لطالما تساءل الفلسطينيون الذين لم يعاصروا النكبة عن مدى حتمية النكبة وعن إمكانيات تجنبها، فهل هي قدر لا مفر منه بحكم دعم المشروع الصهيوني دولياً ونتيجة تخاذل؛ ربما تآمر؛ النظام الرسمي العربي إقليمياً، أم كان بالإمكان أحسن مما كان، بكل الأحوال لا طائل يذكر من هذه الأسئلة ولا قدرة لنا على تقديم إجابات واضحة وحاسمة بشأنها، فلا قدرة لنا على تغيير مسار التاريخ. لكن المفارقة الحقيقية تكمن في إصرار البعض على التماهي مع التاريخ، أو مع بعض أحداثه وقراءاته، كما في تماهي البعض مع اعتبار النكبة قدراً حتمياً لا مفر منه ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
يعيش شعب فلسطين ذكرى النكبة يومياً منذ 74 عاماً، كما نخوض يومياً صراعاً فكرياً وثقافياً بين خطابين متناقضين، خطاب العجز والاستسلام من ناحية، وخطاب التغيير والتحرر الكامل والشامل من ناحية ثانية، وقد شاءت الصدف الجميلة أن تقدم لنا في شهر مايو/ أيار الماضي، المعروف فلسطينياً بشهر النكبة، نموذجاً حياً عن الممكن فلسطينياً. فقبل مايو/ أيار الماضي كان الحديث السائد يدور حول ضخامة المعوقات والكوابح التي تعوق استنهاض النضال الفلسطيني، والمرتبطة بحالة الانقسام السياسي والجغرافي فلسطينياً، ويمكن القول إقليمياً أيضاً، وكذلك تماهي جزء مهم من النظام الرسمي العربي مع المشروع الصهيوني عبر التطبيع؛ ربما التحالف؛ الرسمي أو غير الرسمي معه، وصولاً إلى طبيعة النظام العالمي المسيطر الحامي والداعم للاحتلال الصهيوني، لكن بقدرة شعب أصيل متمسك بحقوقه المستلبة، تحول مايو إلى نموذج مصغر عن الممكن الفلسطيني رغماً عن كل الظروف المحيطة بنا داخل فلسطين وخارجها.
فقد تغلبت انتفاضة الكل الفلسطيني في العام الماضي على الواقع السياسي والجغرافي المفروض قسراً بقوة الاحتلال الصهيوني وبالتنافس السلطوي فصائلياً، مكرسةً واقعاً جديداً موحداً بين جميع فئات شعب فلسطين وتجمعاته، كذلك حملت الانتفاضة معالم أولوية لهزيمة الاحتلال، عبر نجاح المقاومة الشعبية الفلسطينية في انتزاع انتصارات هنا وهناك، من الشيخ جراح وبلدة بيتا، ومن عملية نفق الحرية، وصولاً إلى مجال الميديا والإعلام والتوثيق. كذلك نجحت الانتفاضة أو المقاومة الشعبية في استعادة بعض من دور الفصائل النضالي في غزة تحديداً، وبشكل نسبي في الضفة أيضاً.
لم تكن انتفاضة الكل الفلسطيني أمراً ممكناً في مخيلة الغالبية العظمى من السياسيين والمثقفين، بل لم يكن الدور الشعبي عنصراً حاسماً وفاعلاً في ميزان القوة المتداول في هذه الأوساط، التي تنطلق غالبية تحليلاتها من مواقف دول العالم والإقليم، وهو ما كان يقودها إلى نتيجة واحدة، مفادها استمرار النكبة، وتوالي النكبات على المستوى الفلسطيني، وهو ما يعيدنا مرة أخرى إلى ذات الذهنية الانهزامية التي تعتبر النكبة ودولة الاحتلال وقوى الأمر الواقع الفصائلية والعشائرية على المستوى الفلسطيني، والنظم الاستبدادية والنهبية على المستوى الإقليمي والدولي، قوى ونتائج حتمية لا مفر منها مهما حاولنا رفض ذلك وتغييره، فتلك الذهنية الانهزامية كانت السبب في التخلي عن البرنامج الوطني الفلسطيني وعن برنامج حركة التحرر العربي عبر وهم البرنامج المرحلي بدايةً، وأوسلو لاحقاً، وهي ذات العقلية المبررة لقيام سلطة شكلية بوظيفة أمنية على جزء من أرض فلسطين، وهي ذات العقلية المنظرة لفصل حركة التحرر عن قواها الشعبية داخل فلسطين وخارجها، واستبدالها بعلاقات مشبوهة مع نظم طائفية واستبدادية وإجرامية لا تتوافق مع مشروع التحرر الشامل والكامل جغرافياً وسياسياً واقتصادياً، حتى اعتبرت العلاقة مع النظم المطبعة والمتحالفة مع حكومة الاحتلال الصهيوني دهاءً سياسياً.
طبعاً لم تنجح انتفاضة الكل الفلسطيني في تجاوز الذهنية الانهزامية حتى الآن، بل ما زالت تلك الذهنية مسيطرة على مجمل الساحة السياسية الفلسطينية، في أوساط قوى فلسطينيي الـ 48 الحزبية، ولا سيما المنخرطة في حكومة الاحتلال والمدافعة عنها في اجتماعات الكنيست، وكذلك في أوساط سلطة رام الله المعلقة بالوهم الأميركي والأوروبي، وفي أوساط سلطة حماس الباحثة عن أي شرعية ودعم إقليمي، حتى لو كان مصدره حكومات التطبيع والنظم الطائفية والإجرامية. ولا ننسى هنا القوى التي تدعي اليسارية والملحقة بقوة طائفية وعشائرية محلياً وإقليمياً، أو تلك الملحقة بسلطة رام الله الوظيفية. وعليه، ومن أجل تحويل انتفاضة الكل الفلسطيني إلى واقع ممكن ومسيطر على مجمل الساحة الفلسطينية، وربما الإقليمية، لا بد من القضاء على هذه الذهنية الانهزامية والمصلحية التي لا تضع الكتل الشعبية في حساباتها، فهذه الذهنية هي الداء الأخطر على مستقبل انتفاضة الكل الفلسطيني، وبالتالي هي الخطر الأكبر على استنهاض وتطور حركات التحرر فلسطينياً وإقليمياً.