بعد نحو 6 سنوات من الجمود التفاوضي، أعلنت الحكومة الفيليبينية والمتمردون الشيوعيون، أمس الثلاثاء، استئناف المفاوضات بوساطة نرويجية، في محاولة للرئيس فرديناند ماركوس جونيور لإقفال أحد أطول النزاعات في العالم، المستمر منذ عام 1969.
وفي وقت لم تتضح بعد شروط التفاوض الجديدة، إلا أنها وفقاً لمجريات المفاوضات السابقة بين الطرفين، التي بدأت في عام 1986، واستمرت بصورة متقطعة لاحقاً، فإنها لم تعد مرتبطة بنوايا الحزب الشيوعي الفيليبيني بإطاحة النظام القائم في مانيلا، بل بإطلاق سراح معتقلين من صفوفه، والانخراط في البنية السياسية للبلاد.
الاتفاق على استئناف مفاوضات السلام
وأمس أعلنت وزارة الخارجية النرويجية في بيان أن "الحكومة الفيليبينية والمتمردين الشيوعيين في البلاد اتفقوا على استئناف مفاوضات السلام، بعد توقف دام ست سنوات بهدف إنهاء عقود من الصراع المسلح"، الذي اندلع في عام 1969.
وشدّدت الخارجية على أنه "لا يزال هناك عمل مكثف ونتطلع إلى مواصلة دعم الأطراف في العملية نحو اتفاق سلام نهائي"، لكنها أوضحت أن الجانبين "اتفقا على رؤية مشتركة للسلام قبل المفاوضات".
بدورها، ذكرت الرئاسة الفيليبينية في بيان أن "سحب صفة الإرهابيين عن الشيوعيين سيكون جزءاً من مفاوضات السلام"، معتبرة أن السلطات "حازمة وملتزمة بالمناقشات من أجل إتمام اتفاق السلام النهائي".
توفي مؤسس الحزب الشيوعي الفيليبيني في ديسمبر الماضي
ويعود النزاع بين السلطات والشيوعيين إلى عام 1969، حين أطلق الحزب الشيوعي تمرداً في البلاد، انطلاقاً من التفاوت الصارخ بين الأغنياء والفقراء في مانيلا، المستند إلى توزيع غير عادل للأراضي الزراعية في الفيليبين، في ظل تركّز الثروات بيد نخبة رأسمالية بدعم من الكنيسة الكاثوليكية.
وعزّز الحكم الديكتاتوري للرئيس السابق فرديناند ماركوس (1972 ـ 1986) القتال بسبب شلّه عمل السلطة التشريعية وتكميمه الصحافة وتعذيبه وقتله آلاف المعارضين. وكان الحزب الشيوعي في الثمانينيات نشطاً، ويضمّ في صفوفه نحو 26 ألف مقاتل، ونجح في إشغال الجيش الفيليبيني في أجزاء واسعة من البلاد الجزرية.
ومع أن الأفق كان مسدوداً بينه وبين مانيلا، غير أن إطاحة ماركوس في عام 1986، بعد 3 سنوات من التظاهرات المستمرة على خلفية اغتيال المعارض بينينو أكينو في مطار مانيلا في عام 1983، بدّلت من قواعد اللعبة في الفيليبين. انتُخبت كورازون، زوجة أكينو، رئيسة، وباشرت محادثات سلام مع الشيوعيين في هولندا.
ومع أنها لم تؤد إلى النتيجة المتوخاة، إلا أنها سمحت بتعديل مواقف الشيوعيين لجهة اعترافهم بالحكم القائم، ومواقف السلطات للاعتراف بهم كياناً سياسياً في مانيلا. لاحقاً، ظلّت الأمور جامدة، واستمر القتال المتقطع بين الشيوعيين والسلطات، التي انشغلت بالتفاوض مع "جبهة تحرير مورو"، وهي جماعة متمردة أخرى، من أجل توقيع اتفاق سلام.
وفي عهد غلوريا أرويو (2001 ـ 2010)، بدأت النرويج بطرح نفسها وسيطة في النزاع، مستندة إلى أدوارها المماثلة في كولومبيا خصوصاً وفي دول أخرى.
