لم تدم فرحة أهالي إدلب والمعارضة السورية المسلحة التي سيطرت عليها وأخرجتها من سيطرة النظام في مثل هذه الأيام قبل ستة أعوام طويلاً، فسرعان ما دخلت المحافظة بدوامة جديدة من العنف، سواء بالقصف المتواصل من قبل النظام وحلفائه بالمدفعية والطيران، ومن ثم بدء العمليات العسكرية للسيطرة عليها بعد التدخل الروسي المباشر في البلاد، الذي أدخل المحافظة بمسارات تفاوضية، كانت أشبه باللعبة السياسية، لقضم أجزاء واسعة من إدلب ومحيطها، بهدف السيطرة عليها كاملة بشكل تدريجي.
"هيئة تحرير الشام" والإحراج التركي
بعد السيطرة على المدينة مباشرة عبر تحالف عسكري من فصائل المعارضة، عرف حينها بـ"جيش الفتح"، أخذت "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) تفرض نفوذها على إدلب، للتحكم بها مدنياً وعسكرياً، الأمر الذي شكّل ذريعة للنظام والروس والإيرانيين، بالتحرك للسيطرة عليها بحجة مكافحة "الجماعات الإرهابية"، ما أحرج الموقف التركي وفصائل المعارضة الأخرى المقاتلة في إدلب ومحيطها.
قبل بدء معارك المعارضة للسيطرة على مدينة إدلب، في آذار/مارس من العام 2015، كانت الأجزاء الجنوبية من المحافظة وحتى وسطها وجنوبها الغربي والشرقي تخضع بشكل كامل لسيطرة المعارضة، ولم يتبقَ من المحافظة سوى مركزها (مدينة إدلب) ومحيطها، ومدينتي أريحا وجسر الشغور، في الوسط والشمال الغربي منها.
وخلال معارك السيطرة على تلك الأجزاء المتبقية من المحافظة، تلقت المعارضة دعماً تركيا كبيراً، فبدأت المعارك بقطع خطوط الإمداد، ومن ثم سيطرت على قلب المحافظة (مدينة إدلب) وانطلقت بعدها للسيطرة على مدينة جسر الشغور ومحيطها، ومن ثم السيطرة على مدينة أريحا ومحطيها، وكل ذلك في زمن قياسي لم يتعدَ الشهرين.
التدخل العسكري الروسي
لم تمضِ سوى بضعة أشهر، على سيطرة المعارضة على إدلب، حتى جاء التدخل الروسي المباشر في سورية، في أيلول/سبتمبر من عام 2015، حينها بدأت روسيا حملة جوية تصاعدت بشكل تدريجي، طاولت كافة مدن محافظة إدلب وبلداتها. وفي نهاية عام 2016، ومع تعقد الحل السياسي للقضية السورية بشكل عام، أطلقت روسيا مسار أستانة التفاوضي للحل بصبغة عسكرية، شاركت فيه كل من إيران وتركيا، وفيما بعد تركز لمعالجة الوضع في إدلب التي يشار إليها بـ"منطقة خفض التصعيد الرابعة"، وتضم كامل محافظة إدلب، وأجزاء من أرياف حماة الشمالية والغربية، وحلب الغربية والجنوبية، بالإضافة إلى ريف اللاذقية الشرقي.
تبعت ذلك عدة اتفاقات بين تركيا وروسيا، سرعان ما نقضتها قوات النظام وميليشيات إيرانية وأخرى مدعومة من إيران في معارك بدأت في نيسان/إبريل من عام 2019، فقضم النظام وحلفاؤه بإسناد جوي روسي كامل جنوبي تلك المنطقة، وكانوا يتقدمون نحو عمق إدلب، لولا التدخل المباشر من قبل الأتراك إلى جانب المعارضة، وتوقفت المعارك باتفاق وقف إطلاق النار الذي أبرم في آذار/مارس من العام الماضي.
آلاف النازحين ووضع داخلي صعب
خلفت تلك المعارك مئات القتلى من المدنيين، وكانت الكارثة الكبرى هي خسارة حوالي 1.7 مليون نازح لمنازلهم التي هجروا منها نتيجة السيطرة على مدنهم وقراهم من قبل قوات النظام وحلفائها، لا يزالون يعانون ظروفاً صعبة في المخيمات الشمالية ومناطق النزوح، وباتت تركيا تحت ضغط المطالبة بالوفاء بالتزاماتها وبالعودة إلى "اتفاق سوتشي"، وتطبيق حدوده الجغرافية، ما يعني إبعاد النظام عن المناطق التي قضمها بدعم روسي وإيراني، سلماً أو حرباً.
ويشير الناشط المدني، محمد الحسيني، إلى أن الوضع الميداني في إدلب، مركز المحافظة ومحيطها، وما تبقى عموماً تحت سيطرة المعارضة، معقد للغاية، على عدة صعد؛ اقتصادياً ومعيشياً وخدمياً وحتى على الجانب السياسي، موضحاً في حديث لـ"العربي الجديد" أنه علاوة على "المشكلة التي سببها نزوح مئات الآلاف من الناس، ما أدى لتفشي البطالة والفقر وسط اكتظاظ سكاني كبير؛ تبرز مشكلة تفرد "هيئة تحرير الشام" بالتحكم في إدلب، ما سبب حالة من الضغط على الناس، سواء بعدم القيام باللازم حيال تسيير الشؤون الخدمية، ومصادرة الحراك الثوري ليكون تحت أعين القوى الأمنية للهيئة، أو متابعتها على الأقل.
ويضيف الحسيني، أن "ذلك جعل الحراك ضعيفاً أمام بوح الشارع برأيه حيال القضايا المهمة، سيما أن الهيئة باتت، بشكل أو بآخر، جزءاً من اتفاق إدلب بين الروس والأتراك، وهذا ما توضح من خلال حماية الهيئة للدوريات الروسية – التركية في إدلب"، مشيراً إلى أنه "رغم أن الهيئة باتت مؤخراً تميل لتحسين صورتها وتعديل سلوكها بشكل مختلف، بهدف تصدير نفسها للمجتمع الدولي، بوصفها جزءاً من الحل؛ فإن ذلك يتطلب منها تعديل سلوكها في الداخل".
ترتيب أوراق
لم تتحرك تركيا جدياً في إبعاد النظام بعد توقف المعارك وسط المطالبات الشعبية الكبيرة، لكنها بدأت بترتيب أوراقها وأوراق المعارضة العسكرية في إدلب بشكل أكثر تنظيماً، بما يضمن عدم تمدد النظام وحلفائه مستقبلاً في عمق إدلب، فعززت قواتها هناك بعد أن أبدى النظام مع الروس نوايا للتقدم والسيطرة على الطريق الدولية "أم 4"، كما عمدت تركيا إلى إعادة تنظيم المعارضة بتقريب "الجبهة الوطنية للتحرير"، كبرى فصائل إدلب، منها، استعداداً للاحتمالات المتوقعة.
وأمام ذلك، يبقى مصير المحافظة بعد أعوام من السيطرة عليها، ومن ثم خسارة أجزاء منها لصالح النظام، غامضاً، ينتظر جهوداً دولية وغربية إلى جانب الجهود التركية لحله بشكل كامل.