البرلمان اللبناني في عامه الأول: إخفاقات وجمود

17 مايو 2023
بري في إحدى جلسات انتخابات الرئاسة اللبنانية (حسين بيضون)
+ الخط -

أنهى مجلس النواب اللبناني عامه الأول، بفشلٍ في انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية وإبقاء البلد في حال شغور رئاسي منذ 31 أكتوبر/تشرين الأول 2022 (تاريخ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون)، وفي إقرار قوانين إصلاحية تحدّ من النزيف المالي المستمر، وسط اتهامات له بتفشيل البرامج الإنقاذية، ومحاولة تمرير مشاريع تشرّع حماية المصارف، بعدما أصبحت في مرمى التحقيقات الأوروبية والدعاوى المحلية والخارجية.

وعلى الرغم من بعض التفاؤل الحذر الذي كان عند اللبنانيين من إمكانية إحداث البرلمان الجديد الذي انتخب في 15 مايو/أيار 2022 خرقاً في المشهدين السياسي والاقتصادي، خصوصاً أن الانتخابات غيّرت التوازنات، بيد أن الامتحان الأول سجّل انتصاراً للمنظومة، على مستوى رئاسة مجلس النواب ونائبها، بفوز رئيس البرلمان نبيه بري، والنائب إلياس بو صعب، ومن ثم تقاسم السلطة اللجان النيابية برئاساتها وغالبية أعضائها، لتبقى متحكمة بمواقع الحكم والقرار، على وقع تشتت النواب الذين يُصنَّفون بالتغييريين والمستقلّين والمعارضين وعدم قدرتهم على توحيد صفوفهم.

ولم ينجح البرلمان على مدى 11 جلسة بانتخاب رئيسٍ للبلاد، آخرها في 19 يناير/كانون الثاني الماضي، بينما لا يزال منطق "حزب الله" سائداً بالتلويح بفرض مرشحه، رئيس "تيار المردة" سليمان فرنجية، للرئاسة أو الفراغ.

وشهدت الجلسات الـ11 تكراراً لسيناريو تأمين نصاب الدورة الأولى، أي غالبية الثلثين (86 نائباً من أصل 128)، قبل تطيير نصاب الدورة الثانية بانسحاب نواب "حزب الله" و"حركة أمل" (بزعامة بري)، وحلفائهما، إلى أن علّق بري الجلسات، وفقاً للصلاحية الممنوحة له بصفته رئيساً للبرلمان، ما يجعله متحكماً بإدارة العملية الانتخابية، وأكد في أكثر من مناسبة أنه لن يدعو إلى جلسة قبل حصول نوع من التوافق السياسي.

لم ينجح البرلمان على مدى 11 جلسة بانتخاب رئيسٍ للبلاد

العام الأول للبرلمان اللبناني

وحول العام الأول من البرلمان اللبناني، يقول المستشار في التنمية ومكافحة الفقر، أديب نعمة، لـ"العربي الجديد"، إنه لا يمكن الحديث عن توقعات كبيرة عند الناس حول المجلس النيابي الحالي، إذ يجب ألا ننسى أن بالكاد 50 في المائة من اللبنانيين شاركوا في الاقتراع، وقلّة منهم شاركت بحماسة مع تمنيات بإعادة تشكيل السلطة، ولا سيما لناحية المغتربين، فكان اختراق 13 نائباً في التيار التغييري. مثلاً، منطقة عكار في شمال لبنان، وهي الأفقر والأكثر تأثراً بالأزمة، شهدت أسوأ نتائج بالانتخابات من منظور التغيير.

من ناحية ثانية، يرى نعمة، أنه يمكن تقييم أداء المجلس النيابي لو كنا نعيش في نظام ديمقراطي برلماني، وفي ظل مؤسسات شرعية قائمة، وفيما لو كان البرلمان سلطة تشريعية رقابية فعلية تمثل الناس، وهذا ليس حال لبنان، حتى العملية الانتخابية ليست جزءاً من العملية الديمقراطية إلا من الناحية الشكلية، والقانون الانتخابي بدوره رديء وغير دستوري.

