منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وعلى مدار يوميات الحرب على غزّة، رأينا الهجمة البربرية الإسرائيلية ضدّ أهلنا في قطاع غزّة، تدمير شامل لكلّ أشكال الحياة في مدن غزّة، إلى جانب الإبادة الحقيقية التي تحدث ضدّ الشعب الفلسطيني، هناك إفناءٌ كاملٌ ومحوٌ لذاكرة ووجود الفلسطينيين، إذ قصفت المواقع التاريخية والثقافية في غزّة، بجانب تدنيس قبور الأشخاص أنفسهم في هجمةٍ غير مسبوقةٍ ضدّ الفلسطيني الميت أيضًا.
لم ينتهِ الدمار؛ وفقًا لليونسكو، دمر أو تضرر أكثر من 195 موقعًا تراثيًا في الهجوم الإسرائيلي المستمر. وقال المكتب الإعلامي في غزّة في ديسمبر/كانون الأول إنّ 200 من أصل 325 موقعًا أثريًا أو قديمًا مسجلًا في القطاع دمر. وقد دمرت المكتبة العامة الرئيسية في غزّة والأرشيف المركزي، ومتحف رفح؛ الذي قضى 30 عامًا في حفظ العملات والتحف القديمة، كما تقول وزارة السياحة والآثار في غزّة إنّ أكثر من 100 مسجدٍ قد قصف، بما فيها المسجد العمري الكبير، الذي يعود تاريخه إلى قرابة 1400 عام. ولم تنج الكنائس أيضًا: فقد تعرض دير القديس هيلاريون، الذي يعود تاريخه إلى القرن الرابع، إلى أضرارٍ، بينما قُتل 17 مسيحيًا فلسطينيًا في هجومٍ على ثالث أقدم كنيسة في العالم، كنيسة القديس بورفيريوس الأرثوذكسية اليونانية. هذا إلى جانب تدمير مركز رشاد الشوا الثقافي، ومتحف القرارة، كذلك فقد الفلسطينيون مخطوطاتٍ عمرها قرونٌ وغيرها من الموارد التي لا تقدر بثمن لفهم التطور الثقافي والتاريخ في غزّة. تعرضت القطع الأثرية والكنوز الأثرية لأضرارٍ بالغةٍ، بما في ذلك مجموعةٌ فخاريةٌ من العصر البيزنطي، ومقبرةٌ رومانيةٌ عثر عليها حديثًا، تحتوي على صناديق نادرةٍ من الرصاص. إلى جانب قتل ما لا يقل عن ثمانية وعشرين فنانًا وكاتبًا فلسطينيًا، شعراء وأكاديميون.
تاريخيًا بدأ التخطيط لتهويد فلسطين، أو الإحلال الثقافي قبل أكثر من 140 عامًا، تحديدًا في عام 1878 من قبل الوكالة اليهودية
لم تكن تلك المرّة الأولى، فمنذ بدايات وجود دولة الاحتلال الإسرائيلي الأولى أصبح هذا النمط من الاعتداءات معتادًا، بدءًا من عبرنة وتهويد المدن الفلسطينية منذ عام 1948، وتهويد المناهج التعليمية في الداخل، ومن ثم في الضفّة الغربية والقدس بعد عام 1976، وصولًا إلى الاستيلاء على المناطق التاريخية والأثرية والمتاحف والمساجد والكنائس عبر تدميرها أو تهويدها، كما لم يتوقف عن قتل الذاكرة الفلسطينية وتدميرها حتّى العدوان الحالي.
تلك الجرائم سمةٌ مشتركةٌ للاحتلال والعنف الاستعماري من الرومان إلى النازيين، إذ اعتادت القوى الاستعمارية على تدمير القطع الأثرية والمخطوطات والآثار ودور العبادة بغرض السيطرة على الأشخاص الذين استعبدتهم واحتلتهم. لعل قيام الحركة الصهيونية في فلسفتها على عدم وجود الآخر الفلسطيني كان سببًا في كون محو الثقافة الفلسطينية جزءًا أصيلًا من أهداف الحركة الصهيونية ثم دولتها، لأنّها شهود عيان على وجود الشعب الفلسطيني وأحقيته التاريخية في موطنه.
