لن تكون الولاية الثانية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التي تنتهي في عام 2027، كما سابقتها (2017 ـ 2022)، التي حكم فيها بارتياح كبير، بفضل امتلاكه غالبية برلمانية وصلت إلى 350 نائباً من أصل 577، ولذلك تصرف كحاكم أوحد، وكان يكفي له أن يرسل القرار الذي يريده إلى البرلمان حتى تأتيه الموافقة بلا أي مشكلة.
حتى أن سلطة الأغلبية تحوّلت في يده إلى شكل من الديكتاتورية، التي شكلت لدى فئات من المجتمع الفرنسي رأياً عاما حول "غرور" الرئيس، الذي يتصف بنزعة فردية عالية، وإدارة الظهر إلى الشريحة الأوسع التي تحركت ضد سياساته الاقتصادية.
وعبّرت عن ذلك حركة "السترات الصفراء" التي ظهرت بعد عام من وصول ماكرون للرئاسة، ونزل محتجون من فئات مختلفة للشوارع في مايو/أيار 2018، وبقيت التظاهرات بصورة أسبوعية، كل يوم سبت حتى انتشار وباء كورونا في منتصف عام 2020. وكان أبرز شعاراتها إسقاط ماكرون، ومن مطالبها خفض الأسعار، ووقف سن قوانين ضريبية تمس الشرائح الأوسع وتنعكس لصالح الأغنياء.
وبلغت هذه الحركة من الشعبية حداً أنها انتشرت خارج فرنسا، وتم نسخها في بلجيكا المجاورة أولاً، ومن ثم في بعض بلدان أوروبا مثل ألمانيا، هولندا، بلغاريا، وصربيا، وتجاوزتها إلى العراق.
واستلهمت انتفاضة أكتوبر/ تشرين الأول 2019 روحية التحركات الفرنسية، وصعّدت من تحركاتها حتى أسقطت حكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي.
معادلة رئاسة ماكرون الثانية
اختلف المشهد في فرنسا في هذا العام، وما كان لماكرون أن يفوز بولاية رئاسية ثانية لو أنه نافس في الدور النهائي مرشحاً غير زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، التي واجهت تصويتاً "عقابياً" واسعا صب في رصيد ماكرون.
ولكن المعادلة تغيّرت وظهرت شعبية ماكرون الفعلية في الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية في 19 يونيو/حزيران الماضي، فتراجع رصيده عن انتخابات 2017، ولم ينل تجمع "معا" الرئاسي الذي يقف خلفه، سوى 245 مقعداً نيابياً.
وعلى الرغم من أنه جاء في الصدارة فهو لا يشكل أكثرية نيابية، والتي تحتاج إلى 289 مقعداً، وبالتالي وجد نفسه بعيداً عن الأدوات التي تؤهله للحكم بنفس الطريقة التي قاد بها البلد في الولاية الأولى.
الشارع الفرنسي المعروف بميله إلى مزاج المعارضة أحس بأنه تحرر من سطوة الحكم الفردي
وأول نتيجة لهذا الحدث هي أن الشارع الفرنسي المعروف بميله إلى مزاج المعارضة أحس بأنه تحرر من سطوة الحكم الفردي، الذي طبع الولاية الأولى لماكرون، الذي حظي في بدايتها باستقبال واسع من الرأي العام، وراهنت عليه فئات فرنسية، بوصفه شاباً حديثاً من فئة التكنوقراط يحمل رؤية لإحداث نقلة نوعية بفرنسا، من دون أن يسبب شرخاً من خلال التجاوز على الحقوق الاجتماعية في الصحة والتعليم والقدرة الشرائية.
النظرة العامة الراسخة عن ماكرون تتلخص بأنه يريد إرساء طريقة جديدة في السياسة، تعتمد على إدارة فرنسا كشركة كبيرة، وهذا يعود إلى خلفيته المهنية كموظف مصرفي لدى "روتشيلد".
