فرضت السلطات الجزائرية للأسبوع الثاني على التوالي، إغلاقاً شاملاً على شوارع وساحات العاصمة وكبرى المدن في البلاد، لمنع تظاهرات الحراك الشعبي، وإفساح المجال أمام حملات وتجمعات الدعاية الانتخابية للانتخابات البرلمانية المبكرة المقرّرة في 12 يونيو/حزيران المقبل.
ويطرح هذا المشهد أسئلة عما إذا كان ذلك يعني نجاح السلطة في إنهاء الحراك الشعبي، وتحويل الأنظار إلى الحراك الانتخابي الراهن.
ولم تشهد العاصمة الجزائرية أمس الجمعة، التظاهرات التي اعتادت عليها، إذ غطت سيارات الشرطة وأعداد كبيرة من قوات الأمن كامل الساحات والشوارع وبالقرب من المساجد التي كانت تنطلق منها التظاهرات الشعبية. وإذا كان هذا المستوى من الانتشار الأمني، لم يتح أية فرصة للمتظاهرين للتجمع، إلا أنه يعطي صورة عن إقناع صناع القرار السياسي والأمني في الجزائر، بأن الحراك الشعبي ما زال قادراً على الحضور في الشارع، كحالة احتجاج ضد وضع سياسي، تعتقد مكونات الحراك أنه لم يتغير، وبغض النظر عن معادلة أعداد المتظاهرين، خصوصاً في ظل أزمة اقتصادية خانقة، أفرزت أزمة اجتماعية وتدهوراً في الظروف المعيشية، ما دفع قطاعات حيوية إلى الخروج إلى الشارع.
ويعتقد مراقبون أن السلطات لجأت إلى تشديد حالة الإغلاق الأمني، لمنع أي تشويش على الانتخابات التشريعية المقبلة، والتي تراهن عليها السلطة لتعزيز الشرعية السياسية، خصوصاً في حال نجحت في تحسين مؤشر التصويت ونسبة المشاركة، فيما تذهب بعض التحاليل إلى أن تدابير السلطة تتجاوز المرحلة الانتخابية، وتستهدف الإنهاء الكامل للتظاهرات. وتقدّر مصادر موثوقة تحدثت لـ"العربي الجديد"، أن السلطة بصدد تنفيذ خطة من أربع مراحل، تستهدف في الأولى تعميم الاعتقالات وشل نشاط وحركة الناشطين الميدانيين، سواء عبر الاعتقالات أو وضعهم قيد الرقابة القضائية والتضييق عليهم، وفي الوقت نفسه تحييد الصحافة ووسائل الإعلام المحلية والأجنبية، قبل تنفيذ خطوة ثانية تتعلق بإجهاض وإنهاء الحراك الطلابي الذي كانت تشهده العاصمة خصوصاً وعدد من المدن الجزائرية، كل يوم ثلاثاء، وهو الحراك الذي غاب منذ أربعة اسابيع، قبل أن تنتقل إلى الخطوة الثالثة وهي إغلاق العاصمة التي كانت تمثل تظاهراتها المركز الأساس للحراك الشعبي، على أن تكون الخطوة الرابعة التفرغ الكلي لإجهاض مسيرات الحراك في منطقة القبائل، بشكل يضمن سيطرة السلطة على أكثر المناطق المتمردة على السلطة. وتتعاطى السلطات مع منطقة القبائل بحذر شديد، بسبب عامل إثني (غالبية السكان من الأمازيغ) وظروف سياسية وسياقات تاريخية تميز المنطقة التي شهدت انتفاضات سياسية ضد السلطة منذ عام 1963، مروراً بانتفاضات الربيع الأمازيغي سنوات 1980، وإضراب المحافظة عام 1994، والربيع الأسود عام 2001.
لكن ناشطين في الحراك الشعبي، يعتقدون أن منع التظاهرات لا يمكن أن يؤدي بالضرورة إلى انتهاء الحراك الشعبي، لكون التظاهرات مجرد آلية واحدة من مجموع آليات الحراك للمطالبة بالتغيير السياسي. وقال الناشط البارز في الحراك بلال كوردي، في تصريح لـ"العربي الجديد": "قد يتخيل للمار بين شوارع العاصمة وكبريات المدن أن الحراك خسر معاقله للجمعة الثانية توالياً، بسب إطلاق السلطة يدها الأمنية، واستدعاء القمع والتضييق، لكن التظاهرات والميادين هي إحدى تجليات الحراك فقط، والحراك هو حالة احتجاج وحركة مطلبية سياسية أشمل من العمل الميداني، ومع الوقت، تحوّل إلى أسلوب مقاومة لدى الجزائريين ومطالبة بالتغيير، والدليل على ذلك أن التظاهرات في الشارع توقفت طوعياً بسبب أزمة كورونا، ومع ذلك لم ينتهِ الحراك، وعادت التظاهرات أكثر قوة وتنظيماً، وربما هذا هو الذي أقلق السلطة".