كتب دافيد بن غوريون في مذكراته عام 1941: "من الصعب تصور عملية ترحيل كاملة من دون إكراه وحشي"، لذا كان ترحيل العرب أمرًا ضروريًا من وجهة نظر بن غوريون لإقامة الدولة اليهودية، وقد اعتمدت الخطة الصهيونية وقتها على أمرين؛ أولهما عملية التطهير العرقي، عبر تدمير مئات القرى الفلسطينية، وثانيهما محاولات تطبيق الإبادة الثقافية، من خلال "عبرنة" و"أسرلة" فلسطين، والقضاء على تراثها الثقافي، عبر تهويد المناطق والشوارع الفلسطينية، ونهب المواقع الإسلامية والمسيحية المقدسة، والسيطرة على اللغة، ونهب المكتبات والتحكم بالإنتاج الثقافي والتعليم، وقطع التواصل بين الفلسطينيين وامتدادهم العربي والإسلامي.
ما يحدث في غزّة اليوم يتجاوز التعدي والتدمير الثقافي لها فقط، الذي اعتبرته جنوب أفريقيا واحدًا من جرائم الحرب العديدة التي اتهمت الاحتلال بارتكابها في قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها ضدّ إسرائيل في محكمة العدل الدولية، فهو عملية محو تراث وهوية ووجود الغزيين وتقويضها، تترتب عليه أثار نفسية عميقة على الفلسطينيين، وتداعيات خطيرة على دراسة الروايات التاريخية الفلسطينية وإنتاجها، ومحو الهوية الفلسطينية والذاكرة الجماعية، وهو ما قد يرقى إلى مستوى الإبادة الثقافية.
الفلسطينيون ومفهوم الإبادة الثقافية
شهد القرن العشرون نماذج مروعةً من الإبادة الثقافية، وهو مصطلحٌ يشمل التدمير المتعمد للتراث والهوية الثقافية لمجموعةٍ ما. تعد الإبادة الجماعية الثقافية عنصرًا من عناصر الإبادة الجماعية، استنادًا إلى التعريف الذي صاغه المحامي البولندي، اليهودي رالف ليميكن، عام 1944 "تشمل أكثر من مجرد عمليات قتلٍ؛ تشمل الإبادة الجماعية الجهود المبذولة لمحو الثقافة واللغة والجوانب الدينية للمجموعات المستهدفة". يعني مصطلح الإبادة الثقافية التدمير المتعمد للتراث الثقافي، والمؤسسات الثقافية لمجموعةٍ ما. يشير هذا النمط البغيض من العنف إلى استهداف الهوية الجماعية والتاريخ الجماعي، الذي يترك آثارًا دائمةً على الذاكرة الجماعية وهويتها.
تعرّف موسوعة "Black Studies” الإبادة الثقافية على أنها: إفناءٌ متعمدٌ وممنهجٌ لثقافة شعبٍ ما، من قبل مجموعةٍ أخرى، وعادةً ما تتم تلك الإبادة عبر العنف والإرهاب الجسدي والإغواء والتعذيب النفسي، وترتكز عملية الإبادة على طمس جميع السمات المميزة لثقافة الأقلية، تلك السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية، هذا إلى جانب الآداب والفنون، وطرق الحياة والعيش، والتقاليد والمعتقدات، ومنظومة القيم لتصبح تلك الأقلية بلا أيّ أثرٍ أو تاريخٍ حقيقيٍ ملموسٍ.
ما حدث في غزّة، من القضاء على المشاهد الثقافية والأدبية الغنية فيها، هو في حد ذاته عملٌ من أعمال التجريد من الإنسانية، وهو مرحلةٌ رئيسيةٌ من الإبادة الجماعية، حيث أشار الإسرائيليون إلى الفلسطينيين على أنهم "حيوانات بشرية"، وهذا يبيح لهم محو ذاكرتهم وثقافتهم.
