على الرغم من كل الوعود التي أطلقتها الحكومة العراقية والسلطات الأمنية في البلاد بأن تكون أجواء التظاهرات آمنة، ومنع القوات الأمنية المسؤولة عن حماية ساحات وميادين الاحتجاج من حمل السلاح، وتأكيدات المتظاهرين أنفسهم على التزام السلمية وعدم اللجوء إلى الأساليب العنفية، إلا أنّ اليومين الماضيين شهدا تعرض ناشطين ومتظاهرين إلى حالات طعن بالسكاكين. كما تعرض عناصر أمن لحروق، بعضها خطير، جرّاء رمي الزجاجات الحارقة (المولوتوف) من قبل أفواج "مندسين" و"مخربين"، بحسب تأكيدات محتجين.
وبات المتظاهرون في بغداد وبابل والناصرية والبصرة وكربلاء ومناطق أخرى في العراق يجمعون على مصطلح "المندسين" في اليومين الأخيرين، للإشارة إلى أعضاء المليشيات المرتبطة بإيران وأنصار الأحزاب الذين يتهمونهم بالدخول بأعداد كبيرة إلى ساحات التظاهر، خصوصاً في بغداد، وتنفيذ أغلب مظاهر العنف، ومنها ضرب قوات الأمن العراقية بالزجاجات الحارقة على جسر الجمهورية وقرب كراج العلاوي وبداية شارع الرشيد، وكذلك طعن عدد من المتظاهرين البارزين، فضلاً عن التضييق على الناشطات النسويات، والتلفظ بعبارات خادشة للحياء أجبرت كثيرات منهن على الانسحاب من الساحات، في مشهد غير مألوف في التظاهرات العراقية من قبل.
بعض المحتجين تعرضوا خلال اليومين الماضيين إلى قمعٍ من داخل ساحة التحرير، وليس من خارجها
وقالت مصادر من بين متظاهري ساحة التحرير، وسط بغداد، لـ"العربي الجديد"، إنّ "المخربين ينتمون لجهات مسلحة عدة، أبرزها كتائب حزب الله وحركة النجباء والعصائب، فضلاً عن جمهور أحزاب عدة، يضاف إليهم أعضاء التيار الصدري، الذين ما زالوا يستولون على مبنى المطعم التركي ومحيطه ويمنعون المتظاهرين من العودة إليه منذ ما يزيد عن 10 أشهر". وأكدت المصادر أنّ تدخلات أعضاء التيار الصدري "زادت بعد تغريدة على موقع تويتر لزعيم التيار مقتدى الصدر، الأحد، اتهم فيها المتظاهرين بالارتباط بالخارج والعنف، وطالب الحكومة بالتحرك ضدهم". وقدرت المصادر ذاتها عدد "المخربين" بالمئات حتى صباح أمس، الاثنين، "ينتشرون بين ساحة التحرير وجسر الجمهورية وبداية شارع الرشيد شمالاً، وشارع السعدون جنوباً، حيث يقومون بعرقلة أو منع أي اجتماع تنسيقي للمتظاهرين، والتأثير على تجمعاتهم داخل ساحة التحرير التي تهدف لتنسيق الجهود والخروج ببيان أو صياغة الشعارات والأهداف المطلوبة لهذه المرحلة. وقد وصلت تحركات هؤلاء إلى حد افتعال حريق بإحدى خيام المتظاهرين (خيمة أبناء العراق)، ليلة الأحد، ومن ثمّ افتعال شجار، صباح أمس الإثنين، مع عدة متظاهرين ناشطين يعتبرون من الوجوه البارزة ببغداد على مستوى الاحتجاجات".
وتبرز ظاهرة حرق الصور المتبادلة للسياسيين كأحد أوضح مظاهر وجود أحزاب وأجندات داخل التظاهرات، وهو ما ترجم بمشاجرة عند باب مطبعة أهلية قريبة من ساحة التحرير بين فريقين؛ كان أحدهما يحمل صورة لسياسي عليها علامة "X" يراد إحراقها في ساحة التحرير، صباح أول من أمس الأحد، بحسب المصادر ذاتها.
وختمت المصادر بالقول إنّ "بعض المحتجين تعرضوا خلال اليومين الماضيين إلى قمعٍ من داخل ساحة التحرير، وليس من خارجها، وهو ما يؤكد وجود عناصر من المليشيات. فقد تعرض ناشطان اثنان للطعن بالسكين، بسبب معارضتهما لتغريدة الصدر الأخيرة التي وصف فيها المتظاهرين بالوقحين".
