منذ توقيع اتفاقيات التطبيع بين دولتي الإمارات والبحرين مع إسرائيل، سادت قراءة تقدم الاتفاقيات في سياق الأمن القومي والتعاون الاقتصادي للدول الموقعة. يأتي ذلك على خلفية إعادة تعريف التهديدات الأمنية في المنطقة بصورة تتجاوز العقيدة الأمنية الرسمية التي سادت خلال العقود الماضية والتي وضعت إسرائيل في مركز تلك التهديدات نحو عقيدة جديدة تحصر المخاطر الأمنية بكل من إيران وتركيا، فضلاً عن الإسلام السياسي. تلك هي الرواية الرسمية التي قدمها مسؤولو الدولتين في إطار الترويج للاتفاق وتبريره: لقد حققنا استقلالنا وأمننا الحقيقي بعقد تلك الاتفاقيات، وتحررنا من قيود الأمن العربي المشترك والعواطف الشعبية التي تصادر سيادتنا القومية لصالح سيادة وأمن عربي متوهم.
تعتمد هذه القراءة السائدة اليوم على التيار الواقعي في نظرية العلاقات الدولية والتي تفسر السياسة الخارجية لأي دولة والتحالفات التي تقيمها باعتبارها مدفوعة بتحقيق الأمن المتبادل وحمايتها من تهديدات دول أخرى بصرف النظر عن هوية تلك الدول. يمكن أن يتأسس التحالف، إذن، مع عدو "أقل شرا" لمواجهة "العدو الأول" في تراتبية متغيرة لقائمة الأعداء، كما كان الحال في تحالف الدول الغربية مع الاتحاد السوفييتي لمواجهة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية. في حالتنا، احتلت إيران وتركيا المراتب الأولى في سلم "الشر" لدى الدول المطبعة.
وتبدو إسرائيل أحد أكثر الحلفاء موثوقية، ذلك أن سلامة النظام الإقليمي الاستبدادي تشكل أحد أهم أعمدة أمنها القومي
يمكن انتقاد هذه النظرية بسبب تغييبها للبعد الداخلي للدول، وبصورة خاصة في الشرق الأوسط، حيث تهمين دول تسلطية. في هذا السياق، يولد الفصل بين المصالح القومية للدولة والمصالح الضيقة للنظام خللاً في التحليل. عند أخذ العوامل الداخلية بالحسبان، تتبدل وحدة التحليل من "الدولة" لـ"النظام" ويظهر جانب آخر للأمن هو جانب غير عسكري، يلعب دوراً كبيراً في تفسير سلوك الدول. بينما يسأل رئيس دولة في مكان ما من العالم عند عقد تحالفات سياسية وعسكرية عن أثرها على تعزيز قوة الدولة، يسأل "النظام" وزعيمه في دولة تسلطية عن أثر التحالف على فرص البقاء في الحكم. وتبدو إسرائيل أحد أكثر الحلفاء موثوقية، ذلك أن سلامة النظام الإقليمي الاستبدادي تشكل أحد أهم أعمدة أمنها القومي.
بهذا المعنى، يعتمد مفهوم الأمن هنا على الموازنة بين التهديدات الداخلية والخارجية من أجل النجاة. لقد أنشأت تلك النظم الجيوش والمؤسسات الأمنية تحسبا لصراعات داخلية وليس خارجية فقط. فالحقيقة أنها نادرا ما استخدمت على الصعيد الخارجي وخصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يمنع نادي الدول العظمى، مع وجود استثناء واضح لإسرائيل، استخدام الحرب كوسيلة تقليدية كان لها دور بارز في انتقال دول متوسطة القوة إلى دول عظمى عالمياً أو اقليمياً. في تاريخنا الحديث، لم يجر إسقاط نظم دكتاتورية من الخارج بصورة متكررة. حدث ذلك في حالات قليلة، مثل أوغندا عيدي أمين، والعراق صدام حسين، وكمبوديا بول بوت، وبنما مانويل نورييغا. بالمقابل، أطاحت ثورات داخلية بعشرات ومئات الحكام. منذ نهاية الحرب العالمية، تكاد تكون الحروب بين الدول قد اختفت فيما ازدادت النزاعات داخل الدول بأضعاف مضاعفة، فضلاً عن الانقلابات العسكرية التي تجاوزت مئتي انقلاب. وبسبب الحقبة الاستعمارية التي ساهمت بتأسيس تلك الدول على قاعدة تنوع إثني وطائفي ولدت مجموعات داخلية يمتد ولاؤها لخارج حدود الدولة، رفع ذلك من أهمية البعد الداخلي في تعريف الأمن بالنسبة لهذه النظم، ودفع لتأسيس مصالح ضيقة، ومنع تشكل وتطور مصالح قومية تمثل الدولة والشعب بصورة واسعة. وأخيراً، رفع الربيع العربي من أهمية تحالفات الاستبداد والطغيان في المنطقة.
اليوم تنضم إسرائيل لتكون جزءاً من عقيدة أمنية راسخة في المنطقة وتشكل أحد سمات النظام الإقليمي العربي الذي تعتمد معظم أنظمته في أمنها على تحالفات إقليمية ودولية بدلا من الشرعية الداخلية.
