تحل الذكرى الخامسة والسبعون لنكبة فلسطين في ظل مناخ دولي تسوده صراعات عديدة، أبرزها الحرب الدائرة في أوكرانيا والمنافسة مع الصين، من دون أن تكون قضية فلسطين على الأجندة. رغم وجود أخبار وأحداث طوال الوقت عن فلسطين وقضيتها غير المحلولة، ووجود رأي عام عالمي متعاطف مع الفلسطينيّين، تبقى النّكبة مستمرة بسبب سياسات إسرائيل الاستعماريّة، وبسبب عدم أخذ إجراءات حقيقيّة من قبل الأنظمة العربيّة لوقف النكبة، في الوقت الذي تُقدّم فيه الدول الغربيّة الدعم الدائم لإسرائيل، تستمر حكومات هذه الدول بإصدار ببيانات تدين ممارسات الاحتلال، وتدعو لإنهاء ما يسمونه "الصراع"، عن طريق الحل السلمي والمفاوضات بين "الطرفين".
يأخذ التضامن الدولي مع فلسطين أوجه عدّة، ولعل ذكرى النكبة في مايو/أيّار 2023 تعكس حالة هذا التضامن، والتحديّات في التضامن مع القضيّة الفلسطينيّة على أكثر من صعيد. ففي بعض الدول على سبيل المثال، أصبح إحياء الذكرى ممنوعًا كما حصل في ألمانيا بكل هدوء، ودون ضجيج إعلامي للسنة الثانية على التوالي، إذ يتعرض من يقوم بذلك في برلين؛ التي تملك جالية فلسطينيّة تناهز الثمانين ألفاً، للاعتقال من قبل الشرطة الألمانيّة والمحاكمة. ما زال العديد من الناشطين يتعرضون للمحاكمات بسبب مشاركتهم العام الماضي في مسيرة ذكرى النكبة، وأظهرت إفادات عناصر الشرطة، أنهم اعتقلوا أفرادًا بدوا لهم "فلسطينيّين".
في الولايات المتحدة، عطّل رئيس مجلس النواب الأميركي كيفن مكارثي إحياء النكبة من خلال مناسبة كانت ستعقدها النائبة الأميركيّة الفلسطينيّة عن الحزب الديمقراطي، رشيدة طليب، في الكونغرس الأميركي، حين غيّر حجز القاعة التي كان من المفترض استضافتها أمسية للحديث عن مآسي النكبة، محولًا الحجز لأمسية أخرى تتحدث عن العلاقات الأميركيّة الإسرائيليّة في مناسبة تأسيس إسرائيل. رغم ذلك، نجحت طليب في إقامة الحدث، لكن في مجلس الشيوخ وسط حضورٍ واسعٍ من حركات التضامن، والجالية الفلسطينيّة، منهم من عايش التطهير العرقي عام 1948.
إن ساحة الرأي العام الدولي، هي الساحة التي لم تنتصر إسرائيل فيها على الفلسطينيّين، بل العكس، التعاطف الموجود كبير وملموس
أمّا الحدث الذي تصدّر العناوين في إحياء الذكرى هذا العام، كان قرار الأمم المتّحدة بإحياء ذكرى النّكبة لأول مرّة في اجتماع رسمي عُقد في مقرّها بنيويورك ولمرّة واحدة، بناءً على قرار اعتمدته الجمعيّة العامة في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، خلافًا على ما جرت العادة في إحياء النكبة بشكل غير رسمي بمبادرة من "اللجنة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني حقوقه غير القابلة للتصرف"، وممثلية فلسطين في الأمم المتّحدة. يُذكر أن الولايات المتحدة قد قاطعت الحدث.
وفي مسعى لقوننة إحياء الذكرى، قدّمت النائبة البريطانيّة الفلسطينيّة ليلى موران، مشروع قانون يدعو الحكومة البريطانيّة لإحياء ذكرى النكبة. موران وهي المتحدثة باسم الشؤون الخارجيّة للحزب الليبرالي الديمقراطي؛ طُردت عائلتها من فلسطين عام النكبة، دعت إلى أن تعترف المملكة المتحدة بدورها التاريخي في المنطقة. يدعو القانون إلى تشجيع وتسهيل إحياء النكبة كل عام.