وهدف هذا التوجه القطيعة مع منهج عمل يعتمد على تراث فرنسا في الإدارة، فهي البلد الذي اخترع المدارس العليا في الإدارة مثل المدرسة الوطنية للإدارة "إينا" التي تأسست عام 1945، والتي ألغاها ماكرون في العام الماضي، وأسس محلها "معهد الخدمة العامة"، وهناك المدرسة الفرنسية للخدمات العامة "بوليتكنيك" التي تأسست في 1794.
وثمة مثال صارخ على تفكير ماكرون في إدارة الأزمات يتعلق بمواجهة فيروس كورونا، إذ لجأ إلى التعاقد مع شركة أميركية، ما عرّضه لانتقادات واسعة.
وهناك من يعتبر أن هذا هو السبب الذي يقف وراء عدم إنتاج فرنسا لقاحاً للعلاج، وهي البلد الأول عالمياً في ميدان اختراع اللقاحات وصناعة الأدوية.
وناقش مجلس الشيوخ الفرنسي في يناير/كانون الثاني 2021 تقريراً يتحدث عن التعاقد مع شركة "ماكينزي" الأميركية من أجل الدعم في سياسة التطعيم ضد كورونا، وتحدثت الصحف الفرنسية عن صلة تربط ماكرون بهذه الشركة، التي تحوم حولها شبهات تقديم خدمات دعائية في حملته الرئاسية الأولى.
وظهرت نزعة رفض "الماكرونية" ليس فقط من خلال التصويت العقابي في الدورة الثانية للانتخابات التشريعية، بل أثناء جولة المداولات التي أجراها الرئيس الفرنسي مع الأطراف السياسية في البرلمان الجديد، من أجل البحث عن شركاء يساعدونه لتشكيل أغلبية برلمانية.
وكانت المفاجأة أن عروضه لم تحظ باستجابة من أحد، بل رفضها البعض بصورة حادة، خصوصاً حزب "فرنسا الأبية" بقيادة المرشح الرئاسية السابق جان لوك ميلانشون، الذي حلّ تجمّعه "نوبيس" الذي يتزعمه مع الاشتراكيين والخضر والشيوعيين واليسار في الترتيب الثاني برلمانياً بـ131 نائباً. ولم يشذ عن ذلك اليمين المتطرف المتمثل بـ"التجمع الوطني" بقيادة مارين لوبان الذي حاز 89 مقعداً نيابياً، بعد أن كانت تقديراته لا تتجاوز 40 نائباً.
وتبيّن من خلال قراءات سياسية في اتجاهات التصويت في الانتخابات، أن هذا الصعود الصاروخي لليمين المتطرف يعود إلى الحملة الإعلامية المركزة التي خاضتها وسائل إعلامية ضد ميلانشون، ورسم صورة مفزعة له على أنه يقود تحركاً "يسارياً إسلاموياً"، معتبرة أن ميلانشون يهدف إلى دعم الهجرة والدفاع عن المسلمين الذين يواجهون حملة واسعة واتهامات بالتطرف.
ولم يسبق لمثل هذه الحملة أن حصلت حتى من وسائل إعلام يملكها اليمين المحافظ واللوبي الإسرائيلي، وحتى من وزراء في حكومة ماكرون مثل وزير الداخلية جيرالد دارمانان، الذي يتحدر من أصل جزائري "حركي".
قليل من الهواء. هكذا علّق بعض الإعلاميين والسياسيين على تركيبة البرلمان الجديد التي فقد فيها ماكرون الأكثرية، والمعنى في ذلك أنها تتيح مجالاً للتنفس بعد أن كادت "أحادية" ماكرون تغلق المجال السياسي لحسابها.
وها هي القوى السياسية تجد أمامها فسحة للمناورة. وعبّر ذلك عن نفسه برفض جميع الأحزاب السياسية التي دعاها ماكرون لتشكيل ائتلاف، مما جعله يتجه نحو السيناريو الآخر، وهو الاتفاق مع كل حالة على حدة. وهنا تروج معلومات عن عروض تلقاها بعض النواب للانضمام إلى ماكرون الذي يحتاج إلى 44 نائباً ليحظى بأغلبية برلمانية.