متظاهرون: المليشيات تريد وأد الاحتجاجات من خلال حملات التسليح وإشعال الفتن
من جهته، أكد الناشط والمتظاهر في ساحة التحرير ببغداد عمار النعيمي أنّ "المتظاهرين سلميون ولا يحملون السلاح ولا يريدون الاحتكاك أو التورط في مشاكل مع القوات الأمنية، لكن الأخيرة هي التي تبدأ بالعنف في العادة، وقد واجهت المتظاهرين خلال اليومين الماضيين بالرصاص الحي في منطقة العلاوي وشارع الرشيد وبالقرب من جسر السنك، وحاولت اقتحام ساحة التحرير ليلاً، ولكن المحتجين ردوا عليها بالدفاع عن أنفسهم". واتهم النعيمي، في حديث مع "العربي الجديد"، القوات الأمنية بأنها "هي التي تجرّ المتظاهرين نحو العنف، من خلال أفواج الطوارئ وقوات حفظ القانون والشرطة والجيش، وقد استبدلت هذه القوات أخيراً أساليب التعامل مع المتظاهرين بطرق أكثر عنفية، كاستبدال الهراوات البلاستيكية بأخرى خشبية وحديدية. لذلك يقوم المتظاهرون بحماية أنفسهم وإرجاع هذه القوات بالطرق السلمية".
لكن النعيمي أشار كذلك إلى أنّ "أكثر من 30 في المائة من أعداد المحتجين في ساحة التحرير هم أشخاص مندسون يتبعون للفصائل المسلحة والتيار الصدري، وهم مسؤولون عن كل المولوتوف الذي يدخل إلى الساحة". ولفت النعيمي إلى أنّ "الغضب يملأ ساحة التحرير حالياً، ولا سيما بعد سقوط الكثير من الجرحى على الرغم من وعود الحكومة بعدم فتح النار على المتظاهرين، وعدم اعتقالهم. ولذلك يستعد المتظاهرون، يوم غد الأربعاء، لإقامة فعالية احتجاجية بذكرى استشهاد الناشط والمتظاهر الشهير صفاء السراي (قتل في أكتوبر/ تشرين الأول 2019)، من أجل امتصاص غضب المحتجين، ومحاولة ترتيب صفوفهم والعمل على خطط مستقبلية تحد من وجود العناصر المأجورة في الساحة، وتقلل من عدد الضحايا في المستقبل".
وفي محافظتي القادسية وكربلاء، تعرّض ناشطون أخيراً للاعتقال والإصابات بعدما أطلقت القوات الأمنية الرصاص الحي لتفريق المحتجين، وهو ما ينفي عدم حمل القوات الأمنية للسلاح، كما قال متظاهرون لـ"العربي الجديد". وبيّن هؤلاء أنّ "تظاهرات مدينة الديوانية بمحافظة القادسية شهدت وجود العشرات من عناصر المليشيات، وتحديداً من جماعة ربع الله، التابعة فعلياً لكتائب حزب الله، وكانوا يحملون السكاكين الكبيرة المعروفة محلياً باسم القامات، إذ أرادوا طعن أكبر عددٍ من قوات الأمن، إلا أن المتظاهرين تمكنوا من كشفهم وفضحهم في مقاطع مصوّرة". وأشار المتظاهرون الذين تحدثوا لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ "المليشيات تريد وأد الاحتجاجات من خلال حملات التسليح وإشعال الفتن".
رشاد: عناصر المليشيات تريد أن تنال من الكاظمي من خلال استهداف قوات الأمن واستفزازها ودفعها لقتل المحتجين
وعلى غير العادة، شهدت ساحة الحبوبي في الناصرية، وهي المدينة التي اعتاد العراقيون على أن تكون التظاهرات فيها أعنف من غيرها، خلال اليومين الماضيين، حالة من الهدوء والاستقرار الأمني، بعدما تمكّن المتظاهرون فيها من تنظيم صفوفهم، ومشاركة القوات الأمنية بحملات التفتيش، وإخراج الوجوه المعروفة الموالية للأحزاب والفصائل المسلحة والتيار الصدري، بحسب ما قال الناشط في المدينة علي الغزي لـ"العربي الجديد". وأوضح أنّ "العام الماضي وقعت الناصرية تحت سيطرة الجماعات المسلحة التي خرّبت الاحتجاجات، وتسبب ذلك بسقوط عدد كبير من القتلى والجرحى، ولذلك باتت لدى المحتجين الخبرة الكافية للتعامل مع المخربين والمأجورين".
بدوره، أكد عضو الحزب الشيوعي العراقي أيهم رشاد، أنّ "الاستراتيجية التي تعمل عليها الأحزاب والفصائل المسلحة الموالية لإيران، المتذبذبة في خياراتها ما بين دعم المنتفضين بهدف النيل من حكومة مصطفى الكاظمي، ومنعهم لاحتمال خروجهم عن السيطرة، تسعى اليوم إلى وأد الانتفاضة أو إبعاد المتظاهرين المستقلين الوطنيين وترك الساحات لمثيري الشغب من خلال اقتحام الميادين واستهداف قوات الأمن". وأوضح في اتصالٍ مع "العربي الجديد"، أنّ "عناصر المليشيات تريد أن تنال من الكاظمي من خلال استهداف قوات الأمن واستفزازها ودفعها لقتل المحتجين، وبالتالي إسقاطه عبر الساحات، وهذه الخطة المليشياوية ذكية، ولكنها مكشوفة ويدركها المتظاهرون، ولذلك يتعامل المحتجون مع المندسين والمخربين بهدوء، ويسعون لإبعادهم عبر فضحهم وليس الاقتتال معهم".