التعبئة العسكرية المستمرة منذ أيام في منطقة بحر البلطيق، غربياً وروسياً، دفعت بوزير خارجية السويد الأسبق، كارل بيلدت، إلى اعتبار ذلك جزءاً من الأزمة الروسية الغربية، وبأنه "تذكير بتوترات ستينيات القرن الماضي".
التحشيد والتعبئة العسكرية في البلطيق ليسا بمعزل أيضاً عن عتب أوروبي على غياب سياسة حزم ألمانية حيال موسكو، وإن عدّلت، على ما يبدو، نتائج "ضعيفة" لزيارة وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، إلى موسكو الثلاثاء الماضي، ولقاء المستشار أولاف شولتز، الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، الثلاثاء أيضاً، بعض المواقف الألمانية، لا سيما حيال مشروع "نورد ستريم 2" (سيل الشمال 2) لنقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق.
تحشيد سويدي دنماركي في بحر البلطيق
تصاعد التوتر في البلطيق دفع الثلاثاء الماضي، وزارة الدفاع السويدية إلى الطلب من مواطنيها "عدم تصوير الانتشار العسكري ونشره على وسائل التواصل الاجتماعي".
التحرك الإسكندنافي والغربي في البلطيق، ليس بمعزل عن تحركات روسية علنية في المنطقة
وخلال الأيام الماضية، لوحظ الإعلان عن توسيع الانتشار العسكري السويدي في منطقة جزيرة غوتلاند على بحر البلطيق، والتي كانت مسرحاً لما يصفه السويديون "انتهاكات روسية" منذ العام 2014.
وتزامن ذلك مع إعلان السويد أخيراً، عن أن طائرات بدون طيار شوهدت الأسبوع الماضي تحوم فوق أو بالقرب من محطات الطاقة النووية الثلاث في البلاد؛ "فورسمارك" شمال استوكهولم، و"أوسكارشامن" في الجنوب الشرقي للبلاد، و"رينغهالز" على الساحل الغربي للسويد.
وتم الإعلان مجدداً، الثلاثاء، عن أن طائرة مسيّرة، عادت لتظهر فوق المفاعل النووي في شمال العاصمة استوكهولم. وتتحدث وزارة الدفاع السويدية عن "طائرات بدون طيار مجنحة"، ويحذر خبراء من أن يكون ذلك في إطار "رسائل روسية".
الدنمارك من جهتها، تستمر بثبات، بتعزيز وضع الجزيرة التابعة لها في بحر البلطيق، بورنهولم، الصخرية الإستراتيجية في فترة الحرب الباردة، تزامناً مع تصديها لاقتراب الطائرات الروسية من مجالها الجوي بشكل متكرر، في حين نشر حلف شمال الأطلسي فرقاطات، آخرها هولندية، وصلت عبر بحر الشمال.
التحرك الإسكندنافي والغربي في البلطيق، ليس بمعزل عن تحركات روسية علنية في المنطقة. فخلال الفترة الماضية، كان يمكن مشاهدة سفن إنزال وفرقاطات روسية تجوب المياه الدولية في البلطيق وخارجه.
عودة أجواء الحرب الباردة بين روسيا والغرب
وخلال الأسابيع القليلة الماضية، عادت منطقة بحر البلطيق إلى دائرة الاهتمام في سياق شد أعصاب بين الطرفين الروسي والغربي.
وتنظر موسكو، كما يفعل حلف الأطلسي، إلى هذا الجزء من شمال القارة العجوز، ببالغ الاهتمام من الناحية الدفاعية. فهي منطقة تضم دول البلطيق (السوفييتية السابقة) الصغيرة، إستونيا وليتوانيا ولاتفيا، وبولندا واسكندنافيا، كما أنها مجال حيوي جداً لألمانيا.
والتعبئة والتحشيد العسكريان يعيدان إلى أذهان شمال أوروبا الغربية، فترة الحرب الباردة والوضع المحفوف بالمخاطر، كما كان في تلك الفترة.
وحتى وإن كانت الحشود الروسية تتركز على جبهة أوكرانيا، فإن استعراض القوة في البلطيق، وليس فقط من جيب كالينينغراد الروسي بين بولندا ودول البلطيق، بل بدءا من أقصى الشمال الشرقي لروسيا مروراً أمام النرويجيين والدنماركيين في بحر الشمال، يؤخذ بشكل جدي.
أهمية منطقة البلطيق
شكلت منطقة بحر البلطيق أهمية إستراتيجية لموسكو والغرب منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) وحتى الاتفاق بشأن تقسيم ألمانيا ومن ثم توحيدها (1945 و1990).
فجزيرة بورنهولم الدنماركية شكّلت قاعدة متقدمة لدفاعات حلف شمال الأطلسي، وخصوصاً مقابل بولندا وألمانيا الشرقية سابقاً. وضمت الجزيرة قواعد تجسس على حلف وارسو، المقابل لحلف الأطلسي الغربي آنذاك.
البلطيق ليس فقط مهماً من الناحية الدفاعية، بل يشكّل أيضاً شرياناً حيوياً لمرور الغاز الروسي
من جهتها، بدأت جزيرة غوتلاند السويدية، على بعد نحو 90 كيلومتراً من البر السويدي، تحتل مكانة متقدمة بعد تفكك الكتلة الشرقية، وتحوّل السويد إلى "دولة مواجهة" مع روسيا.