الصعود الصاروخي لليمين المتطرف يعود إلى الحملة الإعلامية المركزة التي خاضتها وسائل إعلامية ضد ميلانشون
الامتحان سيكون يوم 5 يوليو/ تموز الحالي، حينما يتم طرح بيان وخطاب رئيسة الحكومة إليزابيث بورن أمام مجلس النواب الجديد من أجل نيل الثقة، وهو تقليد امتثلت له جميع الحكومات.
والمطلوب من رئيسة الحكومة إلقاء خطاب حول السياسة العامة أمام النواب، ويفترض أن يتضمّن برنامج الحكومة ورؤيتها لإدارة البلاد خلال السنوات الخمس المقبلة. ومن المعتاد أن تخضع الحكومة للتصويت على ثقة البرلمانيين.
ولهذا يسعى ماكرون لتجاوز هذه العتبة التي تمثل حاجزاً مهماً من الناحيتين السياسية والنفسية، فإذا نجح في ذلك يمكن له أن يضع خريطة طريق سياسية مع الذين منحوا الثقة لبرنامج الحكومة.
ويساعده ذلك على بدء التكيف مع وضعه الخاصة في التعامل مع موضوع الأكثرية البرلمانية بمعايير وأساليب مختلفة عن الطرق التقليدية المتعارف عليها، وهو ما مهد له بسلسلة من المشاورات بعد ظهور نتائج الانتخابات مباشرة، حين استضاف القوى الممثلة في البرلمان الجديد، وطرح عليها تشكيل ائتلاف وحدة وطنية.
دوامة ماكرون النيابية
ولم يتمكن ماكرون من الحصول على وعود بالتعاون إلا من بعض قادة تيار اليمين التقليدي في الحزب الجمهوري، الذي حصل على 61 مقعداً، وهو ما شكّل مفاجأة للأوساط كافة، لأن هذا الحزب كاد أن يتبخر من الحياة السياسية، واستخدمه ماكرون على نحو خاص بعد انتخابات 2017، حتى أن مرشحته للانتخابات الرئاسية الأخيرة فاليري بيكريس لم تحصل على نسبة 5 في المائة.
وإذ تبدي شخصيات في هذا الحزب تجاوباً للائتلاف مع ماكرون من أجل مساعدته على تشكيل أكثرية برلمانية، فإنها في الوقت ذاته تحاول أن تخترق مجاله السياسي، في محاولة للسيطرة عليه، ووراثة الحركة السياسية التي تسانده حين تنتهي ولايته الثانية.
وبالتالي يعود "الجمهوريون" إلى قلب اللعبة السياسية، بعد أن كان يشكل خزاناً لماكرون يستقطب منه الوزراء والكوادر بلا ثمن. وفي حين يساهم الجمهوريون في تطوير القوانين ويسهلون إصلاحات ماكرون، تبقى الإشارة إلى أنهم لا يشكلون كتلة واحدة فهم منقسمون، وهناك من يحمل أجندة تتعلق بالهوية والأمن والهجرة يريد أن يراها تتجسد في برنامج عمل الحكومة، ما يضاعف أحمال ماكرون ويعيق من حركته.
ستبقى السياسة الداخلية في يد رئيسة الحكومة، ولكنها ستخضع للنقاش نقطة بنقطة، وفي كل مرة يريد ماكرون تمرير قانون معين عليه أن يعود للبرلمان من أجل تكوين أكثرية تسمح بتزكيته.
أما السياسة الخارجية فستكون محل نزاع بين رئيس الدولة وزعماء الكتل البرلمانية، وذلك تبعاً لطبيعة النظام الفرنسي السياسي الهجين شبه الرئاسي الذي يوزع السلطات بين السلطات الثلاث: الدولة، الحكومة، والبرلمان.
وتزداد مخاطر الانقسام في ظل وجود أكبر كتلتين في صف المعارضة، الأولى اليسار التي يقودها ميلانشون، والثانية اليمين المتطرف التي تقودها مارين لوبان. وبالتالي ستكون السنوات الخمس بالنسبة لماكرون كلها مفاوضات وتسويات برلمانية.