علاقات القوة خلف خطاب التعاون الاقتصادي
أما الرواية الثانية المستخدمة لتبرير اتفاقيات التطبيع وفهم أسبابها، فتنطلق من مدرسة ليبرالية في نظرية العلاقات الدولية لا ترى أن النظام العالمي قائم على التوجس المتبادل والنزاع وتوازنات القوى فقط، بل على التعاون أيضا. يمكن للدول أن تكون "عقلانية" وترفع من مستويات التعاون البيني لتحقيق الخير المشترك والمنفعة التبادلية، بحسب هذه النظرية. هكذا نجد أن نصوص معاهدات التطبيع تشير إلى تعاون في كافة المجالات. ويشمل ذلك الاستثمار والطيران والمياه والطاقة والسياحة والصحة والبيئة والاتصالات والزراعة والتكنولوجيا وعلوم الفضاء.
بالطبع، تتجاهل هذه النظرية وجود بنى وعلاقات قوة تجعل اتفاقيات التعاون، التي تبدو وكأنها مصممة لتحقيق الخير المشترك، تصب في مصلحة أحد الطرفين بصورة كبيرة، بل وربما تكرس خضوع طرف للآخر. كان ذلك هو الحال مع اتفاقيات أوسلو وشقها الاقتصادي الذي وقعته القيادة الفلسطينية تحت عناوين المنافع المشتركة والتي كرست خضوع الاقتصاد الفلسطيني لدولة الاحتلال. وهو الحال أيضا بما يخص معظم الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية بين الدول الغربية ودول العالم الثالث.
ان فائض رأس المال المتراكم في تلك الدول يعاد تدويره في الاقتصاديات الغربية، وسوف يعاد تدوير جزء مهم منه في دولة الاحتلال
يخفي "خطاب التعاون" موقع كل دولة في "علاقة التعاون" الحقيقية والتي لا تقوم بالضرورة على سياسات متكافئة تنتهي بالنفع المتبادل، بل على "علاقة" بين طرفين غير متكافئين تعود بمنافع غير متكافئة وذلك بسبب هيمنة أحدهما على التكنولوجيا وامتلاك القدرة على إنتاج سلع ذات كثافة رأسمالية عالية وبقدرات تنظيمية تخصصية. تبدو تلك العوامل حاسمة وهي تضع إسرائيل في مكان متفوق للغاية بما يخص منافع علاقات التطبيع.
سوف تستفيد إسرائيل من تدفق رأس المالي الإماراتي والبحريني كما استفادت الاقتصاديات الغربية وأميركا من ذلك في العقود الماضية، وكان ذلك أحد عوامل هيمنتها على السوق المالي العالمي والذي عزز هيمنتها السياسية والعسكرية خلال العقود الماضية. إذ تدفق فائض رأس المال الناتج عن بيع الطاقة في دول الخليج العربي للبنوك الأميركية وسوق الأسهم. كما شكلت الدول المستهدفة باتفاقيات التطبيع في العقدين الماضيين سوقاً هاماً وواسعاً لشركات دولية في قطاعات اقتصادية مختلفة. وأخيرا، تشكل تلك الدول سوقاً واسعاً لبيع الأسلحة والمعدات العسكرية. باختصار، كان فائض رأس المال المتراكم في تلك الدول يعاد تدويره في الاقتصاديات الغربية، وسوف يعاد تدوير جزء مهم منه في دولة الاحتلال الإسرائيلي بفعل اتفاقيات التطبيع.
يرفض الرأي العام العربي بأغلبية ساحقة الاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها
وفضلاً عن تدفق رأس المال نحو إسرائيل، قدرت وزارة الاقتصاد الإسرائيلية أن تصل الصادرات الإسرائيلية للإمارات والبحرين إلى نحو 500 مليون دولار في العام، ويشمل ذلك سلعا عالية التقانة ورأس المال، مثل المعدات الطبية والأجهزة التقنية والإلكترونية والخدمات التكنولوجية وأمن المعلومات، فضلاً عن السلاح والخدمات المرافقة له. حدث ذلك بالسر خلال العقد الماضي، حيث عملت وزارة الخارجية الإسرائيلية كوسيط لدى شركات إسرائيلية تقنية تريد توسيع نشاطها في دول خليجية عربية. كما كان يتم ذلك عبر طرف ثالث لا يحمل جواز سفر إسرائيلي ويجري إرساله من قبل شركات إسرائيلية لبيع منتجاتها وعرض خدماتها. اليوم تزول تلك العوائق وتذهب تلك المنتجات بصورة علنية وقد كتب عليها "صنع في إسرائيل".
يرفض الرأي العام العربي بأغلبية ساحقة الاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها. وتشعر الدول المطبعة أو تلك التي تتحضر للتطبيع بالمخاطر الداخلية المحتملة من جراء ذلك، وإن تفاوتت بحسب قوة هذا الداخل وحيوته. ولكن الأمر يبقى مقلقاً حتى لدولة لا تواجه تحديات داخلية مباشرة مثل الإمارات، التي تعود بين الفينة والأخرى لتقديم الاتفاقية باعتبارها "تضحية" من أجل عيون الفلسطينيين. وكانت آخر تلك المحاولات في الحديث عن تفاوضها مع دولة الاحتلال لكي تحظى المناطق الفلسطينية بشيء من المنافع الاقتصادية الناجمة عن التطبيع وعن تدفق رأس المال الإماراتي لفلسطين. ولكن، قبل إطلاق ادعاءات الحرص على الفلسطينيين، على الدول المطبعة أن تشغل نفسها بحجم وأهمية المنافع التي ستحصل عليها لنفسها أولاً، وهي تبدو بائسة للغاية؛ أكثر بؤساً من اتفاق التطبيع.