لا تنفك الرسائل والتصريحات والتحركات الصادرة خلال الآونة الأخيرة، عن كل من الصين وجزيرة تايوان، ترسل إشارات تشي بحجم التوتر المتصاعد بين الطرفين، والذي لم يستبعد معه مراقبون أن تقدم الصين على خطوة متقدمة، من خلال عمل عسكري لـ"استعادة" الجزيرة بالقوة. وعلى الرغم من أن هذا التنبؤ لا يزال مستبعد التحقق في المدى القريب، فحتى تايوان لا تتحدث عن جهوزية صينية لـ"اجتياحها" قبل عام 2025، إلا أن الرقم القياسي من التوغل الجوي الصيني في منطقة دفاعية تايوانية، والذي جرى الأسبوع الماضي، مضافة إليه ورشة التسلح المتصاعدة من جانب تايبيه، لا تعكس أبداً أن الحلول "السلمية"، كما أكد عليها الرئيس الصيني شي جين بينغ، أول من أمس السبت، قابلة للصرف بسهولة. أسباب التوتر الحالي لا تعود إلى مناوشات عادية بين الطرفين، بقدر ما أصبحت تدخل في الصراع في منطقة المحيطين الهندي والهادئ الاستراتيجية، التي أصبحت محط الاهتمام الدولي الأولي، والذي يرتكز على الصعود الصيني المتسارع، والقدرات الصينية العسكرية المتقدمة، والاستنفار الأميركي للحفاظ على تفوق يبدو متراجعاً.
تعتبر تايوان محورية لسياسة واشنطن في الهادئ - الهندي
من هذا المنطلق، بالإمكان فهم الرسائل العديدة التي أطلقتها بكين أخيراً، سواء على المستوى السياسي، أو العسكري، باتجاه تايوان، ورد الأخيرة عليها، فيما تراجعت الولايات المتحدة، المسلح الرئيسي للجزيرة، خطوة إلى الخلف، بعد توقيعها وبريطانيا اتفاق شراكة أمنية وتكنولوجية (نووية) غير مسبوقة، مع أستراليا، وصفها بعض المتابعين بـ"ناتو" جديد في الهادئ – الهندي. وأكد الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي يفترض أن يعقد قمة افتراضية مع شي، قبل نهاية العام الحالي، الثلاثاء الماضي، أنه والرئيس الصيني اتفقا على الالتزام بما يسمى "اتفاق تايوان"، في إشارة إلى سياسة واشنطن طويلة الأمد، والتي تقوم على الاعتراف بالصين، وليس بتايبيه، كدولة، وكذلك قانون العلاقات مع تايوان، الذي يوضح أن قرار واشنطن إقامة علاقات مع بكين، وليس مع تايبيه، مبني على توقعات بأن مستقبل الجزيرة يحدد بالطرق السلمية. لكن القانون يسمح أيضاً لواشنطن ببناء علاقة غير رسمية قوية مع تايوان، وبيعها الأسلحة، وفق القانون الذي يؤكد أن على الولايات المتحدة مساعدة تايوان للدفاع عن نفسها.
وأكد الرئيس الصيني، أول من أمس، في خطاب بمناسبة الذكرى الـ110 لثورة 1911 التي أطاحت آخر أسرة حاكمة صينية، أن "إعادة التوحيد" مع تايوان، التي لا تعترف بها الصين وتعتبرها جزءاً من أراضيها، "ستتحقق" بوسائل "سلمية". واعتبر شي أن "إعادة التوحيد الوطني بالوسائل السلمية تخدم مصالح الأمة الصينية كلها، بما في ذلك المواطنون في تايوان". لكنه حذّر من أن "قضية تايوان شأن داخلي محض بالنسبة للصين، ولا يحتمل أي تدخل خارجي"، في رسالة ضمنية إلى واشنطن. وجاء كلام شي بعدما أقرّ مسؤول أميركي لـ"فرانس برس"، الخميس الماضي، بأن عسكريين أميركيين (وحدات خاصة وتقليدية) يدربون سرّاً "منذ عام على الأقلّ" جيش تايوان لتعزيز دفاعات الجزيرة ضد الصين. وتعليقاً على ذلك، قال المتحدث باسم البنتاغون جون سوبلي: "أودّ أن أؤكد أن دعمنا لتايوان وعلاقتنا الدفاعية يتماشيان مع التهديد الحالي الذي تشكله جمهورية الصين الشعبية". وجاء الكشف، بعدما طالبت تايوان، وكذلك مشرعون وأعضاء في مجلس الشيوخ في الكونغرس الأميركي، بايدن، بتوضيح تصريحه الذي تحدث فيه عن التوافق مع شي حول "اتفاق تايوان".
