يستعد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في ما يبدو، لطرح مشروع مصالحة سياسية. ويتعزز هذا الاعتقاد بعد التقرير الذي نشرته وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية، أول من أمس، والتي أشارت فيه إلى أنّ "يد الرئيس عبد المجيد تبون ممدودة للجميع" وأن "كلمة إقصاء لا وجود لها في قاموس رئيس الجمهورية الذي يسخّر كلّ حكمته للمّ شمل الأشخاص والأطراف التي لم تكن تتفق في الماضي".
وفيما لم يقدم التقرير تفاصيل أكثر بشأن المشروع، لا تُعرف أيضاً هوية المشمولين بهذا المسعى التصالحي وما إذا كان المشروع يشمل رموز ومجموعات النظام السابق التي وقفت في طريق مشروع "الجزائر الجديدة" الذي تبناه تبون منذ انتخابه نهاية عام 2019، وكذلك ما إذا كان سيتوسع إلى المجموعات السياسية المعارضة في الداخل والخارج.
ولا تستبعد بعض القراءات السياسية أن يكون الإعلان مجرّد خطوة لتخفيف الضغوط التي تواجهها السلطة نتيجة غياب المنجز السياسي والاقتصادي خلال العهدة الأولى لتبون، وكذلك أن يكون الإعلان تمهيدا مبكرا لولاية ثانية للأخير في أفق 2024.
ستينية الاستقلال في 5 يوليو موعد لطرح مشروع "لم الشمل"
وحددت الرئاسة التي يبدو أنها تقف خلف التقرير الذي نشرته وكالة الأنباء الجزائرية، أول من أمس، الاحتفال بذكرى ستينية الاستقلال في الخامس من يوليو/تموز المقبل، كموعد لطرح المشروع.
وقالت وكالة الأنباء الجزائرية، في تقرير غير منسوب للرئاسة، ونشر من دون مناسبة، إن "يد الرئيس عبد المجيد تبون، وهو رئيس لطالما اهتم بالنقاش السائد في المجتمع، ممدودة للجميع بشكل دائم، ما عدا للذين تجاوزوا الخطوط الحمراء وأولئك الذين أداروا ظهرهم لوطنهم. فهو ليس من دعاة التفرقة، بل بالعكس تماماً".
وأضاف التقرير أنه "يجب أن يعرف أولئك الذين لم ينخرطوا في المسعى أو الذين يشعرون بالتهميش، أن الجزائر الجديدة تفتح لهم ذراعيها من أجل صفحة جديدة. وكلمة إقصاء لا وجود لها في قاموس رئيس الجمهورية الذي يسخّر كل حكمته للم شمل الأشخاص والأطراف التي لم تكن تتفق في الماضي".
وأشار إلى أن "الجزائر، بشعبها البطل والموحد بكل تنوعه، بحاجة إلى جميع أبنائها للاحتفال معاً بالذكرى الستين للاستقلال".
واعتبر التقرير أنّ تبون "أول رئيس يتم انتخابه عبر تداول ديمقراطي" وأنه "انتخب من قبل كل الجزائريين الذين يتطلعون إلى جزائر جديدة، وهو رئيس جامع للشمل، إذ نجح في توحيد الشباب والمجتمع المدني خلال حملته الانتخابية، ليشكل انتخابه أول تداول ديمقراطي في تاريخ البلاد".
صافي لعرابة: نشدّ على يد الرئيس تبون في كل خطوة سياسية تتعلق بلم الشمل والمصالحة
الموالون للسلطة يتلقفون خطوة تبون
وتلقفت القوى السياسية الموالية للسلطة والمشاركة في الحكومة والعضوة في الائتلاف النيابي الداعم للرئيس، هذه الخطوة السياسية، واعتبرت أنها خيار ضروري يعزز الجبهة الداخلية للبلاد، ويقوي الإمكانيات السياسية لمواجهة التحديات التي تواجه الجزائر.
وفي السياق، قال المتحدث باسم "التجمع الوطني الديمقراطي" (الحزب الثاني للسلطة)، صافي لعرابة، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ "فكرة لم الشمل خطوة مهمة وضرورية سبق للحزب أن دعا إليها منذ الانتخابات النيابية الماضية".
وأضاف "نعتقد أن الجزائر بحاجة إلى رص الصفوف لمواجهة التحديات الداخلية المتعلقة بالمشكلات الاجتماعية والاقتصادية وإعادة بناء الجمهورية الجديدة على أسس صحيحة، فضلاً عن مواجهة التحديات الخارجية، ولا سيما ما يتعلق بالتوترات القائمة في محيطنا الملتهب".
وتابع "نشدّ على يد الرئيس تبون في كل خطوة سياسية تتعلق بلم الشمل والمصالحة، باعتباره رئيساً لكل الجزائريين، وباعتبار أن الجزائر بحاجة إلى ذلك".
