بعد 12 عاماً على توقيع الاتفاقية الأمنية بين العراق والولايات المتحدة عام 2008، والتي بموجبها نفّذت قوات الاحتلال الأميركية انسحابها التدريجي من العراق لغاية عام 2011، لا يزال الجدل قائماً حول جدوى هذه الاتفاقية، وما إذا كانت في صالح بغداد، أو أنها سمحت لواشنطن بالاستمرار في التدخل في الشأن العراقي، ليتحول الموضوع إلى ملف في سياق الصراع السياسي الداخلي.
الاتفاقية التي وقّعها رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي، والرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، في العاصمة بغداد، بعد عدة أشهر من المفاوضات والاجتماعات بين الجانبين، يؤكد سياسيون عراقيون أنها لم تكن أكثر من غطاء لقرار الانسحاب الأميركي من العراق، في وقت كانت الفوضى والانفلات الأمني يعمّان البلاد، وأن العلاقات بين بغداد وواشنطن ظلت رهن تغيير الحكومات في العراق والرئاسات الأميركية الثلاث الأخيرة (جورج بوش الابن، باراك أوباما، دونالد ترامب)، بينما يرى آخرون عكس ذك تماماً، وأنها كُتبت بنفس أميركي ولم تكن في صالح العراق.
شهدت الأشهر التي تلت مقتل سليماني تصعيداً من القوى السياسية والمسلحة، المرتبطة بإيران، ضد الاتفاقية
وتضم اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة، المعروفة اختصاراً بـ"صوفا"، ثلاثين مادة. وتبدأ من موضوع الانسحاب الأميركي من البلاد، ومصير الأموال العراقية المودعة في البنك الفيدرالي الأميركي، مروراً بإعفاء العراق من ديونه ومساعدته على إنهاء الديون الدولية الأخرى المترتبة عليه، وكذلك مساعدته للخروج من عقوبات الفصل السابع بالأمم المتحدة التي فرضت على العراق عقب حرب الخليج 1991، انتهاء بإدارة المنطقة الخضراء وتسليم العراق مهام أمنها، والتزام واشنطن بالدفاع عن العراق وتدخّلها متى ما استدعت الحاجة ذلك. وهو ما استندت الولايات المتحدة عليه في تدخلها عام 2014، بعد اجتياح تنظيم "داعش" مساحات شاسعة من العراق.
وعقب الانسحاب الأميركي النهائي من العراق، في ديسمبر/كانون الأول عام 2011، لم يبق في المدن العراقية أي تواجد أميركي، باستثناء فرق التدريب والتطوير التي كانت تعمل مع وزارتي الدفاع والداخلية، ولا يتجاوز عددها بضع مئات. إلا أن اقتحام تنظيم "داعش" مدن شمال وغربي العراق عام 2014، وانهيار القوات العراقية في الأشهر الأخيرة من الحكومة الثانية لنوري المالكي، دفع رئيس الحكومة حيدر العبادي آنذاك إلى العودة مرة أخرى إلى واشنطن، وطلب المساعدة العاجلة، الجوية واللوجيستية، لمواجهة التنظيم وحماية بغداد.
وشهدت الأشهر التي تلت مقتل زعيم "فيلق القدس" قاسم سليماني، بغارة أميركية قرب مطار بغداد الدولي مطلع العام الحالي، تصعيداً من القوى السياسية والمسلحة، المرتبطة بإيران، ضد الاتفاقية. وبدا لافتاً أن كتلة المالكي، الذي وقّع على الاتفاقية، كانت من الداعين إلى إلغاء هذه الاتفاقية، مستندة على أنها تعطي الغطاء للقوات الأميركية بوجودها في العراق. ليصوت البرلمان العراقي، في يناير/كانون الثاني الماضي، على قانون إخراج القوات الأجنبية، وإلغاء الاتفاقية الأمنية بأغلبية بسيطة، مع غياب أغلب الكتل السنية وجميع كتل الأكراد والتركمان والأقليات.