وبالتالي، فإن العملية السياسية في لبنان ليست ديمقراطية، فالسلطة قمعت الحركة الديمقراطية، ولاحقتها، واعتدت عليها في التحركات، وتحاول في كل مناسبة إسكات صوتها. ويشير إلى أن المسار الديمقراطي الوحيد كان في انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، أما المسارات الأخرى فهي مضادة للديمقراطية وهمّها القضاء عليها.

ويعتبر نعمة أن البرلمان الحالي شهد اختراقاً على صعيد 13 نائباً تغييرياً، ولم يعد هناك كتلة عددية حاسمة داخله، وبالتالي، فإن كل ما يحتاج إلى إخراج قانوني تشريعي بات محلّ صراعٍ لسبب عددي، لذلك، فإن أداء البرلمان تغيّر بناء على هذا التوازن العددي الذي لم يعد محسوماً كالسابق، وساهم فيه انسحاب كتلة المستقبل برئاسة سعد الحريري من الحياة السياسية، على الرغم من أن بعض "ملائكتها" لا تزال حاضرة.

لكن في المقابل، يشير نعمة إلى أن التغير العددي الذي حصل داخل البرلمان، لم يعطله بالجوانب الرئيسية، وميزان القوى لم يتغير في القضايا الجوهرية الحقيقية بما يسمح بتنفيذ إصلاحات إنقاذية، فالمنظومة تعود وتتوحد حول القوانين التي تصبّ في صالحها أو صالح المصارف، وهو ما نراه مثلاً في قانون إعادة هيكلة المصارف.

ويضيف نعمة: "هناك أزمة على صعيد الأداء البرلماني لمجلس لا يجتمع، فعلى الرغم من أن البرلمان لم يعد بكامله بمثابة دكانة لرئيسه نبيه بري، بيد أنه لا يزال يتحكّم به ويقفله ويفتحه ساعة يشاء، حتى أن محاضر الجلسات تتبدل لاحقاً وتختلف عمّا يكون قد اتفق عليه في الجلسة، من هنا نحن نعيش مرحلة انتقالية، لكن لا نعرف كيف المخرج، وإذا كان هذا المخرج هو الحل أو مجرد استراحة محارب".

من ناحيته، يرى الخبير في السياسات العامة، نزار غانم أن المجلس الحالي فشل فعلياً في إقرار أي من القوانين المطلوبة للإنقاذ المالي بالبلد، وتحديداً موضوع إعادة هيكلة المصارف، ولم يفعّل قانون "كابيتال كونترول" حقيقي، بينما كل المشاريع التي طرحت، مصممة لإنقاذ المصارف، وهذا متوقع لأن توازن القوى في مجلس النواب ليس لصالح الناس بل للكتل نفسها التي أقرت كل السياسات المالية منذ التسعينيات حتى اليوم.

وعلى صعيد أداء نواب التغيير، يقول غانم في حديثٍ مع "العربي الجديد"، إن مساهمتهم كانت جيدة جداً نسبياً، للعام الأول، خصوصاً أنهم تمكنوا من إعلاء الصوت داخل المجلس، وإظهار مسودات القوانين قبل دخولها إلى اللجان، فتمكنا كقوى حراك شعبي، من تحريك الرأي العام حولها قبل تمريرها من جانب المنظومة".

نزار غانم: نواب التغيير لم يتمكنوا من تأسيس خطاب سياسي متماسك

ويعتبر أن ما يحتاجه نواب التغيير هو موقف مشترك في إطار السياسات العامة، فبدل محاولة فتح معركة حول رئاسة الجمهورية، كنا ننتظر فتح معركة حول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمودعين والناس، الصراعات هنا كانت بشكل فردي ولم يتمكنوا من تشكيل كتلة وازنة بموقف سياسي متماسك بهذا الخصوص.

كذلك يقول غانم، إن نواب التغيير لم يتمكنوا من تأسيس خطاب سياسي متماسك، لكن علينا ألا ننسى أنهم كتلة صغيرة جداً في البرلمان، ولا يملكون قوة كبيرة لإقرار رؤيتهم التقدمية في إطار التشريعات وهم بموقف صعب. من هنا يجب الالتفاف حولهم بالشارع، على أن تكون المعركة باستخدام النواب حصاناتهم لتأجيج الشارع أكثر، فالمسؤولية تتحملها القوى السياسية التقليدية التي تملك حصة الأسد في البرلمان.