تردد قوى سياسية جزائرية في التعليق على مبادرة "لم شمل"
في المقابل، ترددت مختلف القوى السياسية في التعليق على ما يفترض أنه مبادرة متوقعة من الرئيس تبون لمصالحة سياسية جديدة و"لم الشمل"، خصوصاً أن ما أُعلن لم يكن بياناً رسمياً من الرئاسة، ولم تتلقَ هذه القوى بشأنه أي عرض رسمي من المؤسسة الرئاسية. ناهيك عن أن مضمون التقرير غير واضح بالشكل الكافي الذي يتيح التعليق عليه.
حبيب براهمية: لم نفهم هل هناك خطوة سياسية يعتزم الرئيس تبون إطلاقها، أم أن الأمر مجرد بروباغندا
وفضلت القوى السياسية على ما يبدو انتظار مزيد من الوقت لمعرفة تفاصيل أكثر حول هذه الخطوة. وفي السياق، قال القيادي في حزب "جيل جديد"، حبيب براهمية، في حديث لـ"العربي الجديد": "اطلعنا على ما نشرته الوكالة الرسمية، وفي الحقيقة لم تتضح الفكرة بعد، ولم نفهم هل هناك خطوة سياسية يعتزم الرئيس تبون إطلاقها، أم أن الأمر مجرد بروباغندا".
وأضاف "من المبكر الحكم على هذا الأمر، لكننا نأمل جدياً في أن تكون الخطوة تمهيداً لمبادرة سياسية جامعة تحرّك المشهد السياسي في البلاد".
مصالحة سياسية في الجزائر مع من؟
ولا يجيب التقرير المنشور عن أسئلة مركزية، منها أن المصالحة بين السلطة ومن؟ ومن هي الأطراف التي يتوجه إليها الرئيس بمبادرة "لم الشمل"؟
فهل المقصود أطراف من النظام لم تساير تبون في مشروعه السياسي وحاولت الاعتراض عليه قبيل الانتخابات الرئاسية التي جرت في ديسمبر/كانون الأول 2019، بما في ذلك بعض القيادات العسكرية الموجودة في السجون، كقائد جهاز المخابرات السابق عثمان بشير طرطاق، وقائد المخابرات الداخلية واسيني بوعزة؟ أم أن الأمر متعلق بمجموعات ورموز من النظام السابق في عهد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، بمن فيهم من هم في السجون ممن يمكن العفو عنهم، على غرار رئيسي الحكومة السابقين أحمد أويحيى وعبد المالك سلال، وبعض الوزراء؟
وتذهب قراءات سياسية إلى أنّ مضمون التقرير هو تمهيد أولي لتهيئة الرأي العام الوطني لقبول وإسناد مشروع مصالحة على هذا المستوى، خصوصاً أن هناك مؤشرات أخرى سبقت وهيأت إلى ذلك.
ومن هذه المؤشرات أحكام البراءة التي صدرت أخيراً في بعض القضايا، لصالح القائد العام السابق للأمن الوطني عبد الغني هامل، ورئيس الحكومة السابق عبد المالك سلال، حتى وإن ظلا في السجن بسبب أحكام أخرى في حقهم تخص قضايا فساد. هذا بالإضافة إلى تجديد وزير العدل رشيد طبي قبل أيام، الحديث عن مشروع تسوية ودية لاسترجاع الأموال المنهوبة من قبل رجال الأعمال.
عبد الغني بادي: السلطة تتحدث عن لم شمل مع من لم يسايروا مشروع الرئيس
وفي السياق، رأى الناشط السياسي والمحامي عضو هيئة الدفاع عن معتقلي الرأي، عبد الغني بادي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "السلطة تتحدث عن لم شمل مع من لم يسايروا مشروع الرئيس، للقول لهم إن الوقت لم يفت وأن أمامهم فرصة للحاق به".
وأضاف "من الواضح أن الرئيس تبون يريد ارتداء جبة بوتفليقة عبر طرح مشروع مصالحة، وواضح من خلال التقرير الذي نُشر، أن هناك مجموعة أفكار لمحاولة استمالة جهة ما كانت ترفض التعاون مع تبون وربما تسببت له في مشكلات داخلية سياسية أو اقتصادية، وهذا الاحتمال هو الأقرب، ما عدا من تجاوزوا الخطوط الحمراء في قضايا تثير رفض الرأي العام الداخلي".
وأشار بادي إلى أنه "من المحتمل أيضاً أن يكون المقصود بمشروع لم الشمل، المجموعات السياسية المعارضة في الداخل والخارج".