وقال مسؤول عراقي رفيع المستوى في وزارة الخارجية ببغداد، طلب عدم ذكر اسمه، لـ"العربي الجديد"، إن السنوات الماضية أثبتت أن الاتفاقية الأمنية مجرد عنوان، إذ كانت التوافقات والمزاج الأميركي وتبدل الإدارات الأميركية الحاكم في العلاقة بين العراق والولايات المتحدة. وأضاف أن الولايات المتحدة كانت تحتاج لتسويق خطوة انسحابها السريع، وغير المحسوب، من العراق لشيء تتعكز عليه، وهو ما حصل في الاتفاقية الأمنية. وتابع "بمراجعة بسيطة نجد أن إدارة ترامب تجاوزت أبرز بنودها بشأن مساعدة القوات العراقية في الحرب على الإرهاب، وصارت تساوم التسليح بمواقف سياسية. كما أنها تسترت على اختراق طيران الكيان الصهيوني للأجواء العراقية أكثر من مرة، وقصفت أهدافاً تابعة لفصائل مسلحة". ورأى أن العراق يحتاج إلى تفاهم مع الولايات المتحدة، بعيداً عن اتفاقية كتبت قبل 12 عاماً، شهد فيها العراق والمنطقة تبدلات كبيرة.
العراق يحتاج إلى تفاهم مع الولايات المتحدة بعيداً عن اتفاقية كتبت قبل 12 عاماً
وحول الاتهامات التي يوجهها التيار الصدري، بزعامة رجل الدين مقتدى الصدر، على لسان قياداته، للمالكي بأنه كان سبباً في توقيع اتفاقية سيئة مع الولايات المتحدة، تواصلت "العربي الجديد" مع مكتب المالكي، إلا أنه اعتذر عن عدم الإجابة على أي من الأسئلة بشأن ظروف توقيع الاتفاقية. لكن مقرباً من المالكي رد على أسئلة "العربي الجديد"، بأن "من سوء الفهم الذي تعاني منه معظم القوى السياسية العراقية، وتحديداً الشيعية، القول إن العراق وقّع اتفاقية مع أميركا تتعلق بالأمور الأمنية. ولكن في الحقيقة لم يوقّع العراق أي اتفاقية دائمة أو طويلة الأمد. إن ما حدث هو توقيع اتفاقية وقتية تتعلق بانسحاب القوات الأجنبية، ومن ضمنها الأميركية، بعد الانتهاء من إسقاط نظام صدام حسين. وقد انتهى مفعول الاتفاقية الوقتية بانسحاب آخر الجنود الأميركيين. ولذلك بات العراق يحتفل في 31 ديسمبر/كانون الأول، بيوم السيادة الوطنية".
ولفت إلى أن "البرلمان العراقي صوّت على إلغاء الاتفاقية الأمنية التي لا وجود لها أصلاً"، موضحاً أن "حيدر العبادي هو من أعاد القوات الأجنبية إلى العراق بعد احتلال تنظيم داعش لمناطق عراقية، ولا علاقة لنوري المالكي بهذه العودة. وبالتالي، فإن اتهام التيار الصدري، أو غيره من القوى السياسية، للمالكي بأنه وراء الاتفاقية غير مستند على حقيقة أو دليل. وعلى الرغم من ذلك فإن حزب "الدعوة" (يتزعمه نوري المالكي) مع توجه القوى السياسية الرافضة لأي تواجد أميركي، حرصاً على سلامة العراق وسيادته على أراضيه".