بعيدًا عن أروقة الحكومات والبرلمانات حول العالم، تستمر الحركات العالميّة المتضامنة مع الفلسطينيّين في تنظيم نشاطات في الذكرى، إذ شهدت عواصم ومدن حول العالم الكثير من المسيرات والنشاطات لإحياء الذكرى، حيث تلعب هذه الحركات والمجتمع المدني الدور الأبرز في التوعية والتأثير على الرأي العام، من خلال النشاط المستمر طوال السنة وليس في ذكرى النكبة فقط. تتحول هذه المناسبة لالتقاء الجاليات الفلسطينيّة والعربيّة مع القوى والمنظمات والناشطين المحليّين في كل دولة حول العالم، للعمل والخروج في موقف واحد تجاه قضية فلسطين، وينتج عن ذلك مبادرات تسلط الضوء على القضيّة، منها ما يتطور لعمل مؤسساتي أو عمل خيري لدعم الفلسطينيّين.
ومن خلال هذا التفاعل الحاصل، تحقق هذه الحركات نجاحات لصالح عملية وقف النكبة المستمرة؛ إن كانت بسيطة لكن ذات رمزيّة مهمة يمكن البناء عليها، مثل نشاط حركة المقاطعة حول العالم الـ BDS. خلال الأشهر الأخيرة، تبنت بلدية مدينة ليج البلجيكيّة مقاطعة إسرائيل نهائيًا، على غرار ما فعلته بلديّة برشلونة، ما يعزز إحراز نجاحات أكثر مستقبلًا. وألغى عددٌ من الفنانين حفلاتهم في إسرائيل، بعد ضغوط حملة المقاطعة كان آخرها الفنان البريطاني سام سميث. كذلك يستعد ناشطون دوليّون هذه الأيام لإطلاق سفينة جديدة لكسر الحصار على غزّة، حيث بدأت جولتها في بعص الموانئ الأوروبيّة. ولا يمكن تجاهل النشاطات الثقافيّة الكثيرة منها مهرجانات السينما، التي تلعب هي الأخرى؛ على صعيدي التنظيم والأثر، دورًا مهمًا في النشاط التضامني.
ويبرز إحياء ذكرى النكبة في نشاط حركة تضامن دوليّة جديدة تبرز على الساحة، تتبنى أسلوب العصيان المدني لدعم الفلسطينيّين ووقف النكبة، وهي حركة "بالستاين أكشن" البريطانيّة، التي تستهدف مباشرةً مصانع الأسلحة الإسرائيليّة الموجودة في المملكة المتحدة، من خلال عمليات تخريب وإلحاق الأضرار، وحصارها بالاعتصامات. نجحت الحركة العام الماضي بإغلاق فرع لشركة "ألبيت" الإسرائيليّة، التي تصنّع المسَيَّرات، وتجرّبها على الفلسطينيّين، لبيعها حول العالم. تسعى الحركة إلى الانتقال في فعل التضامن التقليدي مع فلسطين إلى مستويات جديدة، بهدف إحداث تغيير حقيقي على الأرض، في ما يتعلق بمحاصرة صناعة السلاح الإسرائيليّ، وتكنولوجيّاته دوليًا، ونظمت خلال ذكرى النكبة هذا العام عدة عمليّات تخريب واستهداف لأفرع الشركة الإسرائيليّة.
تبقى قضية فلسطين حاضرة دومًا لدى القوى والحركات المناهضة للإمبريالية والساعية إلى تحقيق العدالة، حتى أن العديد من الحركات الناشطة في قضايا البيئة حول العالم، أدرجت فلسطين في عملها وفهمها لعلاقات القوى الدوليّة المسببة لأزمة المناخ، كذلك أيضًا الحركات النسويّة والكويريّة. تاريخيًا كانت القضيّة الفلسطينيّة ملهمة لحركات التحرر حول العالم، وشهدت الثورة الفلسطينيّة حضورًا دوليًا مهمًا فيها، وما زلنا نرى تمثلات ذلك لدى الكثير من الحركات وطلبة الجامعات واتحاداتهم التي تتبنى المقاطعة.
يأخذ التضامن الدولي مع فلسطين أوجه عدّة، ولعل ذكرى النكبة في مايو/أيّار 2023 تعكس حالة هذا التضامن
يمكننا القول إن ساحة الرأي العام الدولي، هي الساحة التي لم تنتصر إسرائيل فيها على الفلسطينيّين، بل العكس، التعاطف الموجود كبير وملموس. إسرائيل ومؤيديها يدركون ذلك، ويسعون إلى محاصرة ما ينتج عن هذا التعاطف الدولي من نشاطات وحركات، عبر تهمة معاداة السامية، وقلب معادلة التعاطف مع الفلسطينيّين إلى تهمة في معاداة اليهود، رغم وجود الكثير من اليهود في حركات التضامن الناشطة.