تتوالى التحذيرات في السودان من اقتراب البلاد أكثر نحو الانزلاق إلى حرب أهلية إثر تصاعد أحداث الصراعات القبلية، في ظل حالة من الاحتقان الأمني والسياسي، واتهامات لقادة الانقلاب العسكري باستغلال تلك الأحداث للسيطرة على مقاليد الحكم بعد فشلهم في ذلك بطرق أخرى.
وشهدت مدينة الروصيرص، كبرى مدن إقليم النيل الأزرق، جنوب شرق السودان، اشتباكات اليوم السبت. وقال شهود عيان لـ"العربي الجديد" إن دوي الرصاص الحي سُمع في الحي الجنوبي للمدينة. وأضافوا أن أعمدة الدخان تصاعدت، فيما فرّ مئات الأشخاص نحو الأحياء الغربية ووسط المدينة.
وكان إقليم النيل الأزرق مسرحاً خلال اليومين الماضيين لاشتباكات بين قبيلتي الفونج والهوسا، وحصد ما لا يقل عن 31 قتيلاً و39 جريحاً حتى اليوم، طبقاً لإحصاءات لجنة أمن الإقليم.
وتضاف أرقام الضحايا الجدد إلى أكثر من 500 شخص لقوا حتفهم نتيجة صراعات قبلية أخرى كان مسرحها إقليم دارفور، غربي البلاد، وكل ذلك عقب انقلاب قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
الأحداث الأخيرة في إقليم النيل الأزرق سببها مقتل أحد المزارعين في منطقة أمورا بمحلية قيسان، وسرعان ما تداعت الأوضاع في باقي مدن الإقليم، جراء الانهيار الأمني لتشمل مناطق قيسان، وبكوري، وأمورا، وأم درفا، وقنيص، والروصيرص، والأخيرة يوجد فيها واحد من أكبر خزانات المياه في السودان، الذي يستخدم لإنتاج الطاقة الكهربائية وريّ المشروعات الزراعية.
ومع ازدياد وتيرة العنف وحرق عشرات المحال التجارية على هوية صاحبها، اضطرت السلطات الأمنية إلى حظر التجول في تلك المناطق من الساعة السادسة مساءً إلى السادسة صباحاً، إلى حين إشعار آخر، ومنعت التجمعات العامة، وأرسلت تعزيزات من الشرطة والجيش والدعم السريع، لحسم ما سمته "التفلتات الأمنية"، وهددت باتخاذ الإجراءات القانونية ضد المخالفين.
هدوء حذر
وشهدت جميع المناطق المتأثرة، اليوم السبت، هدوءاً حذراً بعد الانتشار الأمني الكثيف، طبقاً لما أكده شهود عيان تحدثوا لـ"العربي الجديد"، من إقليم النيل الأزرق عبر الهاتف، من دون أن تبدد مخاوف حقيقية من عودة الاشتباكات، ولا سيما في التحشيد القبلي والتوقعات بزيادة أعداد الضحايا.
ويحمّل أحمد إبراهيم، وهو أحد أهالي المناطق المتأثرة بالنزاع، مسؤولية ما حدث للسلطات المحلية والمركزية التي لم تستمع لنداءات عديدة خلال الأسبوعين الماضيين، لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بعدم اندلاع النزاع. وقال، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "الجميع كان يعلم ويقدّر حجم التوتر القبلي"، مشيراً إلى أنه حتى بعد اندلاع النزاع، غابت السلطات تماماً في الساعات الأولى، ما زاد من حصيلة القتلى، فضلاً عن الغياب المفاجئ لحاكم الإقليم أحمد العمدة عن مكتبه منذ أيام.
كذلك اتهم إبراهيم عناصر موالية للنظام البائد بزعامة عمر البشير بالتورط في تأجيج النزاعات القبلية في الإقليم، رغبة منهم في ضرب النسيج الاجتماعي، وإضعاف كل مؤسسات الدولة، ليقولوا للسودانيين إن عهدهم كان الأفضل من حيث الأمن.
أما "تجمع المهنيين السودانيين" فيرى أن أحداث إقليم النيل الأزرق جاءت نتيجة للغياب التام لدور الأجهزة الأمنية والعسكرية في الإقليم، متهماً إياها بالتقاعس "دائماً عن دورها الواجب عليها".
وقال "التجمع"، في بيان اليوم السبت، إن ذلك الصراع "نتيجة راجحة لسياسات السلطة الانقلابية التي نفذت انقلابها بالأساس على حشد مجموعات قبلية وحركات مسلحة ذات تكوين إثني واحد، وهو ما يهزم مبادئ المواطنة أساساً للحقوق والواجبات ويُمزق اللحمة الوطنية، ويفتت النسيج الاجتماعي السوداني".
وندد بـ"القرارات والتصريحات الصادرة عن قادة السلطة الانقلابية، بدايةً من رئيس مجلس السيادة الانقلابي عبد الفتاح البرهان ونائبه (محمد حمدان دقلو) وبعض قادة الحركات المسلحة، التي تذهب جميعها في إطار حشد القوات وخطابات تحمل مضامين عنصرية وجهوية"، مبيناً أن "السلطة الانقلابية تعمل على بثّ خطابِ الكراهية والعنصرية من خلال قادتها وإشعال النزاعات الأهلية المسلحة عن عمد وقصد، وذلك حفاظاً على سلطتهم، وتخويف السودانيين من إكمال مهام ثورة ديسمبر المجيدة (الثورة التي أسقطت البشير)، ومقايضة مشاريع التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي وإسقاطه".
