تقع التيارات والقوى السياسية العربية المعنية بالقضية الفلسطينية، سواء تلك التي ترى في إيران حليفا موضوعيا للمقاومة الفلسطينية ولاعبا أساسيا في الصراع العربي الإسرائيلي، أو تلك التي ترى في إيران خطرا وجوديا على الأمة العربية وحليفا غير موثوق به للقضية الفلسطينية، في خطأ جوهري وهو انطلاق الطرفين من مقاربة سياسية غير دقيقة تعتبر إيران قوة إقليمية، وتتعامل معها بالتالي بناء على هذا الوهم.
في الأدبيات الأكاديمية لعلم العلاقات الدولية، نجد تمييزات دقيقة بين أن تكون دولة ما تمتلك تأثيرا جيوبولتيكيا في إقليمها الجغرافي، وبين أن تكون هذه الدولة قوة إقليمية تتوافر على جملة ميزات أهمها: وعي الدولة لذاتها على أنها قوة إقليمية، وأن تكون قادرة على ممارسة نفوذ مهيمن في إقليمها وتأثير كبير على النطاق العالمي، وأن تكون مقبولة من قبل جيرانها الإقليميين كدولة قائدة، وأن تكون مندمجة جيداُ في الإقليم وتساهم في تحديد أجندة الأمن الإقليمي إلى درجة عالية. لا تحقق إيران من جملة هذه الشروط إلا الشرط الأول المتعلق بصورتها الذاتية عن نفسها والتي تصدّرها دائما عبر أدواتها الإيديولوجية. إلا أن عوامل بنيوية جوهرية تتعلق بتركيبة الدولة الإيرانية تجعلها عاجزة عن التحول من مجرد قوة في الإقليم إلى قوة إقليمية قادرة على حسم رؤيتها الاستراتيجية في قضايا المنطقة الجوهرية كالقضية الفلسطينية.
لا يسعنا التطرق هنا إلى جميع هذه العوامل، ولكن يمكن أن نشير إلى أن الطابع الريعي للدولة الإيرانية يجعلها عاجزة بحكم قوانين التاريخ عن التحول إلى قوة إقليمية فاعلة ومستقلة. ما نقصده بالطابع الريعي هو اعتماد الموازنة الإيرانية على صادرات المواد الخام من النفط والغاز والأنشطة الاقتصادية غير الإنتاجية، إذ يشكل قطاع الخدمات مثلا في إيران أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي. الخاصية الأساسية للأنشطة الاقتصادية الريعية أنها تعتمد على التصدير بالسعر الذي تحدده الاحتكارات الرأسمالية الدولية، وبالتي فإن أي انخفاض في أسعار هذه المواد الخام المصدرة، ينعكس مباشرة على الأداء الاقتصادي لهذه الدولة وعلى دورها الاقليمي.
التجارب التاريخية أثبتت أن أي دولة ريعية تبقى عاجزة بنيوياً عن لعب دور قوة إقليمية مهيمنة في إقليمها الجغرافي، ولنا في تجربة فنزويلا خلال حقبة هوغو شافيز دليل تاريخي قريب على هذه الحقيقة. فبالرغم من الدور الإيجابي الذي لعبته فنزويلا في أميركا الجنوبية والوسطى، من خلال دعم مشاريع الرفاه الاجتماعي اعتمادا على ارتفاع أسعار النفط العالمية حينها، فإن هذه التجربة سرعان ما انهارت مع انهيار أسعار النفط العالمية وعجز حكومة فنزويلا والحكومات المتوافقة معها في الإقليم عن الاستمرار في تمويل هذه المشاريع الاجتماعية. الواقع ذاته تواجهه إيران حاليا، فسعيها للاستفادة من عوائد النفط لشراء ولاء القوى التابعة لها في المنطقة، أمر بات مهددا بشكل كبير مؤخرا مع انخفاض أسعار النفط العالمية وتراجع صادرات النفط الإيراني إلى ما لا يزيد عن 144 ألف برميل يوميا في مارس/آذار الماضي. الأمر الذي ينعكس مباشرة على أداء حركات المقاومة هذه المرتهنة للتمويل الإيراني.
على الصعيد السياسي، تنتج هذه الصيغة الريعية علاقات سياسية قائمة على التبعية والولاء وليس على التمثيل السياسي، فلطالما أن جهاز الدولة يمول نفقاته بنسبة كبيرة من الخارج، أي من عوائد التصدير وليس من الضرائب الناتجة عن الإنتاج الاجتماعي الصناعي والزراعي، فإن حاجة الدولة للمجتمع تبقى في حدود دنيا، وهو ما يمكّن الطبقة المسيطرة من ممارسة سياساتها بعيدا عن التمثيل الشعبي الحقيقي والاعتماد فقط على معايير الولاء والمحسوبية. وبما أن السياسة الخارجية لدولة ما لا يمكن أن تغاير بنيتها، فإن هذه الصيغة الولائية التبعية للريع الاقتصادي صدّرتها إيران في علاقاتها مع القوى السياسية، خاصة تلك التي يفترض أن هدفها مواجهة العدو الإسرائيلي. وهكذا، تحولت حركات مقاومة عديدة مثل المنظمات الفلسطينية المرتبطة بإيران وحزب الله، إلى حركات مقاومة ريعية، إن صح التعبير، لا تنظر إليها إيران بوصفها حليفا سياسيا بل تابعة وموالية، يمكن حرف بوصلة سلاحها وتوظيفها حيثما وأينما شاءت لخدمة طموحاتها الإقليمية، ولنا في الدور المليشياوي الذي يلعبه حزب الله والمنظمات الفلسطينية الممولة من إيران في الحروب والصراعات في سورية واليمن والعراق وغيرها خير دليل على ذلك، وهذا يصب في صالح إسرائيل، لأن تدمير البنى الاجتماعية في سورية ولبنان والعراق واليمن يفقد القضية الفلسطينية حليفها الموضوعي الأساسي، أي شعوب المنطقة.
إن وهم اعتبار إيران قوة إقليمية رسخته إسرائيل بدورها إعلاميا وسمحت لإيران نسبيا بما لا يضر بشكل جوهري بالأمن الوجودي لإسرائيل، بالتدخل في بعض البلدان العربية لترسيخ هذا الوهم. وبما أن السياسات لا تعرف بعلم الغيب بل بنتائج ومآلات الأمور، فمن الواضح الآن أن تضخيم الدور الإيراني قد أثمر لصالح إسرائيل، ودفع دولا عربية عديدة للتطبيع معها لدرء الخطر الإيراني، وهو ما يهدد حاليا القضية الفلسطينية في الصميم.