يعيش الاتحاد الأوروبي مأزقاً في اتخاذ مواقف واضحة وسريعة من تصرفات الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، المدعوم بقوة من الدوائر السياسية والأمنية التابعة للكرملين الروسي. فعملية الاختطاف والقرصنة، الأحد الماضي، بحق طائرة "راين إير"، المتجهة من أثينا إلى العاصمة الليتوانية فيلنيوس، واختطاف الصحافي الشاب رومان بروتاسيفيتش وصديقته صوفي سبيغا، بعد مشاركته في مؤتمر اقتصادي في اليونان، برفقة زعيمة المعارضة في المنفى سفيتلانا تيكانوفسكايا، أنقذت قمة مقررة في اليوم التالي، الاثنين، وبعض ماء وجه الاتحاد الأوروبي.
ولو أن ذلك الاجتماع غير مجدول، لكانت أوروبا حتى اليوم غير قادرة على الخروج بموقف مشترك، بحسب ما يقرأ على الأقل بعض خبراء الشأن الأوروبي، وخصوصاً في ما يتعلق بمواقف وسياسات خارجية، كثيراً ما تلقى انتقادات لبطء تحركها وضعف مضامينها. فالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لم تفتها لعبة نظام لوكاشينكو، الممسك بالسلطة منذ 26 سنة، والمسمّى أوروبياً بـ"ديكتاتور أوروبا الأخير"، حول أن "تهديداً إرهابياً من حماس" هو الذي دفعه لإرسال طائرات "ميغ 29" لاختطاف الطائرة، فوصفت ميركل إقحام اسم "حماس" و"الإرهاب" بـ"لعبة وخديعة، بالطبع كان المقصود خطف راكب موجود على متن الطائرة".
بدوره، سارع رئيس المجلس في الاتحاد الأوروبي شارل ميشيل إلى التفاخر بأن "أوروبا تتصرف" بعد قرار وقف استخدام المجال الجوي البيلاروسي ومنع طائرات مينسك من المجال الجوي الأوروبي، مرفقاً ذلك بصورة، أمس الثلاثاء، تظهر سماء بيلاروسيا خالية من الطائرات. ومثله فعلت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، أمس، باعتبار عملية اختطاف الطائرة بمثابة "هجوم على الديمقراطية واعتداء على حرية التعبير وهجوم على السيادة الأوروبية"، كما دونت على موقعها في "تويتر".
هذا إلى جانب مواقف كثيرة أخرى، بما فيها موقف أميركي عبّر عنه وزير الخارجية أنتوني بلينكن، اعتبرت أن الاعتداء مزدوج على " حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي". بيد أن الإجراء الذي اتخذته أوروبا لا يرقى إلى حجم وقوة تأثير المعسكر الأوروبي، الذي بدا بشكل واضح أثناء الحرب على غزة بطيئاً وغير متفق على إصدار بيان قوي بسبب أصدقاء الاحتلال، وخصوصاً رئيس وزراء المجر الشعبوي فيكتور أوربان، عدا عن موقف مستشار النمسا سيباستيان كورتز، اللذين ساهما في إعاقة مواقف قوية أوروبية من دولة الاحتلال الإسرائيلي، على عكس اندفاع أوروبا لاتخاذ مواقف أكثر تشدداً حين تعلق الأمر بخلافات يونانية – تركية.
بيلاروسيا بالنسبة للأوروبيين ليست أمراً ثانوياً، فهي الجار الأقرب والأكثر التصاقاً بسياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في ما خص الخطاب السياسي والأيديولوجي للاتحاد المستند إلى القيم واحترام حقوق الإنسان، ورغم ذلك فإن معاقبة ساسة مينسك تبدو مؤجلة حتى أواخر يونيو/حزيران المقبل.