من جهتها، صعّدت الرئيسة التايوانية، تساي إنغ وين، التي وصلت إلى الحكم في 2016 عن الحزب الديمقراطي التقدمي المؤيد للاستقلال، أمس الأحد، من موقف بلادها. وقالت تساي إن تايوان "لن تتصرف بتهور، لكن يجب ألا تكون هناك أي أوهام على الإطلاق بأن الشعب التايواني سيخضع للضغط"، مضيفة "سنواصل تعزيز دفاعنا الوطني وإثبات تصميمنا على الدفاع عن أنفسنا لضمان عدم تمكن أي أحد من إجبار تايوان على السير في المسار الذي تحدده الصين لنا". ولفتت إلى أن "هذا المسار لا يوفر حرية ولا طريقة حياة ديمقراطية لتايوان، ولا سيادة لـ23 مليون مواطن". وحذّرت من أن الوضع في تايوان "أكثر تعقيداً وميوعة من أي وقت آخر خلال الـ72 عاماً الأخيرة"، وأن الوجود العسكري للصين في منطقة الدفاع الجوي التايوانية يؤثر بشكل خطير على الأمن القومي وسلامة الطيران.
وكانت الصين قد صعّدت طلعاتها الجوية في منطقة الدفاع الجوي لتهديد الهوية، المعروفة بـ"أديز"، والتي تمتد إلى المجال الجوي التايواني، حيث لا يزال على الطائرات التي تدخله التعريف عن هويتها. ففي الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي أرسل سلاح الجو الصيني 38 مقاتلة إلى المنطقة، وخلال الأيام الأربعة التالية قالت تايوان إن الجيش الصيني نشر حوالي 150 مقاتلة في منطقة الدفاع الجوي، وهو ما وصفه وزير الدفاع التايواني شو كيو تشينغ بـ"الاستفزاز الأخطر منذ 40 عاماً". وحذّر تشينغ من "خطر انزلاق الوضع وإطلاق نار بشكل خاطئ"، على الرغم من أن المقاتلات الصينية لم تتخط منطقة الدفاع الجوي لتهديد الهوية. وتعتبر تايوان أن تخطي المقاتلات الصينية لخط غير رسمي بين البلدين "توغلاً". كذلك حذّر الوزير التايواني من أن الصين سيكون بإمكانها شنّ عملية اجتياح كاملة للجزيرة، التي انفصلت عن البرّ الصيني الرئيسي في 1949 عندما استلم الشيوعيون الحكم، بحلول 2025.
وتخشى الصين، التي ترفض أي حوار رسمي مع تايوان وتصفها بالانفصالية، أن تعلن الأخيرة استقلالها من جانب واحد. وتعرض بكين على الجزيرة نموذج الحكم الذاتي "دولة واحدة ونظامان"، الذي يشبه النموذج الذي تستخدمه مع هونغ كونغ، لكن جميع الأحزاب التايوانية الرئيسية ترفض ذلك. ولا يستبعد مراقبون أن يقدم شي على عمل عسكري ضد تايوان، حيث يتوقع أن يبقى في الحكم لولاية ثالثة، على أن تكون "استعادة" تايوان باكورتها.
الصين صعّدت طلعاتها الجوية في منطقة دفاع جوي تايوانية
وتستمد تايوان قوتها بفضل الدعم العسكري الكبير الذي تقدمه الولايات المتحدة لها، فضلاً عن سعيها لتطوير قدراتها الدفاعية مع عزمها بناء أسطول حديث من الغواصات. وكان وصول الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى السلطة عام 2016، وتحويله رسمياً منطقة المحيط الهادئ - الهندي إلى ساحة أولى للاستقطاب السياسي والعسكري، وذلك بين الصين ودول تدور في فلكها من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة من جهة أخرى، قد منح زخماً للأحزاب التايوانية الرئيسية، المطالبة بالاستقلال. وأرسل ترامب في أغسطس/ آب 2020 وزير الصحة والخدمات الإنسانية ألكس عازار إلى تايبيه، ليكون أرفع سياسي أميركي يجري محادثات في تايوان منذ عقود.
وتسعى تايوان اليوم، التي كانت قد شهدت علاقتها بالصين تخفيفاً للتوتر في ثمانينيات القرن الماضي، وكانت لها حوارات غير رسمية قليلة جداً مع بكين، على مرّ عقود طويلة، إلى أن تكون جزءاً أساسياً من استراتيجية الولايات المتحدة في الهادئ – الهندي، وهي الاستراتيجية الوحيدة للدول الكبرى المعنية بالمنطقة، التي تذكر تايوان بالاسم، وتحاول تايوان أن تكون رأس حربة في هذا الصراع، حيث تعمل حثيثاً على توطيد علاقاتها بدول تحالف "كواد" (أستراليا واليابان والهند وأميركا)، والدول المناوئة لسياسة الصين في المنطقة. وتعتبر تايوان من جهتها محورية لسياسة واشنطن في هذه المنطقة الحيوية المهمة، والتي يتنامى فيها النفوذ الصيني، والذي تغذيه بكين بتحركات أكثر استفزازاً و"عدائية" لجيرانها.
وكتب جيا كينغو، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة بكين، بحسب ما نقلت عنه "نيويورك تايمز"، في تقرير نشر أول من أمس السبت، أن "كلاً من الصين وتايوان والولايات المتحدة، ترى اليوم أن احتكاكاتها دخلت دوّامة خطرة، بما يشبه الوضع المثالي قبل هبوب العاصفة"، فيما اعتبرت الباحثة أوريانا سكايلار ماسترو، من جامعة ستافورد، في حديث للصحيفة، أنه "حتى الأصوات المعتدلة في بكين أصبحت تستبعد الخيار السلمي مع تايوان. الخيار العسكري هو الخيار اليوم".
(العربي الجديد)