وتابع أن "السلطة لم تستوعب هذا الوضع، خصوصاً وأن الحراك بقي ملتزماً بالنضال السلمي على مدار أكثر من عامين، ولم يمنح السلطة فرصة استدراجه إلى العنف، كما أنه طوّر مجموعة ديناميكياً مرنة، تثبت عزم الحراكيين الشديد على إجلاء حالة الاستبداد".
على الصعيد الميداني، لم تنهِ حالة الإغلاق الأمني بشكل كامل الفعاليات الحراكية المختلفة، التي تبني أشكالاً أخرى للتعبير عن استمرار الحراك، كالتجمعات والوقفات الرمزية والمسيرات الليلية بالسيارات والدراجات النارية، وهي أشكال تحاول مكونات الحراك عبرها إثبات وجودها الميداني، وتحديها للسياسيات الأمنية. فعلى الرغم من حالة الإغلاق الأمني المشدد الذي فرضته السلطات الجزائرية، والانتشار اللافت لقوات الأمن في العاصمة والمدن الجزائرية، فإن 13 مدينة شهدت وقفات وتظاهرات شاركت فيها أعداد متباينة من الناشطين والمتظاهرين، بما فيها العاصمة، التي استبدل فيها الناشطون التظاهرات بأربع وقفات في أحياء شعبية، سارعت الشرطة إلى تفريقها بالقوة واعتقال عدد من المتظاهرين.
لكن كبرى التظاهرات التي انتظمت أمس الجمعة، شهدتها مدن في منطقة القبائل (ذات الغالبية من السكان الأمازيغ)، ففي مدينة برج منايل قرب العاصمة الجزائرية، انتظمت مسيرة حاشدة، حاولت قوات الشرطة تفريقها، واستخدمت خلالها الغازات المسيلة للدموع، لكنها فشلت في إنهائها، ورفعت خلال المسيرة صور الناشطين الموقوفين، وانتهت المسيرة عند منزل معتقل الرأي صهيب شاوشي.
وفي مدينتي تيزي وزو وبجاية، وكذلك مدينة آقبو، كبرى مدن منطقة القبائل، استمرّت التظاهرات الحاشدة، على الرغم من محاولة قوات الشرطة اعتراضها واعتقال عدد من المتظاهرين، كما سيّر الناشطون تظاهرة حاشدة في مدينة بني ورثيلان، اعتقلت الشرطة خلالها ستة من المتظاهرين. وبسبب التشديد الأمني وحالة الإغلاق والملاحقات التي تقوم بها السلطات، لجأ الناشطون في الحراك الشعبي إلى استبدال التظاهرات بوقفات رمزية، ترفع فيها صور المعتقلين وشعارات الحراك الشعبي، على غرار وقفات شهدتها مدن مستغانم وتلمسان ووهران غربي البلاد، والأغواط وغرداية والمدية والمسيلة وسط البلاد، وورقلة وبشار جنوبي البلاد، وجيجل وعنابة وسكيكدة وعين البيضاء شرقي الجزائر.
وإضافة إلى المحاولات الشعبية لتأكيد استمرار الحراك ميدانياً، فإن قوى سياسية ما زالت تؤكد التزامها بالحراك الشعبي. وفي السياق، انتقد حزب "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" في بيان نشره اليوم السبت، ما وصفه بـ"التسارع المذهل والخطير في نشر ترسانة السلطة القمعية، في تصعيد يستهدف جميع مكوّنات وفضاءات الوعاء الديمقراطي للمجتمع، ويندرج ضمن خطة تتجاوز مرحلة انتخابات 12 يونيو المقبل"، واصفاً الوضع بـ"الخطير" وبأن البلاد تمرّ بمرحلة مظلمة، لأن المسألة تعني الرجوع عن المكاسب الديمقراطية وإحياء النظام القديم، وفق ما جاء في البيان، فيما كانت جبهة القوى الاشتراكية قد دانت في بيان نشرته يوم الخميس، ما وصفته بسياسة الحل الأمني التي تنتهجها السلطات، وأطلقت تحذيرات من خطورة وتداعيات هذه السياسات التي تعبر عن تعنت ورفض واضح لدعوات إطلاق حوار وطني، كانت دعت إليه جبهة القوى الاشتراكية.