ضعف الموقف الأوروبي يمكن ملاحظته في انتقادات لاذعة وجهها متابعون لتغريدات فون ديرلاين وميشيل، وخصوصاً أن عملية إجبار الطائرة "راين إير" على الهبوط كشفت عن نزول 5 إلى 6 عملاء استخبارات بيلاروسيين في مينسك، بحسب تقارير صحافية ونقلاً عن شهود عيان كانوا على متن الطائرة، ما يعني أن لوكاشينكو يتصرف كما يتصرف حليفه فلاديمير بوتين بإرسال عملاء أجهزة الاستخبارات لتتبع معارضيه في أنحاء أوروبا. ولاقت الخطوات الأوروبية الضعيفة انتقادات من قبل صحافيين وحقوقيين، وبالأخص أن المستهدف هو صحافي ورئيس تحرير قناة "نيكستا"، كبرى قنوات "تلغرام"، وموقع آخر للمعارضة البيلاروسية التي واكبت تحركات الشارع المحتج على انتخابات لوكاشينكو منذ أغسطس/آب من العام الماضي.
وفي السياق، أشارت صحيفتا "إنفورماسيون" الدنماركية و"إكسبرسن" السويدية إلى أن ادعاء لوكاشينكو بـ"وجود قنابل لحركة حماس الفلسطينية على الطائرة يشير إلى اختراع بائس لنظام لوكاشينكو لتحدي أوروبا، فلعملية الخطف بُعدٌ يُظهر غياب فعالية الاتحاد الأوروبي في مواجهة الجار الديكتاتوري". ونقلت "إنفورماسيون" و"بوليتيكن"، اليوم الأربعاء، عن محللين أن "الدواء اللفظي (اللغوي) في مواجهة روسيا هو الذي يؤدي إلى هذه العشوائية في التصدي لنظام لوكاشينكو المستبد". وعلى الرغم من اعتراف شارل ميشيل بأن قضية بيلاروسيا كانت بالنسبة للسياسة الخارجية الأوروبية مسألة أخلاقية وتتعلق بالديمقراطية والحريات، وأنها باتت اليوم "خطراً أمنياً عندما تلعب مينسك لعبة روليت روسية بحياة المدنيين"، لم تتوضح سياسة استراتيجية تواجه الدعم الروسي الكبير الذي تلقاه لوكاشينكو في مواجهة الحركة الشعبية السلمية المحتجة على غياب الديمقراطية في البلاد.
ففي الليلة التي سبقت اجتماع القمة الأوروبي، وصل الخطاب السياسي إلى ذروته بتوصيف ما جرى بأنه "إرهاب دولة"، لكن النتائج لم تكن سوى تشديد على الشركات الأوروبية على عدم استخدام مجال بيلاروسيا الجوي، وألا يسمح لطيران مينسك باستخدام المجال الجوي لدول المعسكر الأوروبي.
أما الحديث عن عقوبات واسعة النطاق، كما تطالب زعيمة المعارضة تسيخانوفسكايا ومعسكر أوروبي من اليسار واليمين، فيبدو أنها مؤجلة لأجل إيجاد تسويات داخلية أوروبية، مع العلم أن بعض قادة الدول الأعضاء أقرب في سياساتهم الخارجية إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبالتالي لا يبدي هؤلاء حماسة لاتخاذ خطوات فورية غير المناشدة بإطلاق سراح المختطف رومان وصديقته. ويبرّر بعض المتراخين في التصديق الفوري على حزمة عقوبات رابعة على أنها عقوبات "ستؤثر على المدنيين البيلاروسيين أكثر من النظام". ويذهب آخرون إلى التحذير من أن العقوبات "ستدفع بيلاروسيا أكثر نحو حضن الكرملين"، وهو أمر بالأصل حاصل منذ أن اعتلى لوكاشينكو الحكم في 1994.
عملياً، يبدو منع طائرات بيلاروسيا استخدام أجواء أوروبا ومطاراتها ليس أكثر من تعبير عن "أخطاء وضعف فعالية السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي"، كما رددت بعض الصحف في السويد والدنمارك اليوم الأربعاء.
