الاقتطاع من الرواتب لردع تغيب البرلمانيين في المغرب

30 يوليو 2023
تفاقمت غيابات البرلمانيين خلال السنة التشريعية المنتهية (جلال مرشدي/الأناضول)
+ الخط -

أنهى مجلس النواب (الغرفة الأولى للبرلمان المغربي) الاثنين الماضي، دورته التشريعية الربيعية (تبدأ في الجمعة الثانية من شهر إبريل/نيسان الماضي) على وقع تفعيل قرار الاقتطاع من تعويضات (رواتب) النواب المتغيبين، وذلك في فصل جديد من فصول مواجهة ظاهرة باتت خلال السنوات الأخيرة، تؤرق المؤسسة التشريعية المغربية، لما لها من تداعيات سلبية على المشهدين البرلماني والسياسي.

وفي وقت تتحدث فيه مصادر برلمانية أن غيابات البرلمانيين تفاقمت خلال السنة التشريعية المنتهية، بسبب "تساهل" و"تقاعس" مكتب مجلس النواب لمدة طويلة عن تفعيل آليات الجزاء المنصوص عليها في المادة 147 من النظام الداخلي للمجلس، كان مثيراً للانتباه قرار المكتب التوجه رأساً إلى الجزاء الثالث، الخاص بعدم حضور أعضاء المجلس في الجلسات العامة بالاقتطاع من التعويضات الشهرية في حق المتغيبين منهم بدون عذر للمرة الثالثة أو أكثر في نفس الدورة.

رشيد لزرق: الاتجاه للاقتطاع من التعويضات يُظهر أن المشرع عاجز عن مواجهة غياب النواب

وتنص المادة 147 من النظام الداخلي لمجلس النواب على "ضرورة حضور النائبات والنواب جميع الجلسات العامة". كما تشترط على من أراد الاعتذار عن الحضور ضرورة توجيه رسالة إلى رئيس المجلس مع بيان العذر.

ووفق المادة 105 من النظام الداخلي للمجلس، فإن البرلماني يمكنه التغيّب بعذر، لا سيما في حالة حضور العضو نشاطاً رسمياً بدائرته الانتخابية، أو قيامه بمهمة نيابية أو رسمية داخل أرض الوطن أو خارجه، أو "لوجوده في إجازة مرضية، أو وجود نائبة في رخصة ولادة، أو المشاركة في دورات مجالس الجماعات الترابية أو الغرف المهنية بالنسبة للنائبات والنواب الذين يتحملون مسؤولية بهذه المجالس أو الغرف. في حين تنص المادة 106 من النظام نفسه على نشر أسماء البرلمانيين المتغيبين في النشرة الداخلية والجريدة الرسمية للمجلس والاقتطاع من أجورهم.

عودة ظاهرة غياب البرلمانيين

وعادت ظاهرة غياب البرلمانيين لتطفو على السطح خلال الدورة التشريعية الربيعية الأخيرة، بعدما شهدت العديد من الجلسات العمومية غياباً لافتاً للنواب، من أبرزها الجلسة المنعقدة في 18 يوليو/تموز الحالي لمناقشة تقرير المجموعة المختصة حول "السياسة المائية"، والتي عرفت غياباً كبيراً للبرلمانيين، البالغ عددهم في الأصل 395 نائباً.

وقبل ذلك سُجل غياب أكثر من 270 برلمانياً عن الجلسة العامة التي عقدت الشهر الماضي، لمناقشة التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات، ما أثار جدلاً داخل البرلمان وانتقادات، ودفع مكتب المجلس إلى التفكير في وسائل أكثر صرامة لتضييق الخناق على البرلمانيين المتغيبين.

ولا يقتصر غياب البرلمانيين على الجلسات العامة، وإنما كذلك عن جلسات اللجان الدائمة، إذ تُظهر محاضر بعض تلك الجلسات غياب أكثر من نصف أعضاء تلك اللجان بدون مبرر.

وفي الوقت الذي اختار فيه مكتب مجلس النواب الاقتطاع من رواتب البرلمانيين للحد من ظاهرة التغيب، يفتح القرار الباب أمام أسئلة كثيرة حول مدى قدرة ذلك الإجراء على ردع المتغيبين، والحد من ظاهرة تسيء إلى المؤسسة التشريعية في البلاد وصدقيتها.

اضطرار البرلمان لتطبيق العقوبات المالية

ورأى رئيس مركز شمال أفريقيا للدراسات والأبحاث وتقييم السياسات العمومية، رشيد لزرق، أن غياب البرلمانيين صار ظاهرة مستفحلة يحاول البرلمان مواجهتها أدبياً عبر قراءة أسماء المتغيبين منهم في بداية الجلسات العامة، من دون أن يفلح في ذلك، ما اضطره حالياً إلى تطبيق العقوبات المالية.

وقال لزرق، في تصريح لـ"العربي الجديد": "واقع الحال يؤكد أن الاقتطاع من التعويضات لن يسهم في مواجهة ظاهرة الغياب، بالنظر إلى أن جل النواب لا يأبهون لاقتطاع مبلغ 1000 درهم (نحو 100 دولار) عن كل يوم غياب من التعويضات التي يتلقونها نظير عملهم التشريعي".