لكن مضمون التقرير نفسه يطرح أسئلة موازية عما إذا كان المقصود بمشروع لم الشمل قوى المعارضة في الداخل والخارج؛ ومن بينها المجموعات السياسية المناوئة للسلطة والناشطون الذين ما زالت تلاحقهم السلطات في الداخل، بمن فيهم نشطاء سابقون متهمون بالانتماء إلى حركتي "الماك" (تطالب بانفصال منطقة القبائل) و"رشاد" (مقربة من الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة)، على الرغم من أن السلطات تصنف الحركتين منذ مايو 2021 كتنظيمات إرهابية، وذلك على أساس أن هؤلاء النشطاء مغرر بهم.
كما تُطرح أسئلة عما إذا كان مشروع تبون يستهدف المعارضين الموجودين في الخارج، لبدء صفحة جديدة تطوي صفحة الخلافات السياسية وتوقف سلسلة الحملات التي يقودها المعارضون في الخارج ضد السلطة وتبون وقيادات الجيش وجهاز المخابرات، خصوصاً أن هذه الحملات تضمنت في الغالب تسريبات أزعجت السلطة وأضرت بالأمن القومي للبلاد، ولا سيما في ظروف إقليمية متوترة بالنسبة للجزائر في علاقاتها مع محيطها القريب.
فالعسكري المنشق محمد بن حليمة، الذي تسلمته الجزائر من قبل السلطات الإسبانية قبل شهر، كان قد ألمح إلى وجود مشروع مصالحة مع المعارضين في الخارج.
وذكر في اعترافات بثها التلفزيون الرسمي أنه "لم يكن على علم بمشروع عفو كانت قد عرضته السلطات الجزائرية على عدد من المعارضين السياسيين في الخارج"، ما عدا بعض القيادات في "رشاد" و"الماك" ممن وصفهم تقرير وكالة الأنباء الجزائرية بأنهم "تجاوزوا الخطوط الحمراء"، كالدبلوماسي الفار محمد العربي زيطوط، وأمير بوخرص، ومراد دهينة وغيرهم، بسبب استمرارهم في مهاجمة قيادات الجيش والمخابرات.
يرى البعض أنّ الإعلان قد يكون تمهيداً لولاية ثانية لتبون
مشروع ولاية رئاسية ثانية لتبون؟
ومن حيث التوقيت السياسي لطرح مشروع "لم الشمل"، تذهب بعض التفسيرات السياسية إلى أن الأمر مرتبط بتحضير مبكر لمشروع ولاية رئاسية ثانية لتبون في أفق عام 2024.
وضمان المرور إلى هذه الولاية، متعلق، وفق ما يرى كثيرون، بمدى قدرة الرئيس الحالي على إعادة تجميع أطراف الحكم والنظام، خاصة تلك التي كان لها نفوذ وتأثير في المراحل السياسية السابقة، وتهدئة الغضب السياسي، واحتواء المجموعات المعارضة تحت عنوان مثل "لم الشمل"، خاصة في ظل أن تبون لم يستطع في المقابل تحقيق أي منجز سياسي جدي مقنع للجزائريين خلال عهدته الأولى.
وهذا المسعى لتبون يعيد إلى الأذهان ما قام به بوتفليقة في عهدته الرئاسية الأولى (1999-2004)، عندما طرح مشروع "الوئام المدني" التصالحي مع المسلحين، ثم "المصالحة الوطنية" في بداية ولايته الرئاسية الثانية عام 2005، محاولة السلطة الجزائرية لتخفيف الضغوط الداخلية.
محاولة السلطة الجزائرية لتخفيف الضغوط الداخلية
من جهته، رأى المحلل السياسي والأستاذ بجامعة الجزائر، حسين دوحاجي، في التطور الجديد، محاولة من قبل السلطة لتخفيف الضغوط الداخلية وإعادة توجيه الرأي العام، خاصة بعد سلسلة إخفاقات اقتصادية واجتماعية واضحة للعيان برزت خلال السنوات الثلاث الأولى من عهدة تبون.
وقال دوحاجي، في حديث لـ"العربي الجديد": "أعتقد أنّ ضغط الظروف الداخلية، وخاصة الاجتماعية، والقلق من إخفاق الحكومة في تحسين الظروف المعيشية، والانتقادات المتزايدة من قبل منظمات حقوقية داخلية وخارجية بشأن قضايا الحريات والمعتقلين، لا سيما بعد قضية وفاة الناشط حكيم دبازي داخل السجن من دون محاكمة قبل أكثر من أسبوع، والتي أربكت النظام، إذ لم يصدر بشأنها إلى اليوم أيّ تعليق، هي الدافع نحو محاولة التنفيس عن النظام، بالتوجه نحو لم الشمل وما يمكن أن يسمونه حوارا مجتمعيا".