أكدت السلطات القضائية في مدينة كارلسروه الألمانية تلقيها شكوى جنائية تقدمت بها مجموعة من المنظمات والمؤسسات، للتحقيق في مجازر النظام السوري المرتكبة في كلّ من الغوطة الشرقية وخان شيخون، باستخدام الأسلحة الكيماوية "غاز السارين".
وبحسب موقع زود دويتشه الألماني، فقد تم تزويد مكتب المدعي العام الاتحادي الألماني بمئات الصفحات من الأدلة والوثائق، التي تحتوي على "إعادة البناء الأكثر تفصيلاً للهجمات التي تمت بغاز السارين، والقيادات المسؤولة عن ذلك في الجيش السوري". ويضيف الموقع، "إن الشكوى تحمل شهادات جديدة لسبعة ناجين يعيشون في ألمانيا وآخرين يعيشون في الاتحاد الأوروبي". بالإضافة إلى وثائق قدمها منشقون عن النظام السوري يعيشون خارج سورية في الوقت الحالي.
ويكشف الموقع ذاته، أن جميع المشتبه بهم الواردة أسماؤهم في الوثائق المقدمة يعيشون في سورية حالياً، ولكن ذلك لا يمنع السلطات الألمانية من المضي في الدعوى المقدمة وفقاً للقانون الجنائي الدولي، حيث "تتمتع بعض الدول، بما في ذلك ألمانيا والسويد والنرويج، بولاية قضائية خارج أراضيها بشأن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية. ونتيجة لذلك، يمكن لهذه الدول إجراء تحقيقات في هذه الحالات حتى عندما لا يكون المشتبه به موجوداً على أراضيها ولا مقيماً فيها".
وكان "المركز السوري للإعلام وحرية التعبير" قد أصدر، اليوم الثلاثاء، بياناً صحافياً كشف فيه قيام مجموعة من المنظمات غير الحكومية، وهي "مبادرة العدالة" و"المركز السوري للإعلام وحرية التعبير" و"الأرشيف السوري"، بتقديم شكاوى جنائية، صباح الاثنين، "نيابة عن ضحايا استخدام الأسلحة الكيميائية إلى مكتب المدعي العام الاتحادي الألماني".
ونص البيان على أن التحقيقات التي أجرتها هذه المنظمات على مدى سنوات نيابة عن الضحايا تجمع أدلة كثيرة، تشير إلى أن الحكومة السورية هي المسؤولة عن ارتكاب الهجمات بغاز السارين، التي استهدفت الغوطة الشرقية في ريف دمشق في 21 أغسطس/آب من العام 2013، وخان شيخون في محافظة إدلب في 4 إبريل/نيسان من العام 2017. والتي أودت بحياة أكثر من 1400 شخص بينهم أطفال.
وبحسب البيان، فإن الحكومة السورية استخدمت "الأسلحة الكيميائية، كجزء من نمط أوسع من الهجمات المتعمدة والواسعة النطاق ضد المدنيين، في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة. وفي حين أن معظم الأسلحة الكيميائية المستخدمة خلال الصراع كانت عبارة عن ذخائر مضاف إليها غاز الكلور؛ فإن استخدام قنابل السارين قد تم من خلال برنامج مكثف برعاية الحكومة السورية للبحث والتطوير وإنتاج وتخزين غاز السارين، حيث لعب مركز (البحوث والدراسات العلمية السورية - SSRC)، وهو وكالة حكومية سورية، دوراً مركزياً في هذا البرنامج".
تحمل الشكوى شهادات جديدة لسبعة ناجين يعيشون في ألمانيا وآخرين يعيشون في الاتحاد الأوربي، بالإضافة إلى وثائق قدمها منشقون
وعن أهمية الدعوى المقدمة يقول ستيف كوستاس، كبير المسؤولين القانونيين في "مبادرة العدالة": "نحن على ثقة من أن الشكوى الجديدة وملف الأدلة المقدم يوم الاثنين سيدعمان التحقيق الجاري للمدعين الألمان". ويؤكد كوستاس أن "التعاون الدولي سيكون مفتاح الجهود الناجحة لمحاسبة الجناة"، ويضيف مطالباً "الدول، التي لديها أدلة على برنامج الأسلحة الكيماوية السورية والهجمات الكيميائية، أن تقدم تلك المعلومات إلى الدول ذات الاختصاص القضائي للتحقيق مع القادة والمسؤولين السوريين المتورطين ومقاضاتهم". وفي السياق ذاته، يرى مازن درويش، المدير العام والمؤسس للمركز السوري للإعلام وحرية التعبير، أن "سورية هي اختبار لجدية محاسبة مجرمي الحرب، والفشل ليس خياراً، وهذا ما يجعل لزاماً أن تتحد الجهود الدولية لكي تمنع الإفلات من العقاب من هذه الجرائم لضمان عدم تكرارها".
والدعوى التي تم التقدم بها بالأمس هي الثمرة الأولى لتعاون جماعي للمؤسسات الثلاث، بدأ منذ عام 2017 بالتحضير وجمع الأدلة والوثائق. وعن ذلك يقول محمد عبد الله، مسؤول قسم الحملات والمناصرة في "الأرشيف السوري"، لـ"العربي الجديد": "كان هناك تأخير، بسبب الصعوبات في البحث عن الشهود (المنشقين) ممن كانوا يعملون في المؤسسات التي كانت تقوم بصناعة هذه المواد الكيماوية، والذين كانوا شهوداً على عمل هذه المؤسسات في ذلك الوقت".