إخفاق نواب التغيير

وفي سياق أداء النواب التغييريين الذي كان يعوّل عليه قسم كبير من اللبنانيين، يقول الناشط السياسي، علي مراد، الذي ترشح في الانتخابات الأخيرة في منطقة الجنوب اللبناني ولم يفز، لـ"العربي الجديد"، إن الإخفاق على مستوى نواب التغيير تجلى بعدم قدرتهم على إنتاج صيغة مشتركة وتشكيل جبهة سياسية أو تكتل سياسي. وهذا أمر لا يتحملون مسؤوليته على المستوى الشخصي، بل مرتبط بالصعوبات التي تواجهها الحالة التغييرية ككلّ في لبنان، مع ترك النواب من دون حاضنة أساسية وهم لم يعرفوا أيضاً كيفية التواصل مع هذه الحاضنة بالقدر الكافي.

مراد: الإخفاق على مستوى نواب التغيير تجلى بعدم قدرتهم على إنتاج صيغة مشتركة وتشكيل جبهة سياسية أو تكتل سياسي

ويرى مراد أن الانقسام الذي حصل بين النواب التغييريين مرتبط بأكثر من سبب، أولها ترتيب الأولويات والعلاقة مع الأطراف المعارضة الأخرى الموجودة في البرلمان، وكيفية التعاطي معها، من جهة التوازن بين مبدأ رفض التعامل مع السلطة، وفي الوقت نفسه التواصل احياناً مطلوب باعتبارهم أنهم موجودون في البرلمان.

ويشير مراد إلى أن لا أغلبية واضحة وحاسمة في البرلمان الحالي بكل الملفات، لكن لا يزال "حزب الله" وحلفاؤه على تناقضاتهم قادرين على تشكيل أغلبية. وتجربة النواب التغييريين أظهرت أن هناك جواً بديلاً في مجلس النواب لا ينحصر بالأطراف التقليدية، والتحدي يبقى في كيفية التعاطي مع القوى كلها، التي تتقاطع معهم من دون الذوبان فيها أو التراجع عن مواقفهم المبدئية، إذ إن التوازن يحتاج إلى مرونة وتمسك بالمواقف المبدئية.

بدورها، تقول المحامية في "رابطة المودعين" دينا أبو زور، لـ"العربي الجديد"، إن "البرلمان لم يتأخر فقط في إقرار القوانين المتّصلة بالأزمة المالية، بل حاول في أكثر من مناسبة تفريغ قوانين إصلاحية من مضمونها، وطرح تعديلات من خارج أي خطة متكاملة للحلّ، تأتي في سياق الإمعان بسياسة الحلول الترقيعية".

وتشير أبو زور إلى أن "مجلس النواب لم يقم بأي تحرّك جدّي لناحية الحلّ، علماً أنه المؤسسة الوحيدة القادرة في ظلّ الأزمات على تحمّل زمام الأمور، وأخذ المبادرات والقرارات الصعبة من خلال قوانين لها أيضاً صفة لازمة، أبرزها إعادة هيكلة المصارف، الأمر الذي لم يحصل، نظراً للمصالح السياسية التي تتلاقى مع السلطة المصرفية، وعرابها حاكم المصرف المركزي رياض سلامة".

دينا أبو زور: مجلس النواب تخلّى عن دوره، وحلّت محله تعاميم المصرف المركزي

وتلفت أبو زور إلى أن "مجلس النواب تخلّى عن دوره، وحلّت محله تعاميم المصرف المركزي، حتى الاقتراحات ومشاريع القوانين المُقدّمة، انطلقت من روحية هذه التعاميم، بدليل مشروع قانون كابيتال كونترول، الذي حاولت الكتل النيابية التقليدية تمريره، واسقطناه أكثر من مرّة، كونه يهدف إلى حماية الطغمة المصرفية الحاكمة".

وتشير أبو زور أيضاً إلى أن هناك مغالطات كثيرة حصلت حول دور مجلس النواب ودستورية تشريعه في ظلّ الشغور الرئاسي، علماً أن تشريع الضرورة مطلوب إذا كان هناك ما يمسّ الأمن القومي أو الأمن المالي وهو حال لبنان، لكن لا إرادة سياسية لإقرار القوانين الإصلاحية، من هنا، تمسّكوا بمبدأ أن مجلس النواب تحول إلى هيئة انتخابية لا يحق له التشريع.

المساهمون