وبالاستعانة ببعض خبراء السياسة الخارجية، تقدَّم إلى القارئ الأوروبي خلاصة بأن "أوروبا لا تملك استراتيجية متماسكة ومستدامة في ما يتعلق بالجمهوريات السوفييتية السابقة، وكان الاتحاد الأوروبي لسنوات متردداً بشأن بيلاروسيا والمعارضة فيها"، كما نقلت "إنفورماسيون" في كوبنهاغن، وذهبت في الاتجاه نفسه "بوليتيكن" وصحف سويدية ونرويجية وفنلندية في قراءة تبعات ضعف المواقف الأوروبية وغياب "دبلوماسية ذات استراتيجيات طويلة المدى مع صبر يتجاوز مجرد الدعوات إلى عقوبات".
ومنذ أغسطس/آب الماضي فقط، بدأ الاتحاد الأوروبي يواجه نظاماً قائماً على الأسس والسياسات ذاتها لأكثر من ربع قرن، حيث ظلت عاصمة الاتحاد في بروكسل تشيح بنظرها عن آثار غياب الحريات في مينسك، وتمادي موسكو في حملات استهداف واغتيال معارضين على أراضٍ أوروبية، وبناء بوتين لتحالفات متراكمة مع مختلف التيارات السياسية، وخصوصاً في اليمين القومي المتشدد، واللعب على وتر تناقضات الأوروبيين، ما جعل أوروبا تبدو أكثر ضعفاً على المستوى العالمي، وهو ضعف يمكن ملاحظته في عدد من القضايا المتعلقة بالمنطقة العربية، كالحال في فلسطين، التي لعبت فيها أوروبا دوراً توقفت عنه في مسألة "حل الدولتين"، فلم تتخذ موقفاً يقترب من اعتراف جماعي بدولة فلسطينية، كما فعلت فردياً بعض دولها. وكذلك الأمر في سورية، فمن ناحية ترى الدول أن نظام الأسد غير شرعي، وفي الوقت نفسه تتوقف عن اتخاذ خطوات ملموسة لوقف ما يجري، باستثناء تأييدها سحب سلاح الجريمة في المذابح المرتكبة بأسلحة كيميائية، وسمحت باريس أخيراً للنظام السوري بإجراء "انتخابات" رئاسية على أرضها، كما تفتح بعض الدول خطوطاً أمنية في الكواليس. كما أن كوبنهاغن، التي تقول إن النظام غير شرعي، تمارس في الوقت نفسه سياسة تعتبر معقل النظام، في دمشق وريفها، آمناً لترحيل اللاجئين إليه.
في المجمل، فإن مجموعة الاتحاد الأوروبي تسير اليوم ببطء يزعج قوى ديمقراطية وليبرالية محلية والمعارضة البيلاروسية، بتأجيل تبني حزمة عقوبات جديدة حتى اجتماع وزراء الخارجية في نهاية يونيو/حزيران المقبل.
ويتضح هذا البطء والتأجيل رغم ما أشيع مساء الأحد عن أن الحزمة الرابعة سيجري تبنيها أول من أمس الاثنين، لتشمل المزيد من الشركات والسياسيين والأمنيين رفيعي المستوى، "المرتبطين بشكل مباشر بانتهاك حقوق الإنسان وتقويض الديمقراطية"، ولكن كل ذلك تأجل، كما أظهرت أوروبا عجزاً عن دعوة المنظمة الدولية، الأمم المتحدة، لعقد ولو جلسة واحدة لمناقشة القضايا الخارجية التي تعتبر فيها أن حقوق الإنسان الأساسية تنتهك، سواء في بيلاروسيا أو في المنطقة العربية. وعلى ما يستنتج مراقبون ومحللون، فإن "الاتحاد الأوروبي يفقد زخمه وتأثيره كلما اعتمد أكثر على انتهازية المصالح وتخلى عن قيمه التي يبشر بها لفظياً".