وعن مراحل سير الدعوى يقول عبد الله: "إن فريقاً من المحامين المختصين قام بالتنسيق مع المؤسسات الثلاث بالتواصل مع الضحايا وذويهم، ليقوموا بتمثليهم بشكل قانوني خلال الدعوى". حيث من المتوقع أن يفتح المدعي العام الألماني تحقيقاً رسمياً كخطوة أولى، يُصار بعدها إلى تحديد قائمة بأسماء مرتكبي هذه الهجمات والمسؤولين عنها، ليتم بعد ذلك إصدار مذكرات اعتقال بحق المسؤولين داخل النظام السوري ممن يقفون خلف هذه الجرائم.
ويؤكد عبد الله لـ"العربي الجديد" أن "هذه هي أول دعوى قانونية ضدّ مرتكبي جرم استخدام الأسلحة الكيماوية في سورية، والتي تعد من أخطر الجرائم على المجتمع وبناء السلام والعدالة"، وأنها تأتي بهدف "تعزيز الجهود الرامية لتوسيع الولاية القضائية للآلية الدولية المحايدة والمستقلة من أجل سورية، أو الدفع باتجاه إحالة ملف سورية إلى المحكمة الجنائية الدولية، أو إنشاء محكمة خاصة للتحقيق حول الجرائم المرتكبة فيها". ويرى عبد الله، الذي سبق له توثيق مجزرة الغوطة الكيماوية أثناء عمله مصوراً مع وكالة رويترز، أن الدعوى الحالية تمثل "جهوداً بسيطة لبناء العدالة، ولكنها ليست العدالة التي يستحقها الضحايا".
وبحسب دراسة نشرها "المركز السوري للإعلام وحرية التعبير" حول مجزرة الغوطة الكيماوية، يمكن حصر المشتبه بوقوفهم خلف المجزرة بالأسماء الآتية: بشار الأسد القائد العام للجيش والقوات المسلحة. اللواء ماهر الأسد شقيق بشار الأسد والقائد الفعلي للفرقة الرابعة، والذي يعتقد على نطاق واسع أن هجوم الغوطة الكيماوي كان بموجب أوامر شخصية منه. علي عبد الله أيوب وزير الدفاع الحالي. العميد غسان عباس رئيس الفرع 450 التابع لمركز البحوث والدراسات العلمية، والذي تم هجوم الغوطة بحضوره وإشرافه. اللواء علي ونوس وهو ضابط في اللواء 105 حرس جمهوري. العميد يوسف عجيب ممثل القصر الرئاسي ورئيس الأمن في مركز البحوث العلمية السورية. اللواء حامد طاهر خليل الذي كان رئيس إدارة المدفعية والصواريخ السورية وقت هجوم الغوطة، وتم الهجوم بحضوره وإشرافه. اللواء جودت صليبي مواس وهو ضابط في مديرية الصواريخ وكان حاضراً وقت الهجوم. اللواء عدنان حلوة من كبار ضباط اللواء 155 وكان من المشرفين المباشرين على الهجوم. العميد غسان غنام قائد اللواء 155 وقد كان حاضراً أيضاً ومشرفاً. اللواء طلال مخلوف قائد اللواء 105 حرس جمهوري، والذي كانت الأسلحة الكيماوية التي استخدمت في الهجوم مخزنة في مستودعاته.
من المتوقع أن يفتح المدعي العام الألماني تحقيقاً رسمياً، يُصار بعده إلى تحديد قائمة بأسماء مرتكبي هذه الهجمات والمسؤولين عنها
وتضيف دراسة أخرى للمركز ذاته أسماء أخرى تقف خلف مجزرة خان شيخون الكيماوية وهي: اللواء أحمد بلّول قائد القوى الجوية. اللواء سجيح درويش واللواء مالك حسن قائدا الفرقة 22. العميد محمد يوسف حاصوري قائد السرب 685، وهو الطيار الذي قام بتنفيذ الهجوم الكيماوي على خان شيخون بطائرته "قدس 1"، وقد كرّمه وزير الدفاع بعد الهجوم. ويجدر بالذكر أن معظم أصحاب الأسماء المذكورة فرضت بحقهم عقوبات من جهات مختلفة، أهمها الاتحاد الأوربي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.
وقد أكدت المؤسسات الثلاث على أن هذه الدعوى ما كان لها أن تبصر النور لولا "الجهود العظيمة التي بذلتها مجموعة كبيرة من السوريين، من صحافيين وناشطين وثقوا عبر كاميراتهم وهواتفهم هذه المجازر، وقدموا الأدلة والوثائق الكفيلة بتوفير أرضية صلبة للبدء بملاحقة مرتكبي هذه الجرائم أمام القضاء".
ويجدر بالذكر أن الدعوى الحالية تأتي بعد دعوى أخرى تم رفعها في وقت سابق من هذا العام، في كوبلنز الألمانية، بحق مسؤولين سابقين في الأجهزة الأمنية السورية بتهمة ارتكاب جرائم حرب تتعلق بممارسة التعذيب بحق مواطنين معارضين.
وسبق لـ"الأرشيف السوري"، بحسب محمد عبد الله، أن تقدم بدعويين منفصلتين في فرنسا وسويسرا بالتعاون مع منظمات أخرى ضد شركتين، وصدرت أحكام بمقاضاتهما بتهمة تصدير مواد (إيزوبروبانول)، التي تدخل في صناعة غاز السارين، إلى النظام السوري. وكشف عبد الله أن الأرشيف يعمل على التحضير لمقاضاة شركات أخرى تنتهك لوائح المواد الكيماوية المحظور تصديرها إلى سورية، وأضاف رداً على سؤال "العربي الجديد": "نعم نحن نقوم بالتحضير لدعاوى أخرى قانونية بالتعاون مع نشطاء ومنظمات سورية ودولية، على عدة قضايا ضمن الولاية القضائية العالمية، ودعم عمل الولاية الدولية ولجان التحقيق ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية".