مشهد جديد يتشكل في الشرق الأوسط، ضمن سماته، إعادة تعين العلاقات الدبلوماسية المدفوعة بتكثيف الاتصالات، والساعية إلى تهدئة التوترات وحل الخلافات العالقة بين قوى الإقليم، وضمن المشهد محطات رئيسية، منها استئناف العلاقات السعودية- الإيرانية بوساطة صينية، وتوجهات نحو كبح المواجهات، كما استعادة مصر علاقاتها مع تركيا، والأخيرة تعيد علاقاتها مع الخليج، الذي أصبح رغم تباينات المواقف أكثر تقارباً مع قمة العلا، التي كانت محطة أولى تطرح إمكانية التهدئة.
يترتب على المشهد الجديد تغيير في الأدوار والمراكز، وتأثيرات في معادلات التفاعل، بما ينعكس على الوضع الإقليمي، وعلاقة دول المنطقة بالقوى الدولية، ويترك ذلك تأثيره على أدوار إسرائيل ومستقبل المواجهة مع إيران، واحتمالات التصعيد في لبنان، وكذلك أوضاع كل من سورية والعراق.
للمشهد المتغير آثاره على القضية الفلسطينية، في ملفات بينها التطبيع وجبهات المقاومة وقدراتها، وكذلك على إمكانيات صياغة مواقف جديدة ترتبط بتفاعلات الأطراف الإقليمية حين تلتقي على طاولة الحوار، وتطرح حدا أدنى من التفاهمات والتنسيق، خاصةً مع تراجع الهيمنة الأميركية نسبياً في المنطقة، وتخوفات إسرائيلية عدة ترتبط بأوضاعها الداخلية وتعدد جبهات المواجهة.
تحمل حالة إعادة التشكل في العلاقات الدبلوماسية احتمالات فرز جديدة، وربما حالة ارتباك وفوضى وتنازع على القيادة، يتزامن مع تفاعلات السياسة الدولية الحالية، التي تعطي مساحة للمناورة والتفاوض في عدة ملفات إقليمية، ورغم هذا يغيب طرح مشروع واضح تجتمع عليه القوى الإقليمية بشأن الصراع مع دولة الاحتلال، وهذا يمثل معضلةً رئيسيةً، تدفع للحذر من تعليقات تحمل تفاؤلاً كبيراً حول مستقبل الصراع في المنظور القريب.
يبقى احتمال عزل إسرائيل صعباً، لكن إذ ما استطاعت الكتل الإقليمية التقارب والاتفاق على مشروع في مواجهة التوسع الإسرائيلي، يمكن مقاومتها على الصعيد الدبلوماسي، وحصارها في المنظمات الدولية
كما تختلف مواقف القوى الإقليمية بشأن القضية الفلسطينية، فهناك قوتان تتعاطيان معها بقدر من التوظيف السياسي، هما السعودية وإيران، الأخيرة تتصلب مواقعها في مواجهة مخططات إسرائيلية تستهدفها، في حين تسعى السعودية إلى حيازة نفوذ على الساحة الفلسطينية، كما سبق لها طرح المبادرة العربية للسلام شرطاً للتطبيع الرسمي، لكن ذلك لا ينفي وجود علاقات تعاون مع تل أبيب في ملفات أمنية وقطاعات استثمارية.
على صعيد القوى الدولية؛ علاقة الصين بالقضية الفلسطينية هامشية، حتى وهي تطرح نفسها في الشرق الأوسط بقوة الآن، وتحاول موسكو تقوية اتصالها بالفصائل الفلسطينية في الآونة الأخيرة، لكن لا تسجل حضوراً فاعلاً حتى الآن.
مرتكزات الوضع الإقليمي
تلعب جغرافيا المنطقة والمهددات والصراعات ومشروعات التعاون الاقتصادي بما فيه ملفات الطاقة دوراً مؤثراً في صياغة الوضع الإقليمي، بالإضافة إلى القوتين العسكرية والاقتصادية، ذلك في ظرف يتسم بتعدد الفاعلين، وتجاوز تقسيم النفوذ التقليدي، الذي كان قاصراً على خمس دول، هي تركيا ومصر والسعودية وإيران وإسرائيل.
ورغم ما في المشهد من تغييرات حالية، تبقى بعض المنطلقات والمصالح الاستراتيجية، لذا من المهم النظر إلى مستوى التغيرات ونتائجه بموضوعية، وعدم الانجرار خلف توصيفات تعتبرها انقلاباً أو زلزالاً سياسياً كما وصفت، رغم مظاهر التهدئة في المشهد، فإن ذلك لا يعنى بالضرورة تصفير الخلافات أو نفي التناقضات كما يشاع، ولكن يمكن النظر إلى التغيرات كنتاج لنظرة عملية، تسعى إلى تقليل تكاليف المواجهات، وبناء طرق تعاون تحد من الأزمات، وتبقى لكل قوة حساباتها ومرتكزاتها، التي لن تتغير بسهولة من منطق المواجهة والتنافس إلى التعاون والتحالف، هذا على الأقل في المنظور القريب وضمن معادلات القوة الحالية.
ما زال هناك هيمنة أميركية مدعومة بالتسلح، وتلعب دوراً في تأمين مصالحها، والحفاظ على دور دولة الاحتلال الوظيفي، وربما كان الاتفاق السعودي الإيراني أحد مخارج دول الخليج من مأزق سيتسع إذا حدثت مواجهة بين إسرائيل وإيران، والتي ستضر دول المنطقة نتيجة عوامل جيوسياسية أو ربما نتيجة رد فعل إيراني يمس استقرار ومصالح دول الخليج، إذا استهدفت إسرائيل إيران بمساعدة الإدارة الأميركية.
دوافع إعادة التشكل
تبقى الحروب والأزمات الاقتصادية عاملين رئيسيين في تحديد سياسات الدول الخارجية ونشأة التحالفات، وهي أيضاً تعيد تشكيل خريطة العلاقات والأنماط السياسية والاقتصادية، كما جرى بعد الحرب العالمية الثانية. خلال ثلاثة أعوام مضت؛ شهد العالم تداعيات جائحة كورونا، ثم الحرب الأوكرانية الروسية، ومعهما تعمقت آثار أزمتي الغذاء والطاقة، ويكتسب ملف الطاقة أهمية كبرى تستدعي الحفاظ على الاستقرار والأمن ووقف التصعيد كلما أمكن، والعمل على التعاون وتقليل آثار التنافس السلبية على الموارد وحيازة النفوذ، وربما يلقى دمج إيران وتركيا إقليمياً ترحيباً في هذا الإطار، وينظر إليه على صعيد القضية الفلسطينية كفرصة للتعاون والتشاور وتنسيق المواقف.
حالة القوى الإقليمية
ضمن الوضع الإقليمي؛ تسعى بعض القوى إلى لعب أدوار أكثر استقلالية عن واشنطن، إذ تراهن دول الخليج على ثرواتها النفطية وتأثيرها في أوبك، في ظل أزمة طاقة عالمية، وهذا خلخل معادلة الأمن مقابل إمدادات النفط، خاصةً مع استئناف العلاقات مع إيران، كما توسع الرياض علاقتها مع الصين وروسيا والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا في تجمع بريكس، ما يحقق توازناً سياسياً واقتصادياً، ومساحات للنفوذ دولياً. والتحقت مصر أخيراً بالتجمع، كما عدلت الرياض والقاهرة استجاباتها الدبلوماسية مع تركيا، ولا ينفصل ذلك عن ملف الغاز الذي يجمع كلاً من تركيا ومصر ولبنان وإسرائيل وإقليم كردستان العراق في حلقات متصلة من التنافس والصراع والتعاون.
كانت العلاقات الإيرانية المصرية فاترة منذ الثورة الإسلامية 1979 واتفاقية كامب ديفيد، وظلت رهينة ارتباطات القاهرة مع واشنطن ودول الخليج، إضافةً إلى ملف أمن البحر الأحمر، ولا يبدو أن العلاقات ستشهد تطوراً كبيراً في المستقبل القريب.
للمشهد المتغير آثاره على القضية الفلسطينية، في ملفات بينها التطبيع وجبهات المقاومة وقدراتها
كما لعب ظرف القوى الإقليمية الاقتصادي، خاصةً مصر وإيران وتركيا، دوراً في تعديل سياساتها الخارجية، حيث تشهد الدول الثلاث تراجعاً في عملاتها المحلية وارتفاعاً في معدلات التضخم، وانكماشاً اقتصادياً، وتراجعاً في معدلات النمو، وتسعى جميعها إلى جذب استثمارات سريعة لدعم اقتصادها، غير الأزمات السياسية.
ومع تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية، كانت القضية الفلسطينية موضوعاً لاتصالات دبلوماسية بين إيران وتركيا وباكستان، وخلال يوم القدس العالمي استعرضت قوات البحرية الإيرانية أسلحتها في المياه الجنوبية والشمالية كدعم للشعب الفلسطيني، وعبرت الفصائل الفلسطينية عن تطلعها نحو تأثير إيجابي لعودة العلاقات السعودية الإيرانية، بما فيها دعم قوى المقاومة، التي تطور أداءها وقدرتها على التنسيق منذ ثلاث سنوات، كما ظهر خلال الحرب على غزة 2021.
احتمالات التصعيد
سعت إيران إلى الحصول على تعهدات مطمئنة من دول الخليج، في ظل تحسبها لضربة إسرائيلية، ربما تستخدم فيها الأخيرة منطقة الخليج والقواعد الأميركية في الإمدادات اللوجستية، خاصةً مع شمول معاهدات التطبيع على تعاون أمني، لكن مع استئناف العلاقات الخليجية الإيرانية جرى التعهد بعدم الإضرار بها، وبدا أن إيران تعهدت بعدم التدخل في شؤون الدول العربية، والحفاظ على استقرار نسبي في المياه الدولية والإقليمية يضمن تدفقات النفط.
على الساحة اللبنانية، تبدو الأوضاع مهيئة للحرب، وربما تكون منطقة لممارسة إيران سياساتها الرمادية، والحرب بالوكالة، وخلال الأشهر الماضية، كانت هناك وقائع تعد رسائل لإسرائيل، منها تسلل عبر الحدود اللبنانية، وزرع عبوة ناسفة، تلا ذلك إطلاق ما يزيد عن 30 صاروخاً من جنوب لبنان على شمال إسرائيل، بالتزامن مع إطلاق صواريخ من غزة، رداً على العدوان الإسرائيلي المتصاعد في القدس، وتزامن إطلاق الصواريخ مع زيارة قادة من حماس إلى بيروت، في حين كان رد إسرائيل بالغارات الجوية، محسوبا ولا يستهدف التصعيد وفتح جبهات متعددة، كما جعل التنسيق والاتصال بين غزة ولبنان إسرائيل مرتبكة ومحاصرة، وهو مشهد قريب من حالة الاتصال بين حراك الأراضي المحتلة في القدس والمقاومة في غزة.
تتصاعد المواجهة بين إيران وإسرائيل وأميركا، بسب قدرة طهران على تصنيع قنبلة نووية، وهو ما يدفع تل أبيب وواشنطن إلى حصار طهران، والأخيرة تسعى إلى الرد بخطوات تحد إمكانيات إسرائيل على التصعيد، عبر مواجهات في لبنان والعراق وسورية، حيث استهدفت مواقع تمركز أميركي في سورية والعراق، وأهدافا إسرائيلية من خلال الحدود اللبنانية، ورغم ذلك النمط من المواجهة، لا يستبعد خيار الحرب التقليدية، التي أعادت طرحها روسيا في أوكرانيا، وشاركت فيها أطراف دولية وإقليمية بأشكال مختلفة، قدمت السعودية مساعدات لأوكرانيا، كما كشفت وثائق مسربة حديثاً عن تزويد دول عربية روسيا بأسلحة، وكذلك قدمت إيران مسيرات لموسكو، كما قدمت تركيا مسيرات لأوكرانيا.
