خلقت عملية "طوفان الأقصى" (2023/10/7)، مناخًا مختلفًا على أكثر من صعيد، على نحوٍ ألقى بظلالٍ من الشك على استمرارية الترتيبات الأميركية في إقليم الشرق الأوسط، خصوصًا ما يتعلق بمآلات عملية التطبيع مع إسرائيل، ومسار العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية.
عبر تحليل سياقات هذا الحدث وتداعياته الأوليّة، يمكن الوقوف على خمسة عوامل/ متغيرات تتحكّم في مآل عملية التطبيع الإقليمي مع إسرائيل؛ أوّلها تبدّل موقع العامل الفلسطيني في المعادلات الإقليمية، وبروز الإرادة الذاتية الفلسطينية، ومبادرة فصائل المقاومة إلى الهجوم، وقدرتها على "مفاجأة" قوات الاحتلال ومستوطني "غلاف غزّة"، ما يؤكد استحالة تجاوز قضية فلسطين وتجاهل صمود شعبها، خصوصًا في ظلّ محدودية نجاح مقاربات "الحلّ الإقليمي"، وصفقة القرن، واتّفاقات أبراهام.
على الرغم من وجود تحدّياتٍ كبيرةٍ أمام المقاومة الفلسطينية في سعيها لإحياء المشروع الوطني واستعادة مكانة قضية فلسطين عربيًا وإقليميًا ودوليًا، فإن تصاعد روح العدوانية الإسرائيلية وهيمنة نزعة الانتقام الأعمى على سلوك قوات الاحتلال والمستوطنين يمكن أن يلعبا دورًا مهمًّا في تغيير اتجاهات الرأي العامّ الغربي على نحوٍ يفضح أكاذيب الدعاية الإسرائيلية و"ازدواجية المعايير" لدى القوى الدولية الداعمة لها، كما تجلّى إبان ارتكاب قوات الاحتلال مجزرة المستشفى الأهلي المعمداني في غزّة (2023/10/17)، التي أدت إلى إلغاء قمة عمّان، الأميركية الأردنية المصرية الفلسطينية، على الرغم من استمرار ضعف خطاب سلطة رام الله، وعدم ارتقائه إلى مستوى التحدّي الإسرائيلي- الأميركي المتصاعد.
تقود إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ما يشبه "التحالف الدولي/ الغربي ضدّ حرية فلسطين وشعبها"
يتعلق العامل الثاني بتأثير تصاعد البعد الشعبي العربي، وضغوط الشارع، وخروج المظاهرات، في عرقلة وتيرة التطبيع العربي الإسرائيلي، (وهو ما يظهر واضحًا في مصر والأردن والمغرب)، مع التأكيد على أمرين؛ أحدهما إمكانية توظيف نظم التطبيع العربية لهذا البعد لتحقيق مصالح معينة (مثل تعزيز شرعيتها الداخلية، أو رفض القاهرة وعمّان ضغوطًا لقبول تهجير الفلسطينيين).
والآخر زيادة الفجوة بين المواقف الشعبية والرسمية العربية بشأن فلسطين، ما يفتح الباب لتعظيم دور الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في احتمال إطلاق موجةٍ جديدةٍ من الحراك في المنطقة العربية، ربّما تعود القضية الفلسطينية إلى مركز التفاعلات العربية والإقليمية، وذلك على الرغم من استمرار عداء بعض المواقف العربية لحركات المقاومة، خصوصًا حماس والجهاد الإسلامي، ورفض الانفتاح عليهما، أو حتّى مجرد إجراء اتصالاتٍ سياسيةٍ معهما.
واستطرادًا في تحليل الترابط بين تهميش قضية فلسطين عربيًا، وتفاقم أزمات نظم التطبيع العربية، واحتمال استمرار مستوياتٍ من التطبيع مع إسرائيل، تبرز معضلات غياب الرؤية الاستراتيجية العربية لطبيعة الخطر الإسرائيلي المتربص بالمنطقة إجمالًا، وخطورة تزايد التنافس العربي على الرضا الأميركي، وتحوّل نظرة بعض النخب العربية لإسرائيل بوصفها "موازنًا إقليميًّا لإيران".
يتعلق العامل الثالث المؤثر في مسارات التطبيع بتضعضع "الصورة الإسرائيلية"، ومحدودية الخيارات الإسرائيلية وتآكل قدراتها على ردع المقاومة الفلسطينية، (ناهيك عن ردع حزب الله وإيران)؛ إذ يبدو أنّ حركتي حماس والجهاد الإسلامي قد وظّفتا "هشاشة" الوضع الداخلي الإسرائيلي، وسياسات حكومة بنيامين نتنياهو تجاه أزمة "التعديلات القضائية"، لحشر إسرائيل في الزاوية، وإظهار عجزها عن توسيع حربها نحو "الجبهة اللبنانية"، على الرغم من سياسة "التسخين المتدرج"، التي ينتهجها حزب الله.