من جهته، أكد البرلماني السابق القيادي في "القائمة العراقية" (التابعة لإياد علاوي) وائل عبد اللطيف، أن "الاتفاقية الأمنية بين العراق والولايات المتحدة لا تزال نافذة، بدليل أن الحكومات العراقية تستخدم القوات الأميركية كقوات ومدربين في تطوير الكفاءة العسكرية العراقية، كما أن طيران التحالف الدولي يمارس عمله في السماء العراقية منذ سنوات. ولو لم تكن هناك اتفاقية لما تمكن العراق من طلب مساعدة من الأميركيين في القضاء على داعش. وأن واشنطن وافقت على طلب حيدر العبادي عام 2014، وذلك استجابة لدواعي الاتفاقية الأمنية القائمة بين البلدين". وأضاف، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "القوات الأميركية لم تنسحب بالكامل عام 2011، بل إنها ابتعدت عن المناطق الشيعية، وتحديداً مناطق نفوذ الأحزاب والفصائل المسلحة الموالية لإيران"، متابعاً "لم ندعم (القائمة العراقية) الاتفاقية في الأعوام السابقة، ولا نؤيدها حالياً"، لافتاً إلى أن "قواتنا المسلحة ليست جاهزة لمواجهة التحديات الأمنية والجماعات الإرهابية وحدها، كما أن العراق يعاني من التشتت السياسي الذي يؤدي غالباً إلى مشاكل أمنية، إضافة إلى أن القوى السنية والكردية ترفض خروج الأميركيين، ناهيك عن أن العراق يعاني من انفلات السلاح وكثرة الجماعات المسلحة التي تهدد الأمن المجتمعي باستمرار".
حاكم الزاملي: هناك من ورّط العراق في اتفاقية أمنية لم تكن خادمة له
أما القيادي في التيار الصدري، حاكم الزاملي، فقال إن "هناك من ورّط العراق في اتفاقية أمنية لم تكن خادمة له، بل مضرّة أشد الضرر، وبسببها وقعت الكثير من المشاكل الأمنية. لأن الاتفاقية تعطي صلاحية كبيرة للقوات الأجنبية وطيران التحالف الدولي بالتحرك في العراق"، في تصويب واضح على المالكي. وأكد، في اتصال مع "العربي الجديد"، أن "الجانب الأميركي لم يلتزم ببنود الاتفاقية التي وقعها نوري المالكي، ومن أهم هذه البنود العودة إلى السلطات العراقية في تنفيذ الطلعات والضربات الجوية، ناهيك عن الأخطاء الكثيرة التي يعترف بها التحالف الدولي خلال الحرب على داعش، وتورطه في قتل الأبرياء من أهالي المناطق المحررة".
من جهته، قال القيادي في "الجبهة العراقية" (تضم قوى سياسية سنية) أثيل النجيفي، إن "الاتفاقية التي وقّعها المالكي مع جورج بوش الابن لم تُعرض بالكامل في وقتها على البرلمان ولم يتم التصويت عليها، ومن الناحية الدستورية لا تعد اتفاقية. لكن المالكي عمل بها إلى أن استنفد دور الأميركيين قبل عام 2014. وبعد سيطرة داعش عادت الحكومة العراقية لطلب مساعدة التحالف الدولي، وقد استفاد العراق كثيراً من دور القوات الأجنبية، ولولا التحالف الدولي لما استطاع العراقيون القضاء على داعش". وأوضح، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "العراق يحتاج العالم، ليس فقط في مواجهة التحديات الأمنية، بل في المشاكل الاقتصادية والتنموية وحتى السياسية، ولا سيما أننا أمام فوضى جديدة في إقليم كردستان بسبب حزب العمال الكردستاني الذي يسعى إلى الإطاحة بالحكومة هناك، إضافة إلى سيطرة المليشيات الولائية على بغداد ومحافظات الوسط والجنوب". واعتبر أن "القوى السياسية الرافضة للاتفاقية الأمنية، والمطالبة بخروج القوات الأميركية، لا تعرف أي شيء عن الواقع العراقي والتحديات الأمنية ومخاطر عودة تنظيم داعش. بل هي مرتبطة بإيران وتداعيات الاتفاق النووي والحصار الاقتصادي الذي تفرضه واشنطن على طهران"، مؤكداً أن "هذه القوى هي أدوات بيد إيران، والأخيرة تريد تحويل العراق إلى أرض معركة بديلة عن أراضيها".