وفي إشارة إلى الدور النرويجي في الفيليبين، نقلت صحيفة "دافاو توداي" الفيليبينية، في عددها الصادر في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2016، عن المبعوثة النرويجية الخاصة إلى مانيلا، إليزابيث سلاتوم، قولها إن "النرويج لديها التزام أخلاقي بالمساهمة في السلام في البلدان الأخرى".
وأضافت: "نحن نعيش في زمن العولمة. كل ما يحدث على الجانب الآخر من الكوكب سيؤثر علينا. يمكن أن يؤثر الصراع علينا من جهة الإرهاب وتدفق اللاجئين والاتجار بالمخدرات، وما إلى ذلك. لذلك نرى أنه من مصلحتنا منع الصراع على الرغم من أنه بعيد".
لكن المفاوضات طيلة العقد الأول من الألفية الثالثة لم تفضِ إلى نتيجة، غير أن الوضع تغير بعض الشيء، خصوصاً أن "الحرب على الإرهاب" التي قادتها الولايات المتحدة، بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، واعتبار وزارة الخارجية الأميركية الحزب الشيوعي الفيليبيني وذراعه المسلحة "منظمتين إرهابيتين"، دفعت العديد من الأنظمة والجماعات المسلحة في مختلف أنحاء العالم إلى اتخاذ مسار سلمي لحل النزاعات.
في عهد غلوريا أرويو (2001 ـ 2010)، بدأت النرويج بطرح نفسها وسيطة في النزاع
وفي عام 2016، تطوّرت العلاقات بين مانيلا والشيوعيين، إلى الحدّ الذي دعم الحزب الشيوعي فيه الرئيس السابق رودريغو دوتيرتي، الذي يعتبر نفسه اشتراكياً. كما أطلق سراح مسؤولين شيوعيين كبار، في مبادرة لدفع مفاوضات السلام قدماً، حتى إن قادة الحزب الشيوعي سعوا إلى تشكيل حكومة ائتلافية مع دوتيرتي.
حقبة رودريغو دوتيرتي
لكن المحادثات تحولت إلى تهديدات واتهامات متبادلة قبل أن يقطعها دوتيرتي في عام 2017 وأعلن الطرفان انتهاء وقف إطلاق النار الذي التزما به كل من جانبه. ووصف دوتيرتي الحزب الشيوعي حينذاك بأنه "منظمة إرهابية" واتهمه بقتل رجال شرطة وجنود أثناء إجراء المفاوضات.
وفي الوقت نفسه قاتل الجيش الفيليبيني ضد تنظيم "داعش" في مدينة ماراوي لمدة 5 أشهر في عام 2017، مما أكسب دوتيرتي شعبية. وفي منتصف عام 2022، انتهت ولاية دوتيرتي، وانتُخب فرديناند ماركوس جونيور، نجل فرديناند ماركوس، رئيساً للبلاد. غير أنه بعد انتخابه بأشهر قليلة توفي مؤسس الحزب الشيوعي الفيليبيني خوسيه ماريا سيسون، في ديسمبر/ كانون الأول 2022 في هولندا.
ووصفت وزارة الدفاع الفيليبينية وفاته بأنها "قد تؤدي إلى وقف أعمال العنف في البلاد أخيراً، لأنه كان عقبة في طريق السلام". وتابعت أن "وفاة سيسون ليست سوى رمز لتفتت هرم قيادة الحركة الشيوعية"، داعية المتمردين إلى الاستسلام. وأكدت وزارة الدفاع أن "عصراً جديداً يفتح للفيليبينيين من دون سيسون"، مشددة على ضرورة "إعطاء فرصة للسلام".
وسمحت هذه التطورات بتهدئة الوضع بين الشيوعيين والحكم الفيليبيني، وذلك في موازاة صعود التوترات بين بكين ومانيلا حول بحر الصين الجنوبي. وبدا واضحاً أن نوايا فرديناند ماركوس جونيور تنصبّ على تمتين الجبهة الداخلية في مواجهة الصين، خصوصاً أنه عزز التحالف مع الولايات المتحدة، وسمح لها بالانتشار العسكري في 9 قواعد فيليبينية. أما الأهم هنا، فإن الخلاف الذي كان قائماً بين والد ماركوس والحزب الشيوعي، قد ينتهي إلى سلام بين الابن والحزب.
(العربي الجديد، رويترز)