وفي هذا الظرف يمكن فهم تكثف نشاط البحرية الأميركية، كرسائل ردع مزدوجة لإيران وموسكو، وضمن ذلك تحركات أسلحتها البحرية منها الغواصة "فلوريدا"، بهدف فرض الأمن والاستقرار البحري، الذي ترى أنه معرضٌ للخطر، كما سبق وتعرضت ناقلات وسفن شحن بريطانية وإسرائيلية للاستهداف بأسلحة متنوعة، مسيرات وصواريخ وألغام، وربما يتكرر ذلك مستقبلاً، وهو ما يستدعي الاهتمام الأميركي بتأمين الممرات البحرية وطرق التجارة، بما فيها باب المندب والبحر الأحمر وخليج عمان، خشيةً من حدوث هجمات جديدة تستهدف الناقلات التجارية والسفن الحربية.
مستقبل التطبيع
أصبحت مستهدفات توسيع التطبيع اليوم أكثر صعوبة، دون نفيها، ويرجع ذلك لأسباب منها سياسات حكومة اليمين المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو، التي واجهت تحفظاً حتى من الإدارة الأميركية، ومعها أصبحت أطرافٌ عربيةٌ مترددةً في اتخاذ خطوات التطبيع، والذي كان حصاده هزيلاً ونتائجه لصالح دولة الاحتلال بالمطلق.
ضمن السياق ذاته؛ تأتي مواقف الرياض المترددة بشأن تنفيذ تفاهمات وصول حجاج إليها من إسرائيل عبر طيرانٍ مباشرٍ، والذي يعد غطاءً لمسار التطبيع التدريجي، سبقه سماحها للطيران الإسرائيلي في عبور أجوائها، لكنها اليوم تعيد طرح التطبيع مرتبطاً بمبادرة السلام العربية.
على الساحة اللبنانية، تبدو الأوضاع مهيئة للحرب، وربما تكون منطقة لممارسة إيران سياساتها الرمادية، والحرب بالوكالة
يمثل التطبيع مع السعودية هدفاً مهماً لتل أبيب، لما تمتلكه الرياض من تأثير في العالم الإسلامي يسهل تطبيعها معه مستقبلاً، ويوسع نفوذها دولياً بما فيها أدوار الوساطة، كما طرحت دولة الاحتلال رغبتها في الوساطة بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، خلال مواجهات عسكرية جرت ضمن الصراع على السلطة.
ويمكن أن يكون ضمن نتائج مستجدات الوضع الإقليمي، وإعادة تشكل العلاقات الدبلوماسية، تراجع التنافس على أسس تقسيم المنطقة لانتماء شيعي سني، وهو ما الحق ضررا بالقضية الفلسطينية، وزاد حدة الصراعات عربيا.
كما يمكن تخفيف الضغوط الرامية إلى توسيع دوائر التطبيع، أو ما يتعلق بالوساطة، خاصةً بالنسبة للقاهرة، ما يخلق وضعاً أفضل، وأدواراً فاعلةً لصالح الفلسطينيين، ويمكن في سيناريو متفائل نشوء تنسيق يشمل إيران ومصر والسعودية وتركيا، خاصةً بعد تراجع مساعي واشنطن لإنشاء تحالف إسرائيلي عربي في مواجهة إيران، ضمن مشروع الشرق الأوسط، الذي أعيد طرحه مع موجة التطبيع الثالثة، لكن خوف الأطراف العربية من التورط في مواجهات حال توجيه ضربة إسرائيلية؛ بمعاونة واشنطن، ضد إيران، كان ضمن أسباب تراجع المشروع.
ويبقى احتمال عزل إسرائيل صعباً، لكن إذ ما استطاعت الكتل الإقليمية التقارب والاتفاق على مشروع في مواجهة التوسع الإسرائيلي، يمكن مقاومتها على الصعيد الدبلوماسي، وحصارها في المنظمات الدولية، ويبقى خيار المقاومة مرتبطاً بتطور الحالة الفلسطينية، وما يمكن تقديمه من مختلف الأطراف لدعم كافة الأشكال النضالية، الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني وصموده البطولي.