واعتبر أن "غياب البرلمانيين يظهر صعوبة تنزيل الخيار الديمقراطي، الذي يعتبر تمثيل الأمة شرفاً ومسؤولية وتعاقداً بين الشعب وممثليه". ولفت إلى أن الاتجاه إلى الاقتطاع من التعويضات يظهر أن المشرع عاجز عن مواجهة غياب النواب، مؤكداً أن مواجهة الظاهرة هي من مسؤولية الأحزاب السياسية التي تقدم مرشحيها، ليس بغاية تمثيل المواطنين وتنزيل مشروع سياسي، وإنما همها الظفر بالمقاعد البرلمانية بكل الطرق.

أما أستاذ القانون الدستوري في جامعة الحسن الأول في سطات، عبد الحفيظ اليونسي، فاعتبر أن غياب البرلمانيين عن الجلسات العامة وأعمال اللجان ليس بالظاهرة الجديدة في الممارسة البرلمانية المغربية، وأن حجمها يختلف من ولاية تشريعية إلى أخرى، جراء السياق السياسي والرهانات السلطوية المنتجة للنخبة البرلمانية.

استفحال ظاهرة غياب النواب

وأوضح اليونسي، في حديث لـ"العربي الجديد" أن الولاية التشريعية الحالية تعرف استفحالاً للظاهرة، إذ يتم التصويت على مشاريع أو مقترحات قوانين مهمة للدولة والمجتمع بنسب تصويت بالكاد تحقق النصاب المطلوب، بل يتم في أحيان كثيرة تحريك الهواتف لتوفير ذلك النصاب.

عبد الحفيظ اليونسي: الولاية التشريعية الحالية تعرف استفحالاً لظاهرة غياب النواب

وتابع أن "هناك ضعفاً حقيقياً في مستوى النقاش وكذلك الحضور، ما يوضح أن النخب البرلمانية في هذه الولاية هي في الحقيقة، إما مشكّلة من الأعيان أو من عائلات برلمانية، أو ممن يستغل البرلمان لحل إشكالاته الشخصية أو إشكالات دائرته الانتخابية".

ورأى أن الاقتطاع من التعويضات الممنوحة للبرلمانيين كآلية لمحاربة الغياب في صفوفهم تدبير شكلي لن يحد من المشكل، لافتاً إلى أن المحكمة الدستورية يمكنها، وانطلاقاً من وظيفتها الدستورية في مراقبة النظام الداخلي لغرفتي البرلمان، تطبيق مناهج عملها لتحقيق مبادئ الدستور الممثلة أساساً في مبدأ التمثيلية، الذي يشير إليه الفصل الثاني من الدستور المغربي.

وأضاف: "ليس هناك حل سحري أو جذري لمواجهة الظاهرة، لكن على الأقل يمكن الاقتداء بالجماعات الترابية، فالغياب لثلاث دورات متتالية أو خمس طيلة الولاية الانتدابية وبدون عذر يقبله المجلس يكون سبباً كافياً لتحريك مسطرة العزل".

من جهته، رأى أستاذ العلوم السياسية في الكلية متعددة الاختصاصات في مدينة تازة، إسماعيل حمودي، أن التلويح بالاقتطاع من تعويضات البرلمانيين بات سلوكاً يتكرر عند نهاية كل سنة تشريعية، وهو تعبير عن خلل في تفعيل النظام الداخلي للمجلس أساساً. ففي الوقت الذي يجب أن يكون الاقتطاع جزاء كل متغيب إجراء اعتيادياً، يلاحظ العكس، أي التلويح المتكرر بدون تفعيل.

التغيب عن البرلمان معطى راسخ

وأكد حمودي لـ"العربي الجديد" أن التغيب عن البرلمان معطى راسخ، خصوصاً في أعمال اللجان الدائمة. ولفت إلى أنه بالرغم من إقرار الإجراء المتعلق بالاقتطاع المالي إلا أن ذلك لم يحل دون تفاقم الظاهرة، لأسباب عدة، أولها عدم تطبيق الإجراء المتعلق بالاقتطاع بطريقة منهجية ومنتظمة، وثانيها محدودية ذلك الاقتطاع في حد ذاته، خصوصاً في البرلمان الحالي، الذي يسيطر عليه الأعيان ورجال المال والأعمال، ممن لا تعني لهم تعويضات البرلمان أي شيء معتبر.

ويكمن السبب الثالث، وفق حمودي، في ضعف الالتزام السياسي لدى غالبية أعضاء البرلمان الحالي. ففي أغلبهم أعيان وليسوا مناضلين حزبيين، ما يجعل سلطة الأحزاب التي ينتسبون إليها عليهم ضعيفة.

ورأى أن ظاهرة تغيب البرلمانيين تعكس وضعاً أعمق، أي هشاشة المؤسسة البرلمانية في النسق السياسي المغربي، فالبرلمان بالنسبة إلى هؤلاء الأعيان ليس مؤسسة للتمثيل السياسي أو للتشريع ومراقبة العمل الحكومي، بل مجرد قناة للعلاقات العامة، يستغلها البرلماني للوصول إلى أصحاب السلطة من أجل خدمة مصالحه التجارية والمالية لا أكثر.

المساهمون