وغير بعيد عن غوتلاند وبورنهولم، يقع جيب كالينينغراد الروسي (بين بولندا ودول البلطيق)، حيث يقدر الغربيون احتواءه على صواريخ روسية تكتيكية، ويعتبرون ذلك خرقاً لاتفاقيات الحد من نشر الصواريخ، خصوصاً أن بعض الصواريخ الموجودة من نوع "إسكندر" بمدى 500 كيلومتر، والقادرة على حمل رؤوس نووية، تستطيع الوصول بشكل سريع إلى الأهداف في دولهم.
البلطيق ليس فقط مهماً من الناحية الدفاعية، بل يشكّل أيضاً شرياناً حيوياً لمرور الغاز الروسي؛ سواء من خلال مشروع "سيل الشمال 1" (نورد ستريم 1) أو "سيل الشمال 2"، الذي عاد أخيراً إلى الواجهة بقوة.
عتب وضغوط على ألمانيا
وفي الآونة الأخيرة، وجدت برلين نفسها في دائرة العتب والانتقادات المبطنة من بعض الدول الغربية، التي وصفت سياساتها الخارجية والدفاعية بـ"المترددة والخجولة"، بما في ذلك انتقاد الدبلوماسية المكوكية الأخيرة لوزيرة الخارجية الألمانية عن حزب "الخضر"، أنالينا بيربوك، بين كييف وموسكو.
فألمانيا التي عارضت تزويد أوكرانيا بأسلحة دفاعية، تعرّضت لضغوط لإظهار بعض الحزم في البلطيق، وذلك لما تشكله من ثقل في قاطرة عمل الاتحاد الأوروبي، كدولة رائدة لا ينبغي أن تظهر مرتبكة ومتراخية.
وقالت ثلاثة مصادر مطلعة لوسائل إعلام إن وزارة الخارجية الأميركية سمحت لكل من ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا بإرسال صواريخ أميركية الصنع وأسلحة أخرى إلى أوكرانيا.
وقال أحد المصادر إن اتفاقات النقل إلى طرف ثالث ستسمح لإستونيا بنقل صواريخ "جافلين" المضادة للدبابات إلى أوكرانيا، بينما سيُسمح لليتوانيا بإرسال صواريخ "ستينغر".
وأكد مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية من برلين، حيث بدأ وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لقاءات مع الأوروبيين تتمحور على أوكرانيا، أن الولايات المتحدة "تسرّع عمليات النقل المصرح بها للمعدات الأميركية المنشأ من جانب حلفاء آخرين".
وبنظر عدد من الخبراء والمحللين بشأن توتر علاقات موسكو بالغرب، فإن موقف ألمانيا "يؤثر سلباً على وحدة الموقف الداخلي الأوروبي من روسيا"، وهو ما ذهب إليه أحد أبرز الخبراء الألمان في الشأن الروسي في "مركز أبحاث السياسة الخارجية الألمانية"، ستيفان مايستر.
ورأى مايستر، بحسب ما نقلت عنه صحف أوروبية وألمانية أخيراً، أن موقف برلين المتردد "يقوض دور ألمانيا ويظهرها ضعيفة" مع المستشار أولاف شولتز.
تعرّضت ألمانيا لضغوط لإظهار بعض الحزم في البلطيق ولا سيما بشأن "نورد ستريم 2"
وعلى ما يبدو، فإن زيارة بيربوك الأخيرة إلى كل من كييف وموسكو لم تحقق الكثير، كما توقع لها البعض.
وعليه يبدو أن برلين، بعد زيارة الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ستضع خط الغاز الروسي العابر للبلطيق "نورد ستريم 2"، على طاولة الضغط السياسي-الاقتصادي، بعد أن ظلّت لسنوات تقول إنه "خط تجاري يجب أن يبقى بعيداً عن السياسة"، وهو ما عرّضها في زمن المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، لانتقادات غربية وأميركية، بالحديث عن تحوّل الخط إلى ورقة ابتزاز روسية.
وعزز الانتقادات أخيراً، حديث وزارة الدفاع الألمانية الأسبوع الماضي، عن أن خط الغاز "لا ينبغي أن يكون جزءاً من الصراع الجاري". ويستشهد البعض في سبيل تبرير هذا الموقف، باعتبار أن "نورد ستريم 2" كان يستمر تمديده حين تدخلت روسيا في جورجيا (2008) وأثناء ضم شبه جزيرة القرم (2014).
المستشار الألماني، شولتز، وبعد لقائه ستولتنبرغ، وربما بفضل النتائج غير الحاسمة للقاء بيربوك في موسكو مع نظيرها الروسي سيرغي لافروف، الثلاثاء الماضي، حسم الجدل حين سُئل عن "نورد ستريم 2"، بقوله "يمكن مناقشة كل شيء إذا غزت روسيا أوكرانيا".
آخر التقارير السويدية بشأن البلطيق تفيد، بعد تصريح شولتز، بأنّ سفن الإنزال الروسية "بدأت تختفي عن الأنظار"، من دون أن يتضح ما إذا كانت غادرت لتخفيف التوتر مع تزايد الحشود الغربية، أم أنه مجرد تكتيك آخر لتقسيم مواقف الأوروبيين الشماليين.
وفي المجمل، يتوقع الكثير من الخبراء في السياسات العسكرية الروسية، استمرار حالة التوتر وتزايدها في البلطيق، حال جرى فعلياً تنفيذ سياسة الضغط الأقصى على موسكو في هذه المنطقة من شمال القارة العجوز.