتت بلا خمساً، بما فيها روسيا، والبقية امتنعت عن التصويت أو لم تحضر. ولكن عشرات الدول امتنعت أو لم تحضر التصويت حتى في حينه.
والكثير تغيّر على الأرض منذ مارس الماضي، إذ فاقمت الحرب الروسية من أزمة الطاقة والغذاء وغيرها من الأزمات، في وقت كانت الكثير من الدول تعاني أصلاً من أزمات اقتصادية بسبب فيروس كورونا. كما أن الكثير من الدول، وخصوصاً في الجنوب العالمي، وإن كانت تعارض الحرب الروسية وتؤيد وحدة الأراضي الأوكرانية، بدأت تشعر بضيق مما تطلق عليه "معايير غربية مزدوجة" واستمرار تدفق الأسلحة وغياب الحديث عن إمكانية وقف إطلاق النار وإصرار الدول الغربية على ضرورة الاستمرار في القتال، وخصوصاً الآن، حيث يحقق الأوكرانيون مكاسب على الأرض.
الموقف الغربي عبّر عنه عدد من الدبلوماسيين الغربيين في مجلس الأمن والأمم المتحدة، وعلى رأسهم المندوبة الأميركية ليندا توماس غرينفيلد. وقالت السفيرة الأميركية، في أكثر من مناسبة في مجلس الأمن وخارجه، مقتبسة وزير خارجية بلادها (أنتوني بلينكن): "إذا أوقفت روسيا القتال، فستنتهي الحرب. إذا توقفت أوكرانيا عن القتال، فستنتهي أوكرانيا".
هذا الموقف ترى فيه بعض الدول تصلباً، ويزيد من أمد الحرب، فضلاً عن المصالح التي تربط الكثير من الدول بروسيا كذلك. ولعل امتناع أربع دول، من ضمنها دول تربطها مصالح قوية مع الدول الغربية، كالبرازيل والهند، عن التصويت الأسبوع الماضي على القرار الأميركي الألباني في مجلس الأمن، يظهر التململ الذي تشعر به الكثير من دول الجنوب العالمي وتتهم الدول الغربية بالكيل بمكيالين.
في هذا السياق، يمكن قراءة ما قاله السفير البرازيلي في المنظمة، رونالدو كوستا فيلهو، بعد امتناع بلاده عن التصويت. إذ على الرغم من تأكيده أن نتائج الاستفتاءات لا يمكن اعتبارها شرعية، إلا أنه انتقد الديناميكيات في مجلس الأمن، وقال إن "مشروع القرار (الأميركي- الألباني) لا يساهم في تحقيق الأهداف المباشرة المتعلقة بنزع فتيل التوتر، والتفاوض على وقف إطلاق النار، وبدء مفاوضات السلام".
على الرغم من أنه متوقع أن تتبنّى الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروع القرار الأوروبي الذي يدين المحاولات الروسية بضم المناطق الأربع، إلا أنه من المستبعد أن يحصل على تأييد 141 دولة كما حدث مع القرار الذي يشجب الغزو الروسي. لكن إذا حصل بالفعل على تأييد مشابه، فإن ذلك سيكون بمثابة انتصار للضغوط الغربية.
ولكن هناك قراراً آخر اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة، متعلقاً بأوكرانيا، من الضروري النظر إليه في المقارنة بعدد الأصوات والتفاصيل، وهو قرار الجمعية العامة المتعلقة بالقرم.
وكانت الجمعية العامة، وبعد فشل مجلس الأمن، قد تبنت قراراً في 27 مارس 2014 يدين ضمّ روسيا للقرم ويعتبر شبه جزيرة القرم جزءاً من الأراضي الأوكرانية. القرار حصل آنذاك على تأييد 100 دولة ومعارضة 11 وامتناع 58 عن التصويت، فيما غابت 24 دولة ولم تحضر الجلسة. وإن حصل القرار المطروح للتصويت هذا الأسبوع على عدد أقل من مائة صوت، حتى لو تم تبنيه، سيكون بمثابة رسالة واضحة للدول الغربية وظهور تصدع واضح في الموقف الدولي من تعاملها مع الملف الأوكراني.