لم تكن غزة وحدها، والحرب الحالية عليها، بمعزلٍ عن سياسات إسرائيل تجاه الأراضي الفلسطينية وهويتها، ليس في المناطق التي احتلت عام 1948، بل في الأراضي التي سيطرت عليها سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني في الضفّة الغربية والقدس، فبناء وتوسيع المستوطنات في الضفّة الغربية يعد أحد الجوانب الرئيسية لتآكل الهوية الفلسطينية بطريقةٍ متعمدةٍ ومنهجيةٍ، بدءًا من تدمير منازل الفلسطينيين وأراضيهم الزراعية ومواقعهم التاريخية، الأمر الذي يعمد إلى محو هذه الأماكن، ما يعيق انتقال المعرفة الثقافية والتراثية بين الأجيال.
قال المكتب الإعلامي في غزّة في ديسمبر/كانون الأول إنّ 200 من أصل 325 موقعًا أثريًا أو قديمًا مسجلًا في القطاع دمر
كما يؤدي التدخل الإسرائيلي في مناهج التعليم الفلسطينية في مناطق الضفّة الغربية وقطاع غزّة لتشويهً مستمرٍ للتاريخ الجمعي الفلسطيني، إذ تهدف إسرائيل إلى زيادة تآكل الهوية الفلسطينية من خلال تقويض الاستمرارية الثقافية المفترض تعزيزها عبر التعليم، وذلك عبر سياساتٍ متعمدةٍ ضدّ الفلسطينيين، واستكمالًا لتهويد الفضاء العام، كانت قد بدأته ضدّ فلسطينيي الداخل المحتل، حين عزلتهم عبر التعليم واللغة، ما أدى إلى عزل هويتهم الجماعية وجذورهم اللغوية.
تاريخيًا بدأ التخطيط لتهويد فلسطين، أو الإحلال الثقافي قبل أكثر من 140 عامًا، تحديدًا في عام 1878 من قبل الوكالة اليهودية، التي وضعت عام 1922 لائحةً بأسماءٍ عبرانيةٍ لإطلاقها على مواقع فلسطينية. عبرن الاحتلال نحو 7 آلاف موقعٍ فلسطينيٍ حتّى الآن، منها 5 آلاف موقعٍ تاريخيٍ وجغرافيٍ ودينيٍ. في أغسطس/آب 1967 ألغت حكومة الاحتلال المناهج الأردنية في القدس والضفّة الغربية، وأخضعت المناهج كلها لسيطرتها، وبالتالي صار التاريخ يُدرَّسُ وفق رؤيتها، وكذلك الجغرافيا، ومُنعت أيّة مادةٍ أدبيةٍ تتحدث عن الاحتلال، ثم أعيد العمل بالمناهج الأردنية والمصرية بعد قيام السلطة الفلسطينية حتّى عام 2001، لكن السلطات الإسرائيلية أصرت، عبر اتّفاقيات التسوية، على مراقبة مناهج التعليم.
لم يقتصر الأمر على اغتيال المثقفين والفنانين الفلسطينيين من دولة الاحتلال والذي يأتي في صلب الاهداف الصهيونية للاحتلال الثقافي كاغتيال غسان كنفاني وناجي العلي وكمال ناصر وماجد أبو شرار وغيرهم. إذ استمرار اغتيال المثقفين والفنانين في غزة، أكثر من 32 شاعرًا ومثقفًا وفنانًا فلسطينيًا. كما سارع حلفاء إسرائيل لتقويض الثقافة الفلسطينية، ولدعم إبادة الفلسطينيين ثقافيًا، فمنعوا حصول رواية الكاتبة عدنية شبلي على جائزة فرانكفورت للآدب غير الأوروبي، وهددوا عارضة الأزياء العالمية جيجي حديد، ومنع معرض الفنانة سامية الحلبي، كما شيطنوا المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، لانتصاره للرواية الفلسطينية، والقائمة طويلةٌ من منع الرواية الفلسطينية، واسكات الصوت الداعم والمناصر للحقّ الفلسطيني، الأمر الذي يقع ضمن مفهوم الإبادة الثقافية. إنّ ترسيخ السيطرة على شعب ما، أو استعمار أرضه، أو محو تطلعاته الوطنية، يبدأ بمصادرة أعماله الفنية وآثاره وكتبه ومبانيه. لذا فالتدمير المتعمد للتراث الثقافي هو محاولةٌ لتدمير شعبنا ومحوه، ويدخل ضمن إطار الإبادة الجماعية، وهي جريمةٌ لا تسقط بالتقادم.