المؤكّد أن عملية "طوفان الأقصى" قد ألحقت أذىً هائلًا بصورة إسرائيل، ومكانتها الإقليمية، على نحوٍ يقتطع من "ثقة" دول التطبيع في نجاعة البرامج والقدرات التقنيّة والتجسسية الإسرائيلية، التي فشلت فشلًا ذريعًا في مواجهة كفاءة المقاتل الفلسطيني، في النيل من سمعة "الجيش الذي لا يُقهر".
يتعلق العامل الرابع بموقفي طهران وأنقرة من العدوان الإسرائيلي، واحتمال نجاحهما في التأثير على السياسات الأميركية/ الإسرائيلية تجاه قطاع غزّة؛ إذ تصاعد الخطاب الإيراني في انتقاد الممارسات الإجرامية الأميركية/ الإسرائيلية تجاه قطاع غزّة، واتسعت مساحة حركة الدبلوماسية الإيرانية مستفيدةً من تقاربها مع السعودية. كما شهد الموقف التركي تحولًا نوعيًا بعد دعوة الرئيس رجب طيب أردوغان (25/10/2023) إلى وقف إطلاق نارٍ عاجلٍ، وفتح ممرٍ إنسانيٍ لإدخال المساعدات لقطاع غزّة دون عوائق، وعقد مؤتمر سلامٍ فلسطينيٍ إسرائيليٍ دوليٍ إقليميٍ برعاية دولٍ ضامنةٍ.
تضمنت رسائل أردوغان أربع إشاراتٍ مهمةٍ؛ التأكيد أنّ "حماس ليست منظمةً إرهابيةً"، وإبراز صمت النظام العالمي عن مقتل الأطفال والنساء في غزّة، والحاجة إلى تطوير مجلس الأمن والأمم المتّحدة للخروج من حالة العجز، وازدواجية معايير الدول الغربية، المدينة لإسرائيل، في مقابل تركيا غير المدينة لإسرائيل بأيّ شيءٍ.
يتعلق العامل الخامس بانعكاسات البعد الدولي على حرب غزّة؛ إذ تقود إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ما يشبه "التحالف الدولي/ الغربي ضدّ حرية فلسطين وشعبها"، الذي يتقاطر أركانه لزيارة إسرائيل، وإظهار الدعم الكامل لها، وتبنّي "السردية الإسرائيلية" دون تحفّظاتٍ، على التوازي مع تكثيف سياسات "شيطنة الفلسطينيين"، خصوصًا حركة حماس، مع محاولة استدعاء سردية "مكافحة الإرهاب" من جديد، إلى صدارة الأجندات الدولية والإقليمية، مع تجاهلٍ تام لحقوق الشعب الفلسطيني، ولا سيّما إهدار إنسانية أهل غزّة، عبر استعادة آلية المؤتمرات الإقليمية والدولية الرامية لاختزال قضية فلسطين في الأبعاد الإغاثية والإنسانية، وتجريدها من أبعادها السياسية والتحررية، والإصرار على تكريس التطبيع الإقليمي مع إسرائيل ودمجها في المنطقة العربية، سياسيًّا واقتصاديًّا واستراتيجيًّا، كأنّ مجازر لم ترتكب، ولا شيء تغير.
بينما تستمر على الجانب الآخر سياسات موسكو وبكين في توظيف تصاعد المأزق الأميركي في فلسطين، وغيرها من الأماكن، تظهر مواقف لافتةٌ أقرب لإنصاف الحقّ الفلسطيني، مثل البرازيل وجنوب أفريقيا، ناهيك عن المظاهرات الحاشدة في مدنٍ عالميةٍ وعربيةٍ عدّة، احتجاجًا على همجية السلوك الإسرائيلي.
تصاعد روح العدوانية الإسرائيلية وهيمنة نزعة الانتقام الأعمى على سلوك قوات الاحتلال والمستوطنين يمكن أن يلعبا دورًا مهمًّا في تغيير اتجاهات الرأي العامّ الغربي
يبقى القول إنّ عملية "طوفان الأقصى" قد أوجدت فرصةً ثمينةً يمكن استثمارها في عرقلة مسار التطبيع الإقليمي مع إسرائيل، بيد أنّ صعود العامل الفلسطيني لن يؤتي ثماره المرجوة دون حصول تغيرٍ جذريٍ في سياسات الدول العربية الكبيرة (مصر والسعودية والجزائر)، مع تشكيل وقيادة ائتلافٍ دبلوماسيٍ عربيٍ لدعم قضية فلسطين، وتوسيعه (عبر التنسيق مع دول مثل جنوب أفريقيا ونيجيريا وتركيا وإيران وباكستان وأندونيسيا وماليزيا والفاتيكان وروسيا والبرازيل.. إلخ)، علمًا أنّ تمادي إسرائيل في سياساتها الوحشية تجاه فلسطين، وعودة أطروحات التهجير والتوطين، تحمل في طياتها "تهديدًا حقيقيًّا"، في المديين المنظور والمتوسط، لاتّفاقيات السلام المصرية والأردنية مع الجانب الإسرائيلي.