على شفا حرب أهلية
من جهته، اعتبر المحلل السياسي محمد بشير بابكر، ما حدث في إقليم النيل الأزرق من اقتتال قبلي وانفلات أمني أُزهقت فيه عشرات الأنفس، وحرق وإتلاف للممتلكات أنه "نتاج طبيعي لغياب الحكومة، وضعف مؤسسات وأجهزة الدولة، وحالة الفراغ الدستوري في البلاد".
وأضاف، في تصريح لـ"العربي الجديد": "إذا لم ينته هذا الانقلاب ويتفق الفرقاء وتشكل هياكل الحكم، سنشهد المزيد من الانزلاقات والفتن والنزاعات وستنتقل هذه العدوى إلى كل الولايات، ويجب ألا نخادع أنفسنا بأننا على شفا حرب أهلية، نحن في حرب أهلية حقاً. وما يحدث في دارفور والنيل الأزرق والشرق والمناوشات القبلية التي تحصل في بعض الولايات كافٍ لتوسيع رقعة الحرب".
وبحسب بابكر، إن الدافع لأطراف النزاع في ولاية النيل الأزرق للاحتراب هو "عدم ثقتهم بالدولة وأجهزتها الشرطية والعدلية في رد حقوقهم والاقتصاص لهم"، لافتاً إلى أن "المواطن الآن لم تعد لديه ثقة في مراكز الشرطة لتقييد بلاغ أو التوجه للقضاء والنيابات لإنصافه ودفع الظلم عنه، لتقاعس هذه الأجهزة وعدم استجابتها. لذلك أصبح يأخذ حقه بيده".
ودعا بابكر إلى تحرك العقلاء من السياسيين والحكماء من القيادات الأهلية والمجتمعية، لإقناع العسكر بالتنازل عن مواقفهم المتعنتة، حتى لا نشهد المزيد من الانهيار وإراقة الدماء وتفكك الوطن.
من جهته، قال اللواء متقاعد أمين مجذوب، إن "ما جرى في النيل الأزرق امتداد للصراعات السياسية، حيث بات القادة السياسيون يلجأون إلى قبائلهم وعشائرهم لإدارة معاركهم"، محذراً في حديث لـ"العربي الجديد" من "التوجهات الخطيرة المتمثلة ببروز تصنيفات في أكثر من منطقة عن قبائل أصلية وقبائل وافدة، ما يؤشر على صراعات دامية في النيل الأزرق وغيرها، وإعادة تكرار ما تم في دارفور وشرق السودان".
وأشار مجذوب إلى أن السودان "في مفترق طرق يعيد الممالك القبلية إلى ما كانت عليه قبل نحو 200 سنة، وهذا ما يخشاه العالم الآن من مستقبل للسودان، بحدوث اختلال في توازن السلطة المركزية وضرب الترابط الاجتماعي".
وفي بيان صدر عن "لجان المقاومة بالدمازين"، مركز إقليم النيل الأزرق، قالت إن الأحداث هي "مواصلة لسياسات الانقلابيين بافتعالهم الدائم للفتن والصراعات القبلية لتمرير أو خلق توازنات سياسية جديدة".
قطع الطريق أمام ثورة الشعب
واتهم البيان السلطة الانقلابية باستغلال "بعض المكونات القبلية" والعمل على "إعلاء خطاب الكراهية والعنصرية في مختلف مناطق السودان ذات التنوع الثقافي والإثني، لتزيد من درجة التوتر والاحتقان القبلي المدعوم في أغلب الأحيان من معظم الأطراف داخل السلطة الانقلابية، عبر مليشياتها وأجهزتها الأمنية، لقطع الطريق أمام ثورة الشعب بابتزازه بزعزعة أمنه واستقراره".
واستنكرت "لجان المقاومة بالدمازين" بشدة ما اعتبرته "السكوت المتعمد من قبل سلطات حاكم الإقليم الانقلابي طوال هذه المدة دون اتخاذ أي تدابير من شأنها تخفيف حدة الصراع وخفض وتيرة الشحن العنصري الزائد".
وقلل البيان مما أسماه "القرارات المرتجلة للجنة أمن الإقليم"، وعدّها "هروباً للأمام فقط ومحاولة لتعليق المسؤولية على شماعة غيرها". وتساءل عن سبب "نشر مليشيا الجنجويد في الشوارع بدلاً من الأجهزة النظامية الأخرى"، ما يستدعي، حسب البيان ذاته "طرح مزيد من التساؤلات المشروعة عن شكل هذا التحالف ومدى ارتباطه بصراع الأرض والموارد المعروف في مختلف أنحاء أرض السودان".
ودعت "لجان مقاومة الدمازين"، جميع أطراف الصراع في النيل الأزرق، إلى ضبط النفس، والبحث عن الحلول السلمية لوقف الفتنة وحفظ أرواح المواطنين وممتلكاتهم، وعدم السماح لقوى الظلام من الانقلابيين والنظام البائد وداعميهم لاستغلالهم والزج بهم في معارك سياسية، الخاسر فيها فقط المواطن.